كثير من الناس إذا ما دخلوا دكاناً لشراء قطعة قماش أو قميص أو ثوب أو حتى غطاءً لسرير وقبل تأمل الشكل واللون والمقاس، ينظرون بسرعة إلى اللاصقة التي تحمل مواصفات القطعة ليتأكدوا من أنها قطن مئة في المئة. وكثيرون يرفضون لبس أي شيء غير القطن لأسباب غالباً ما تكون مزاجية وإن “شابتها” أحياناً اعتبارات صحية.
هناك، في ما يبدو، حزب كبير للقطن، هذه السلعة التي تمثل فيما تمثل زراعة وصناعة، ترفاً وحاجة، نعمة ونقمة. ترى اسمها يقفز أينما كان من متاجر الألبسة إلى كتب التاريخ، ومن الحقول إلى عالم الموسيقى… إنه القطن، تلك الملحمة التي بدأت فصولها قبل نحو سبعة آلاف عام، وتغلغلت في صناعة تاريخ العالم منذ ثلاثة قرون.
فإلى حضارة القطن وصناعته وتجارته مع فريق التحرير…
في عام 1858م، عشية اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، وجه السناتور جايمس هنري هاموند من ولاية كارولينا الجنوبية رسالة إلى السناتور وليم سيوارد من نيويورك، يتحدى فيها قدرات الشمال الأمريكي على شن حرب على الجنوب. ومما جاء في الرسالة: “من دون إطلاق رصاصة، من دون استلال أي سيف.. يمكننا أن نجعل العالم يركع عند أقدامنا. ماذا سيحصل إذا قطعنا عن الشماليين القطن لثلاث سنوات؟ إن إنجلترا ستتداعى، وستجر معها العالم المتمدن كله. لا، لن تجرؤوا على شن حرب على القطن! ما من قوة بشرية على وجه الأرض تجرؤ على شن حرب عليه. القطن هو ملك”. ولا مبالغة في مثل هذا الكلام البليغ عن المكانة العظيمة التي يمثلها القطن، لا بل يمكن القول إنه مجرد إشارة إلى محطة واحدة من المحطات العديدة التي لعب فيها القطن دوراً بالغ العمق والتأثير في حياة الإنسانية وتاريخها.
فمنذ قرنين ونصف القرن، صار القطن النبات الأقوى نفوذاً في العالم على الصعد الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية. وبعدما بدا لبعض الوقت أن السكر والتبغ قد ينافسان القطن على مكانته الاقتصادية، تبدد هذا الوهم. ولا زالت أهمية السكر والتبغ تتراجع أكثر فأكثر في الاقتصاد العالمي، بينما يستمر القطن في التقدم على ما عداه. فما هو سر “خيط” الحياة كما الموت، المال كما الموسيقى، العبودية كما الحرية والمساواة؟
قطن قطن أينما كان
ما من إنسان على سطح الأرض إلا ويستعمل القطن يومياً بشكل من الأشكال، حتى ولو لم يسترعِ ذلك انتباهه. فهناك مئات المنتجات التي تحيط بحياتنا اليومية والمشتقة إما من خيوط القطن أو من بذوره.
وطالما أن نحو 50 في المئة من خيوط النسيج في العالم هي من القطن، فمن الطبيعي أن تسترعي هذه المادة انتباهنا في الملابس الخارجية والداخلية والجوارب والمناشف وأغطية الأسرّة. ولكن هناك مشتقات من نبتة القطن أقل إثارة للانتباه اليومي، مثل الأوراق النقدية (نحو 50 في المئة من الورقة الواحدة مصنوع من القطن)، والورق، والصابون، والخيام والعوازل المقاومة للماء.
وفي الواقع أن نحو 30 في المئة من زهرة القطن يذهب إلى صناعة النسيج، في حين يذهب أكثر من 60 في المئة منها إلى الدورة الغذائية. فمن بذور القطن يستخرج زيت للطعام. وتعالج بقايا البذور لتصبح علفاً للحيوانات، وإما أسمدة عضوية.
ولكن الانتصار الكبير للقطن زراعةً وصناعةً يعود إلى مجموعة فريدة من الخصائص التي يتمتع بها نسيجه دون غيره. فنسيج القطن لا يتسبب بأية حساسية للجلد أو للجهاز التنفسي، بخلاف غيره من الأنسجة المصنوعة من خيوط اصطناعية أو حتى من الصوف الطبيعي. كما أن القطن ناعم الملمس الأمر الذي يجعله مناسباً لصناعة الملابس الداخلية والجوارب الملامسة للجلد الحساس. ومن مميزات القطن نذكر ما يأتي:
–
يمكن للملابس القطنية أن تعمّر طويلاً إذا تم الاعتناء بها جيداً.
–
يمكن لخيوط القطن أن تختلط بالخيوط الاصطناعية مثل البوليستر والليكرا في صناعة نسيج مختلف.
–
تسمح خيوط القطن بامتصاص الماء خلال غسلها حتى أعمق جزيئات الخيط، الأمر الذي يسمح بتنظيفها تماماً.
–
يمكن للقطن المغسول أن يسترد شكله الجديد بواسطة الكوي عندما لا يزال رطباً قليلاً.
– يتقبل القطن الصباغ بكافة ألوانه.
–
يتقبل القطن طلاءه بمواد مختلفة، تجعله صالحاً لصناعات مختلفة منها ملابس رجال الإطفاء المقاومة للاحتراق، وأقمشة الخيام المقاومة لتسرب الماء.
–
القطن موصل جيد للحرارة بمعنى أنه ينقل الحرارة من بشرة الإنسان إلى الخارج، فيبقيه بارداً مرتاحاً في ملابسه.
–
يمتص القطن الرطوبة بشكل جيد، ويستطيع أن يحمل خمس وزنه من الماء قبل أن تظهر عليه علامات البلل.
–
لا يتأثر القطن بالشمس. وإذا تغيرت ألوان الملابس القطنية بمرور الوقت فهذا يعني أن الصباغ هو الذي تغير وليس القطن.
–
لا يحوي القطن أية مادة كيميائية عندما لا يكون مصبوغاً. فهو طبيعي مئة في المئة.
–
إن تطور صناعة القطن وحياكة نسيجه، أدى إلى ظهور أشكال مختلفة من نسيجه تناسب أوسع شريحة من الاستعمالات، بدءاً بالخفيف الشفاف مثل الشاش والموسلين وصولاً إلى الدنيم السميك والمتين الذي تُصنع منه بنطلونات الجينز والخيام. ويوجد اليوم في الأسواق التجارية ما يزيد على أربعين نوعاً من نسيج القطن الخاص بالملابس، ولكل منها ملمس خاص به واستعمال شبه محدد. ومن أشهر هذه الأنواع وأكثرها رواجاً نذكر:
–
الموسلين: واسمه يعود إلى مدينة الموصل في العراق، وهو قماش شفاف وخفيف يستعمل في الملابس النسائية وعلى شاكلة مناديل وأغطية رأس.
– الكاليكو: واسمه عربي الأصل أيضاً نسبة إلى مدينة كالكوتا في الهند. وهو أثقل بقليل من الموسلين ويحتمل زخرفته برسوم ملونة.
– المخمل: أفخر أنواع الأقمشة قاطبة. ظل لمئات السنين حكراً على الملوك وكبار الأثرياء، حتى أعطى اسمه للنخبة الاجتماعية في معظم المجتمعات: “الطبقة المخملية”.
– البركال: قطن سميك وناعم الملمس في الوقت نفسه بفضل حياكته الدقيقة (يتضمن 180 عقدة في الإنش المربع) يستعمل لصناعة الملابس والبذلات الرجالية.
– الأورغندي: قماش رقيق جداً يشبه الموسلين، لكنه متصلب نسبياً، تخاط منه ملابس المناسبات للسيدات.
– الفلانيلا: قماش قطني بسيط سميك نسبياً ولا يخلو من الوبر القصير الظاهر من خيوطه. يستعمل لصناعة الملابس الداخلية، وقمصان التي شيرت.
– الدمشق: قماش محاك من خيوط بألوان مختلفة وفق رسم معين. كان قديماً يستعمل لملابس الأثرياء، أما اليوم فصار شبه مخصص لأغطية الطاولات والأسرّة والستائر الفاخرة، واسمه من اسم العاصمة السورية التي أبدعت في صناعته.
–
الساتان: قماش محاك بدقة من خيوط رفيعة وممتازة، ناعم الملمس جداً ولمّاع. يستعمل للملابس وفي المفروشات المنزلية.
– الشاش: يصنع من خيوط غليظة نسبياً، لكن كثافة عقده قليلة جداً، فتعطيه شكله الخفيف والشفاف. يستعمل للملابس البسيطة في شبه القارة الهندية، وأيضاً في الطب لتضميد الجراح.
ومن الأنواع الأخرى يمكننا أن نذكر: ديمتري، داك، أوكسفورد، بيما، البوبلين، التافتا، الجيرسي، الشيني، اللون، والجاكارد وغير ذلك الكثير.
تاريخ القطن
عندما حطّ كريستوفر كولومبوس برحاله في جزر الباهاماس عام 1492م، أخذ عينات من القطن ليثبت لمواطنيه الإسبان أنه جال حول العالم ووصل إلى الهند عن طريق الغرب. ولم يخطر ببال الرحالة أن الذهب الأبيض كان قد غزا العالم ولم يعد حكراً على شبه القارة الهندية.
فحتى ذلك العصر، كان الاعتقاد السائد يقول إن موطن القطن هو بلاد الهند. ولهذا الاعتقاد ما يبرره، إذ تعود أقدم قطعة نسيج عثر عليها علماء الآثار حتى اليوم إلى إحدى القرى في باكستان، ويربو عمرها على سبعة آلاف سنة.
كما اكتشف علماء آخرون قطعاً من جوزات القطن في كوخ مكسيكي في وادي تكواكات تعود أيضاً إلى نحو خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وعلى الرغم من توافر الأدلة على أن القطن كان يزرع في الهند وباكستان قبل خمسة آلاف سنة، ليس مستبعداً أن يكون القطن قد نبت تلقائياً في البراري بين هذه البقع المتباعدة من الكرة الأرضية.
وورد ذكر القطن عام 1500 ق.م. في نشيد هندوسي اسمه “ريغ فيدا” يتحدث عن خيوط النول. أما الإشارة الأولى إلى الأزياء القطنية الأولى، فتعود إلى ما قبل 1300 سنة، عندما ارتدى الامبراطور أو-تي رداءً من القطن خلال تنصيبه على عرش الصين. وفي القرن الخامس قبل الميلاد كتب المؤرخ اليوناني هيرودوتس عن القطن الهندي يقول: “هناك توجد أشجار برية، ثمارها من الصوف الذي يفوق بجماله وجودته صوف الخراف، والهنود يصنعون ملابسهم من صوف الأشجار هذا”.
لم يتحول القطن سلعة يومية بين ليلة وضحاها، وقد خرج من مواطنه الأصلية في بلاد شبه القارة الهندية والمكسيك بالفتوحات العسكرية حيناً والهجرة أحياناً. فقد كانت حملات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد العامل الأول على انتقال زراعة القطن من الهند إلى بلاد الإغريق. فقرابة عام 300 ق. م. حمل جيش الإسكندر السلع القطنية إلى أوروبا القديمة. وحاول الأوروبيون زراعته، إلا أن الطقس في قارتهم لم يساعدهم على ذلك. بينما نجحت زراعته في البلدان الواقعة شرق المتوسط، خاصة تركيا وسورية، اللتين انضمتا إلى الهند كمصدر عالمي للقطن طوال القرون الوسطى. وقرابة عام 870م، أدخل العرب زراعة القطن إلى جزيرة مالطة حاملين معهم خبرتهم في غزله وحياكته.
وحتى القرن الثامن عشر، كان القطن من الكماليات، لا يرتديه إلا الحكام والأثرياء وتصنع منه المناسبات الرسمية. كان أغلى ثمناً بكثير من الحرير الطبيعي والصوف، وشهرته مرتبطة بالجهد الكبير الذي يتطلبه غزله وحياكته. ففي عام 1770م مثلاً، كان إنتاج 450 غراماً من نسيج القطن يتطلب ما بين 12 و14 يوماً من العمل، بينما كان يومان فقط يكفيان لإنتاج الكمية نفسها من الصوف.
وإلى المناخ الذي شكّل عائقاً أمام زراعة القطن في أوروبا، فرض الإنجليز حظراً شاملاً على تصنيعه في إنجلترا حتى منتصف القرن الثامن عشر، لأن أصحاب معامل الصوف تخوفوا من أن ينافس القطن منتوجاتهم. فضغطوا لاستصدار قانون عام 1720م يحظر صناعة الملابس القطنية وحتى بيعها، لكن هذا القانون لم يعِش طويلاً. ومع إلغائه عام 1736م، انتشرت آلات تصنيع القطن ولكن حُظر إخراجها من البلاد خوفاً من أن تتنافس المستعمرات مع الإنجليز في هذه الصناعات.
ولكن القرن الثامن عشر نفسه شهد من التطورات في زراعة القطن وصناعته ما يكفي لوضع هذه النبتة – السلعة في مصاف كبار اللاعبين على الساحة الدولية اللذين غيروا أسس السياسة والاقتصاد، فدخلت في “نسيج تاريخ الإنسانية” منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
القطن في العالم الجديد.. تاريخ من القهر
غالباً ما يكون الحديث عن المظاهر التي صنعت “نسيج التاريخ” مجازياً، لكن في حالة القطن، فإنه ساهم عن حق في “غزل” نسيج التاريخ الأمريكي بالمعنى الحرفي للكلمة. فبين القطن وأمريكا تاريخ طويل وأكثر من علاقة أرض وغلة. بينهما قصة موت وحياة، حرب وسلام، عبد وسيد. فعندما اكتشف كولومبوس العالم الجديد عام 1492م كان فيه قطن كما أشرنا. وكانت زراعته مرتبطة بسكانه الأصليين. وصار القطن قبل أي شيء آخر عاملاً رئيسياً في التطور الاقتصادي للأمة. إلا أن زراعته شكّلت أيضاً مصدر نزاعات عرقية وطبقية انفجرت في وقت لاحق حرباً أهلية.
زرع المستعمرون القطن في أمريكا أولاً لتصنيع الملابس محلياً. ولكن عندما اندلعت الثورة الاستقلالية ضدهم، كان القطن الأمريكي قد أصبح من الأهمية ما مكّن الثورة من استعماله سلاحاً استراتيجياً ضد إنجلترا، عندما حظروا تصديره كما حظروا استيراد الملابس الأوروبية.
كان القطن يزرع أولاً في كارولينا الجنوبية وجورجيا. ولكن تعاظم أهميته السياسية والاقتصادية، واختراع المحلج عام 1793م، ساهما في اتساع نطاق زراعته جنوباً وغرباً إلى ما صار يعرف باسم الحزام الأسود في ولايتي آلاباما والمسيسيبي، اللتين أصبحتا قلب “مملكة القطن”. وسمي بالحزام الأسود لأن اعتماد الملاكين والمزارعين في توسعة زراعتهم هذه كان بشكل أساسي على الأيدي العاملة الإفريقية التي كانت تعتقل في مواطنها وتنقل إلى أمريكا، حيث تستعبد وتسخّر في العمل على زراعة القطن في أوضاع بالغة السوء شكّلت على مدى أكثر من قرن فصلاً محزناً في تاريخ العالم الحديث.
ارتفع الإنتاج الأمريكي من مليوني باوند عام 1791م، إلى مليار باوند عام 1860م، حيث أصبحت أمريكا تنتج وحدها نحو 75 في المئة من القطن العالمي. وأصبح القطن في ذلك العصر العمود الفقري لاقتصاد أمريكا، إذ مثّل نحو نصف القيمة الإجمالية لصادراتها ما بين 1815 و 1860م. وعلى الصعيد الداخلي، فقد حقق ثروات طائلة للسكان البيض، وعزز استقدام الزنوج. وفاقم في تردي أوضاعهم الإنسانية في الولايات الجنوبية حيث زراعته، واللامساواة العرقية في الشمال، حيث مصانع غزله وحياكته. واتجهت البلاد بأسرها إلى حرب أهلية بين شمال يريد وضع حد لسياسة الاستعباد بعدما تجاوز عدد العبيد 53 في المئة من إجمالي السكان، وجنوب يرى من حقه توسعة مصادر ثروته اعتماداً على الزنوج.
اعتمد الجنوبيون على القطن للاحتماء من الحرب، لأن ثلاثة أرباع القطن المستخدم في صناعات الأقمشة في إنجلترا وفرنسا مصدره الجنوب الأمريكي. وكان ثلث السكان الإنجليز يعتاشون بطريقة أو بأخرى من صناعة النسيج، ونصف صادراتهم منه. لذا نشط الجنوبيون في ما صار يعرف لاحقاً باسم دبلوماسية القطن. ولكن هذه الدبلوماسية لم يكتب لها النجاح. فلا فرنسا دعمتهم، ولا إنجلترا تدخلت لصالحهم إلا أنها وفرت لهم بعض الدعم المالي فقط. فخسروا حربهم مع الشمال الذي ألغى الرق محرراً بذلك العاملين في زراعة القطن.
وتزايدت أهمية القطن في الاقتصاد الأمريكي من خلال مكننته. وإن كان اختراع المحلج عام 1793م قد أدى إلى ازدهار هذه الزراعة، فإن اختراع آلة لقطاف القطن عبر شفط أزهاره، تحل الواحدة منها محل الجهد المطلوب من مئة عامل، أدى إلى أزمة بطالة كبيرة، وهجرة آلاف المزارعين الجنوبيين إلى المدن بحثاً عن عمل. غير أن الزراعة بقيت على مكانتها الرفيعة. ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج القطن.
المحلج: الآلة التي عبثت بالتاريخ
أشرنا سابقاً أكثر من مرة إلى آلة المحلج، ولكن من دون الحديث عن الدور الكبير الذي لعبته في تغيير اقتصاد العالم وسياسته.
المحلج آلة بسيطة تفصل بذور القطن عن خيوطه بعد القطاف. وتتألف من اسطوانتين، الأولى وتضم صفاً من الأسنان الحادة، والثانية تحوي فرشاة من الأسلاك المعدنية الصلبة. وعندما تدور الأسطوانة الأولى، تدفع الأسنان القطن عبر ضلوع معدنية تاركة البذور وراءها. وتتولى الفرشاة كنس القطن بعيداً عن الأسنان.
كان الأمريكي الإفريقي الأصل إيلي وتني يسعى إلى التخفيف من الجور الذي يلحق بأبناء قومه العاملين في حقول القطن. فعمل على اختراع المحلج وتسجيله رسمياً عام 1693م، اعتقاداً منه أنه سيعتق الزنوج من أبشع أنواع الأسر. غير أن هذه الماكينة التي صارت تقوم بعمل يتطلب 50 رجلاً في حلج القطن، لم تؤد سوى إلى مفاقمة العبودية وانتشارها على نحو لا مثيل له. إذ إن تخفيض كلفة القطن كمحصول نهائي شجع على توسعة زراعته واستقدام المزيد من العمال لهذه الغاية.
واستوردت إنجلترا المحلج بسرعة، وضمته إلى آلة حياكة حديثة كان قد صممها قبل سنوات قليلة المخترع اركرايت، فانخفضت تكلفة إنتاج القطن فيها بشكل كبير، ووجهت ضربة قاصمة إلى القطن الهندي وإزاحته عن مكانته التاريخية في الأسواق، في مقدمة لمزيد من إحكام السيطرة على الهند واستعمارها بالكامل لاحقاً.
بقي المحلج من أدوات التفوق البريطاني على المستعمرة الهندية نحو قرنين من الزمن. إلى أن قاد المهاتما غاندي ثورته الاستقلالية ضد بريطانيا. وقد تميزت هذه الثورة بطابع اللاعنف الذي دعا إليه غاندي. وهنا دخل القطن سلاحاً فاعلاً في المواجهة مع الاستعمار.
دعا غاندي شعبه إلى مقاطعة الأقمشة البريطانية. فقام ملايين الهنود بإحراقها في الساحات العامة، وامتنع الجميع عن شرائها. وفيما دبّت الفوضى في المصانع الإنجليزية، انصرف الهنود إلى حياكة نسيجهم بأنفسهم يدوياً. ومارس غاندي نفسه غزل القطن قدوة لشعبه المطالب بالاستقلال. وخلال تلك الانتفاضة رسم حزب المؤتمر الهندي علماً جديداً للبلاد. وكان العلم في صيغته الأصلية مؤلف من ثلاثة ألوان: البرتقالي والأبيض والأخضر، ويحمل في وسطه صورة مبسطة لنول قطن، رمزاً للصناعة الوطنية التي انتصرت على الاستعمار. ولكن بعض المسؤولين في الحزب، استبدلوا لاحقاً صورة النول برسم أبسط دائري ومخطط من الداخل، يرمز إلى درع الفاتح أشوكا مؤسس الامبراطورية الهندوسية القديمة. ويُقال إن غاندي اغتمّ عندما رأى العلم الجديد وقد خلا من صورة نول القطن، وقال: “مهما كان هذا التصميم الجديد فنياً، يجب علي أن أرفض تحية علم يحمل مثل هذه الرسالة”.
القطن العربي في مصر
“نوّرت يا قطن النيل.. يا حلاوة عليك يا جميل”..
تكشف هذه الأغنية المصرية التي غنّاها سيد درويش قبل مئة عام، علاقة المصريين بالقطن، وحبهم له، وما يمثله بالنسبة إليهم بدءاً بزراعته وصناعته وانتهاءً بالجلباب القطني الذي يرتديه المصري في حياته اليومية.
يُقال إن قدماء المصريين عرفوا زراعة القطن.. ولكن لا إثبات على ذلك. فالمؤكد من التاريخ القديم أن نسيج القطن عُرف في عصر البطالسة فقط (200 سنة ق.م.)، وكان يستخدم للزينة ويعرف باسم “صوف الحرير” وهو الاسم المستخدم حالياً باللغة الألمانية (Baumowlle). أما زراعة القطن في العصر الحديث فلم تبدأ إلا في عهد محمد علي وتحديداً في أواخر العقد الثاني من القرن التاسع عشر. ويُروى أن أحد الفرنسيين ويُدعى “مسيو جوميل” شاهد ذات مرة نبتة قطن في بيت أحد المصريين، كانت مزروعة فيه للزينة، فأعجب بمواصفات تيلته الطويلة. وكان جوميل هذا قد سافر سابقاً إلى أمريكا، وحاز معرفة مهمة بشؤون القطن وزراعته. فاقترح على محمد علي باشا زرع مساحة صغيرة من القطن بالقرب من مسلّة مصر الجديدة.
كان القطن القليل المزروع في مصر آنذاك من النوع المعروف بـ “البلدي”. وكان الأوروبيون بحاجة إلى نوعية أفضل. وفي عام 1818م، عرضت على محمد علي شتلات من الفصيلة الحبشية المسماة “موهو”، فاعتمدها، وزرع حقلاً صغيراً. وفي عام 1820م صدّرت مصر ثلاث بالات من القطن إلى ميناء تريستا، وبيعت في فرنسا بسعرٍ عالٍ جداً. الأمر الذي شجّع حاكم مصر على توسعة زراعته، موكلاً أمر الإشراف عليها للفرنسي جوميل، وبدأت الأموال تتدفق على الخزينة المصرية بشكل لم يسبق له مثيل.
قويت هذه الزراعة بسرعة. وبعدما احتكرها محمد علي باشا لبعض الوقت، كسر سعيد باشا الاحتكار، فتعدد المزارعون والسماسرة، وأنشئت بورصة للقطن في الإسكندرية. وظلت مصر نحو قرن أهم مزرعة قطن لإنجلترا. وحفاظاً على جودته العالمية ومواصفاته الممتازة أصدرت الحكومة المصرية عام 1926م قراراً يحظر خلط بذور القطن، ويفرض مراقبتها والإشراف عليها.
بلغ القطن المصري ذروة أهميته كماً في الخمسينيات من القرن الماضي. إذ احتل آنذاك نحو 21 في المئة من المساحة الزراعية، ومثّل 40 في المئة من قيمة الإنتاج الزراعي، ونحو 70 في المئة من مجموع الصادرات المصرية. غير أن مساحة زراعة القطن بدأت بالتقلص منذ آنذاك. فقد انخفضت من 21 في المئة عام 1952م إلى 18 في المئة عام 1960م، ثم إلى 11 في المئة عام 1980م، وأخيراً 3.7 في المئة فقط من إجمالي المساحة الزراعية في مصر عام 2000م. ولكن هذا التراجع على صعيد الكم لم يؤثر في شيء، ولحسن الحظ، على النوعية التي بقيت من الأفضل في العالم. وأخيراً تم اعتماد شعار خاص بالقطن المصري عن طريق استقدام عروض من عدة مصممين عالميين. وتم الترويج لهذا الشعار على الصعيد العالمي ليصبح شهادة معروفة للجميع تحملها المنسوجات والملابس والمفروشات المصنوعة من قطن مصري بنسبة 100 في المئة. والمتتبع للقطن في الذاكرة المصرية لا بد أن يلحظ حضوره في بعض الأعمال السينمائية مثل فيلم “الأرض” ليوسف شاهين، وفي الأغاني مثل أغنية سيد درويش التي أشرنا إليها سابقاً. غير أن حضوره الأقوى يبقى في أغاني الفلاحين وأمثالهم. في ملابسهم وجلابيبهم وأغطية رؤوسهم. فحياتهم كلها تبقى على صلة وثيقة بالقطن.
وفي سورية
على عكس ما حصل في مصر من انكماش في مساحات زراعة القطن، توسعت هذه الزراعة في سورية بشكل هائل خلال العقود الثلاثة الماضية. وارتفع إنتاج القطن من 378 ألف طن عام 1970م إلى 423 ألف طن عام 1990م، ثم قفز إلى 604 آلاف طن عام 1995م، ووصل في عام 2001م إلى مليون طن، وصارت سورية تحتل بذلك المرتبة العاشرة عالمياً في زراعة القطن.
يزرع القطن في سورية في ناحيتين: في الغرب ما بين حماه وحلب مروراً بريف إدلب. وفي الجزيرة ما بين الحسكة والرقة وجنوب دير الزور وتمتد زراعته هناك شرقاً حتى الحدود العراقية. وتقول المصادر الاقتصادية إن 20 في المئة من سكان سورية البالغ عددهم نحو 18 مليون نسمة يعتمدون على زراعة القطن وتسويقه والصناعات والخدمات الأخرى المرتبطة به بصورة كاملة أو جزئية.
وتضطلع “مؤسسة الأقطان” التابعة لوزارة الاقتصاد بمهمة شراء القطن وبيعه محلياً وخارجياً. إذ تشتري الكيلو الواحد من المزارعين بنحو 30.75 ليرة سورية (لعام 2001م) أي ما يعادل 66 سنتاً أمريكياً. ومن أصل كل مليون طن يتوقع إنتاج نحو 350 ألف طن من القطن المملوج، و625 ألف طن من البذور للصناعات المختلفة.
ويحتل القطن المركز الثاني في الصادرات السورية بعد النفط، إذ يُصدّر منه نحو 210 آلاف من القطن المملوج إلى الأسواق العالمية، وتستهلك سورية نحو 140 ألف طن محلياً في صناعة تنمو بشكل لافت منذ عقد ونصف العقد من الزمن. إذ سمحت الحكومة للقطاع الخاص منذ عام 1991م بالاستثمار في مجال الغزل مما أدى إلى إنشاء نحو 100 مصنع، تبلغ استثماراتها نحو 675 مليون دولار. وإلى ذلك تستثمر الحكومة نحو 600 مليون دولار في بناء مصانع غزل جديدة، أو تطوير المصانع القائمة التي لا تزال تعمل منذ عدة عقود.
أفريقيا والقطن
والقطن في أفريقيا، كما هو حال أشياء كثيرة في هذه القارة، قضية وهمٌّ أكثر مما هو مصدر ثروة ورخاء. فقد انهار قبل عدة أشهر اجتماع مهم لمنظمة التجارة العالمية في كنكون في المكسيك بين الدول الغنية والدول الفقيرة بعد تحضيرات مهمة سبقت انعقاده. وكان القطن في صلب النزاع الذي أطاح بالاجتماع، بعدما سعت أربع دول أفريقية تزرع هذه النبتة، وهي بنين وبوركينا فاسو ومالي وتشاد، إلى جعل قضيتها المحقة في صلب المناقشات.
وملخص هذه القضية يكمن في أن الولايات المتحدة تدعم زراعة القطن فيها، ووصل حجم هذا الدعم إلى أربعة بلايين دولار توزعت على 25 ألف مزارع أمريكي. الأمر الذي أدى إلى انخفاض الأسعار بشكل قاتل للمزارع الأفريقي الذي بات عملياً عاطلاً عن العمل.
وقال تقرير للبنك الدولي إن الفشل في التوصل إلى تسوية مع المزارعين الأفارقة في خصوص المساعدات الأمريكية المقترحة، بدد فرصة كبيرة في تحرير نحو 150 مليون أفريقي من الفقر. ففي بوركينا فاسو، حيث يعمل نحو مليون شخص في زراعة القطن وخدماته، كان هذا الإنتاج كما هو الحال في مالي وبنين، بارقة الأمل الوحيدة في الاقتصادات الكئيبة لهذه الدول. غير أن بارقة الأمل هذه تبددت أخيراً بعدما أغرق القطن الأمريكي الأسواق والأسعار أيضاً. ومع ذلك، لا يزال الأفارقة يطلقون على قطنهم لقب “الذهب الأبيض”، ربما من باب التهكم، وربما من باب الأمل بمستقبل أفضل.
——————————————————————————
القطن النبتة
يزرع القطن في المناطق المعتدلة مناخياً الممطرة شتاءً والجافة صيفاً. إذ إن الحرارة المُثلى لخروج النبتة فوق سطح التربة تتراوح ما بين 24 و 28 درجة مئوية. ويكون الإنبات بطيئاً عند 17 درجة مئوية، ويتوقف تماماً عند 15 درجة وما دون. أما النمو (بعد الإنبات) فيتطلب درجات حرارة تتراوح ما بين 25 و32 درجة مئوية. وعند وصول الحرارة إلى 37 درجة مئوية يتوقف نمو الساق والفروع.
تبدأ نبتة القطن بالظهور بعد زرع البذور بخمسة إلى سبعة أيام. وتظهر أولى براعم الأزهار بعد خمسة إلى سبعة أسابيع حسب طبيعة الأرض وحرارتها.
تتساقط الأزهار بعد ثلاثة أيام على تفتحها، تاركة وراءها جوزة فيها بذور. وقد درج الأولاد في المناطق التي يزرع فيها القطن في الولايات المتحدة الأمريكية على إنشاد أغنية لأزهار القطن تقول:
“اليوم الأول بيضاء،
اليوم الثاني حمراء،
وفي اليوم الثالث أموت..”.
وتتكاثر زهرات النبتة الواحدة خلال أشهر الصيف، ويصل ارتفاع النبتة في حده الأقصى إلى متر ونصف المتر (أما أشجار القطن البرية فيمكن أن يتجاوز ارتفاعها ثلاثة أمتار). وبعد ستة أشهر تقريباً على زرع القطن يحين موعد قطافه. وقديماً، كان القطن يقطف باليد، إذ كان القاطف يجمع الجوزات الناضجة ويضعها في كيس. لكن هذه الطريقة لم تعد مستخدمة إلا في مناطق قليلة. إذ صار القطاف يتم بواسطة الآلات المزودة بأنبوب يتولى شفط الجوزات الناضجة.
وبعد القطاف، يُنقل المحصول إلى المصانع، حيث يوضع في ماكينة خاصة تسمى المحلج، لها أسنان معدنية تتولى نزع البذور عن خيوط القطن. إذ يوجد في كل جوزة ما بين 30 و 40 بذرة. وقبل اختراع المحلج، كان الإنسان ينزع بذور القطن يدوياً، وهو ما يعد عملية شاقة.
وتستكمل عملية الحلج بعملية تنظيف أخيرة تهدف إلى إزالة الشوائب والمواد الغريبة التي توجد دائماً مع البذور قبل تخزينها. ثم يجمع القطن في بالات وينقل عبر التجار إلى المصانع التي تغزله خيوطاً.
————————————————————
البالة
عندما يخرج القطن من مصانع الحلج يوضب في رزمات كبيرة تدعى بالات (بالإنجليزية Bala). والبالة هي وحدة القياس في وزن القطن وتعادل 227 كيلوغراماً.
ومن بالة قطن واحدة يمكن لمصانع النسيج أن تصنع: 429 شرشف سرير، أو 765 قميص “تي شيرت”، أو 2,104 سراويل داخلية للرجال، أو 4,321 زوجاً من الجوارب أو 681,000 عود لتنظيف الأذنين.
———————————————————
قطنيات..
كلمة قطن المستخدمة في اللغات العالمية مشتقة من العربية. غير أنها كانت تعني في الأصل كل نسيج ناعم وجيّد.
القطن أقصر خيط تجاري يستخدم في صناعة النسيج.
يزرع القطن اليوم في 90 دولة تقريباً. 75 منها من الدول النامية.
يمثل إنتاج الصين والولايات المتحدة والهند وأوزبكستان وباكستان نحو 80 في المئة من الإنتاج العالمي.
تنتج مصر والولايات المتحدة وأستراليا على التوالي أفضل أنواع القطن.
69 في المئة من المنتوجات القطنية تدعمها الحكومات حول العالم. ففي عامي 1999 و2000م قدّمت الحكومة الصينية 1.5 بليون دولار مساعدات مباشرة لقطاع القطن، والولايات المتحدة دعمت هذه الزراعة بأربعة بلايين دولار عام 2004م.
في الستينيات من القرن الماضي، باعت شركة «ليفايس» الأمريكية ملابس جاهزة من قمصان وبنطلونات «جينز» بما يعادل 46 مليون دولار. أما في عام 1979م فقط فقد وصلت مبيعاتها إلى نحو بليوني دولار.
حيك قماش «الدنيم» لأول مرة في القرن السادس عشر في مدينة نيم الفرنسية. وكان البحارة في مدينة جنوى أول من صنع منه سراويل لارتدائها في العمل. وكلمة «جينز» الإنجليزية الرائجة اليوم، تعود إلى اسم المدينة الإيطالية باللغة الفرنسية (Genes).
تتبدل الأسعار العالمية للقطن سنوياً وتعتمد على عوامل عديدة منها وضع الاقتصاد العالمي، والسياسات الزراعية والموضة وأسعار الخيوط الاصطناعية والطقس والكوارث الطبيعية والعرض والطلب.
و.. قطنيات
كثيراً ما يستخدم القطن أو القطني كصفة للتعبير إما عن الملمس أو الشكل أو اللون. وذلك بدءاً بوصف الثلج الكثيف المتساقط بأنه كالقطن. وقد أطلق اسم القطن على زهرة جميلة بسبب ملمسها، وعلى شجرة، كما تسمى حلوى غزل البنات بحلوى القطن في الغرب (Cotton Candy).
—————————————————
الشقاء يولّد شجناً
ليست صدفة أن يرتبط اسم أشهر نادٍ لموسيقى الجاز في العالم بالقطن، ولا عن عبث اختار المخرج فرنسيس كوبولا الاسم نفسه لفيلمه الشهير. فبين الزنوج الأمريكيين وموسيقى الجاز والبلوز علاقة وطيدة. لا بل انهم أسياد هذه الموسيقى، ولدت من معاناتهم وخيبتهم، وتطورت وغزت العالم مع تحررهم وفك قيودهم. أما القطن فلم يكن يوماً بالبعيد عن معاناة الزنوج، لا بل كان شريكاً رئيساً فيها، كما كان ملهماً لكثير من القصائد والموسيقى التي شكلت متنفساً وحيداً في نهارات “الأشغال الشاقة” الطويلة في الحقول البيض، والتي تطورت لاحقاً إلى نوع جديد مميز من الفن الأميركي.
فخلال القرن التاسع عشر، كانت الموسيقى في الجنوب الأمريكي جزءاً متمماً من حياة الزنوج ذوي الأصول الإفريقية. وباتت أغاني الحقول والأناشيد الزنجية جزءاً من الحياة اليومية للاحتفال أو النحيب أو التسلية أو حتى لتخفيف معاناة العمل وكسر رتابته. ولا أحد يعرف بالضبط متى ظهرت موسيقى البلوز. كل ما نعرفه أنها موسيقى ابتكرها الزنوج الأمريكيون، وانتشرت أول ما انتشرت في المنطقة الواسعة الممتدة من جورجيا مروراً بغابات لويزيانا وصولاً إلى تكساس.
ولم تكن تلك الأغاني الميدانية أغاني تصاغ أو تؤلف على إيقاع واحد، فكان لقطف القطن مثلاً إيقاع خاص. فكان العمال يطورون إيقاعاً منتظماً ثم يرتجلون كلمات ملائمة. وغالباً ما ظهر المنهج نفسه في أغاني البلوز التي تطورت مطلع القرن العشرين. فقد جسَّد البلوز كلاً من الأساليب الايقاعية للأغاني الزنجية الحقلية كما الأمور التي تطرقت إليها تلك الأغاني لينبثق منها هذا الصوت الفريد.
أما المسقط الرئيس لـ”البلوز” فكان “مملكة القطن”، وتحديداً دلتا الميسيسيبي والحزام الأسود في آلاباما حيث عاش غالبية رواد هذا الفن، حتى أن كثيرين منهم بدأوا مهنتهم الموسيقية هناك بمن فيهم بي بي كينغ ومادي ووتز.
ومع تحرر العبيد، تطورت الموسيقى الأفريقية – الأميركية بسرعة، وساهم توافر الآلات الموسيقية الجديدة في ظهور موسيقى الجاز. وهكذا، فرض البلوز الذي يبدو شكلاً موسيقياً بسيطاً نفسه على أنواع موسيقية عدة، وشكل جزءاً رئيساً من كل أنواع الجاز. فموسيقى الروك والسول لم تكن ممكنة من دون البلوز، الذي ولد أصلاً من معاناة الزنوج في حقول القطن وغيرها.
ومن هذه العلاقة بين الموسيقى والقطن والزنوج، ابتكر أوني مادن، وهو من رجال عصابات نيويورك فكرة تسمية ناديه الذي شهد عصراً ذهبياً للجاز: “الكوتون كلوب” أي نادي القطن. فاشترى نادياً كان اسمه “دولوكس” واختار له هذا الاسم ليذكر بمحيطه الزراعي. ولتعزيز هذه الدلالة، حرص على أن يكون جميع مقدمي العروض والمغنين والممثلين من السود، بينما كان جميع الضيوف والمسؤولين من البيض مع استثناءات نادرة جداً. ويذكر النادي بحقول القطن، حيث كان الأسياد بيضاً والعمال من السود.
وشكلت سياسة “للبيض فقط” عامل جذب لمحبي السهر ليس من نيويورك فحسب بل من سائر أنحاء العالم.
ومع استضافته أبرز المغنين السود وأكثرهم موهبة، اجتذب النادي كبار المشاهير بين زبائنه، بمن فيهم بينغ كروسبي وجيمي دورانت وفاني برايس وايرفينغ برلين وكول بورتر ودوروتي كيلغالين ودوريس ديوك إلى جانب الهولندي الشهير شولتس. كما شهد النادي انطلاقة عدد كبير من المغنين السود، بينهم ديوك الينغتون وايتيل ووترز وكاب كالواي ودوروتي داندريدج وايفون لونغ ونيكولاس برازورنز.
كان “الكوتون كلوب” بالتأكيد المكان المناسب لجميع الضيوف والمغنين. لم يعتبر ذلك النادي “ارستقراطي” هارلم فحسب وإنما تربع على عرش علب الليل كلها. وحدهم الأثرياء، والأكثر نفوذاً والمشاهير ورجال العصابات أيضاً ذهبوا إلى هناك أو بالأحرى كان في إمكانهم الذهاب إلى هناك، فالنادي لم يعط فقط الفرصة لزبائنه بمجالسة المشاهير ورجال العصابات، بل كان يوفر لهم التمتع بأجمل الديكورات وأطيب المأكولات وأجمل العروض. فكان القطن فأل خير على النادي والجاز.
——————————————————
خنفساء القطن
شكلت خنافس القطن أحد أكبر التهديدات لنجاح زراعاته في أمريكا الوسطى والمكسيك. وتضع هذه الحشرة بيوضها داخل جوزة القطن، وتتولى الخنافس الصغيرة التهام الجوزة بكاملها. وفي أواخر القرن التاسع عشر، ألحقت خنافس القطن خسائر ببليون دولار في محاصيل القطن في أمريكا. وكان هذا الغزو مصدر إلهام لأغنية شعبية لا يعرف أصلها تحديداً، إلا أن الشاعر كارل ساندبرغ أداها في العشرينيات من القرن الماضي بصيغة تظهر الصراع ما بين المزارع والخنفساء. فكلاهما يبحث من خلال القطن عن منزل. ومما جاء في الأغنية:
“المرة الأولى التي رأيت فيها خنفساء القطن الصغيرة
كانت في الحقول الغربية
المرة التالية التي رأيت فيها الخنفساء
كانت تستقل قطاراً إلى مدينة ممفيس
كانت تبحث عن منزل
فقط تبحث عن منزل
عندما رأى المُزارع خنافس القطن
كانت على كراسيها الهزازة
المرة التالية كانت في حقوله المزروعة
كانت عائلتها كلها هناك
تقيم لها منزلاً. نعم تقيم لها منزلاً
(…)
حصل التاجر على نصف القطن
وخنافس القطن حصلت على البقية
لم تترك لزوجة المزارع الفقير
إلا ثوباً قطنياً قديماً واحداً
مملوءاً بالثقوب، كله ثقوب”.
————————————————————————
1
اقرأ عن القطن «القطن»
لم يلقَ القطن بحد ذاته الاهتمام الذي يستحقه في المكتبة العربية، إذ نجد بعض الحديث عنه في الكتب التي تتناول الزراعة بشكل عام خاصة في مصر وسورية، أو صناعة النسيج أو اقتصادات البلدين.
ومن المؤلفات القليلة الخاصة بالقطن التي يمكن إدراجها في إطار التثقيف العام نذكر كتاب “القطن” للدكتور حسين علي موصلي. وهو الأول من نوعه بالعربية من حيث الشمولية، وتغطيته بشكل كامل زراعة القطن ومقاومة آفاته والتعامل مع بذوره بعد حلج ثماره.
ولأن المؤلف خبير في الصناعات الغذائية، فقد توسع في تناول زيت القطن وطرق تحضيره ليصبح بديلاً صحياً للسمن الحيواني. كما ضمنه جوانب الصناعات الغذائية القائمة عليه كافة مثل الزبد النباتي والقشدة النباتية، وصولاً إلى تصنيع “الكسبة” من تفل بذوره لتكون رديفاً مناسباً في أعلاف الحيوانات الحلوب.
وعليه فإن هذا الكتاب الصادر عن “دار علاء الدين للنشر والتوزيع” في دمشق يتوجه إلى المزارعين والصناعيين وطلاب كليات الزراعة، وأيضاً إلى كل الراغبين بمعرفة المزيد عن القطن من دليل علمي مناسب وموثوق به.
2
متاحف القطن
أنشئت في الولايات المتحدة متاحف عديدة للقطن تخليداً لذكرى هذه الزراعة التي اضطلعت بدور في تاريخ القارة الجديدة، بينها متحف في كارولينا الجنوبية ولويزيانا وتكساس. وتستقطب هذه المتاحف سنوياً آلاف السياح كما تستضيف مؤتمرات وندوات حول القطن.
وتقام في كثير من البلدان الأوروبية معارض للقطن ومنتوجاته وتقدم تاريخ القطن (أو حضارته) من خلال نماذج عديدة من المصنوعات والمطرزات والملابس، تختلف في أشكالها وموديلاتها بحسب اختلاف العصور والمراحل التاريخية.
وفي مصر يعيد متحف القطن الحديث رسم تاريخ القطن المصري منذ دخوله للمرة الأولى إلى مصر في أيام محمد علي. ويضم المتحف مخطوطات نادرة ومراسيم تتعلق بالقطن وقطعاً نادرة من القماش القطني تعود إلى العصور القديمة، وصوراً ومعلومات وعينات من أصناف قديمة من القطن وأخرى من الأصناف الحديثة. وتعرض فيه أيضاً نماذج واضحة من آليات زرع القطن، والآليات المختلفة للغزل والحياكة، إضافة إلى الصناعات التي تعتمد على القطن. وقد ضمت إلى المجموعة رسوم وصور نادرة ومعلومات عن بورصة القطن.
3
زيت القطن
منذ القرن التاسع، بدأت عملية استخراج الزيت من بذور القطن بعدما تأكدت قيمته الاقتصادية والغذائية. وصار يحتل عالمياً المرتبة الثانية في زيوت الطعام بعد زيت الصويا. يستخدم زيت القطن في تحضير السلطة وقلي اللحوم والمعجنات وتحضير بعض أنواع الصلصة كالمايونيز، وطبخ الحلويات. وفي ما يأتي بعض مميزاته:
– لزيت القطن نكهة خفيفة تشبه نكهة الجوز. لونه ذهبي شفاف. وتتوقف درجة اللون على مدى التكرير الذي خضع له. واللون الفاتح الذي يعني أن الزيت تكرر بشدة لا يعني بالضرورة أنه أفضل من غيره.
– يعتبر زيت القطن بمواصفاته الأساس لقياس مذاق ولون أي نوع آخر من الزيوت النباتية.
– يعتبر زيت القطن أحد أهم الزيوت غير المشبعة بالدهون. ولذا ينصح باستعماله، خاصة للذين يعانون من السمنة والكوليسترول.
– زيت القطن غني بالفيتامين E ومجموعة أخرى من مضادات الأكسدة، لذا فإن استعماله في الأطعمة يساعد على إطالة عمرها ومدة صلاحيتها للاستخدام.
– يقول العلماء إن زيت القطن مهدرج بشكل طبيعي، وهذا يجعله صالحاً للاستعمال في قلي الطعام من دون أية معالجة مسبقة.
– على عكس بعض الزيوت الأخرى، فإن زيت القطن لا يتغير من حيث التركيبة أو النكهة بعد استعماله في القلي.
– إن زيت القطن المكرر هو واحد من أنقى المواد الغذائية الموجودة في المتاجر اليوم. لأن قلة قليلة جداً من المواد الغذائية يمكنها أن تخضع للتنظيف والتكرير، وتبقى محافظة على قيمتها الغذائية الطبيعية بالكامل.