كانت العلاقة بالآخر، وما زالت، علاقةَ كرٍّ وفرّ. فما بالك إذا كان الآخر زوجاً أو زوجة يتقاسمان الزمان والمكان، ويتشاطران العيش، وتتناغم أو تتنافر رغباتهما، وتنسجم أو تتضارب غاياتهما.
وفي التراث العربي نصوص كثيرة تعبر عن هذه العلاقة المتأرجحة مدّاً وجزْراً, يعرض لنا الشاعر حسن السبع بعضاً منها.
لقد شبه أبو العلاء المعري كتابَ الزواج بالكتاب الذي حمله الشاعر المتلمس من عمرو بن هند ملك الحيرة إلى عامله على البحرين. فقد ظن المتلمس أنه يحمل كتابا سيحوّل حياته إلى نعيم دائم، فإذا به يحمل كتاباً فيه حتفه. يقول المعري:
وإنَّ كتابَ المهرِ فيما التَمسْتَه
نظيرُ كتابِ الشاعرِ المتلمّسِ
فلا تُشْهِدَنْ فيه الشهودَ وألقهِ
إليهمْ، وعُدْ كالعائرِ المتشمّسِ
وإنَّك إن تستعمل العقل لم يزلْ
مبيتكَ في ليلٍ بعقلك مُشْمِسِ
وليس لزاما أن يكون الهجاء صادقاً، أو معبراً عن حقيقة المهجو لهذا يقول الشاعر طاهر المخزومي:
لو أراد الأديب أن يهجوَ البدرَ
رماهُ بالخطةِ الشنعاءِ..!
ومن أقذع ما قيل في هجاء الزوجات ما قاله حميد بن ثور الهلالي. (ت 650م) فقد نسب إلى زوجته في إحدى القصائد كثيراً من الصفات الجسدية والخلقية الذميمة، كالخشونة والغضون والأسنان البارزة والصخب والحمق، ورأى أنها تظلم المرآة ظلماً مغيظاً كلما نظرت فيها إلى وجهها في قوله:
لقد ظَلمَتْ مرآتَها أمُّ مالكٍ
بما لاقتْ المرآةُ كان محرَّدا
أرَتْها بخدّيها غضوناً كأنّها
مَجرُّ غصونِ الطلح ماذُقْنَ فدفدا
رأتْ مِحجراً تبغي الغضاريف غيرَه
وفرعاً أبى إلا انحداراً فأبعدا
وأسنانَ سوءٍ شاخصاتٍ كأنَّها
سَوامُ أناسٍ سارحٌ قد تبدَّدا
ولولا حالات الضنك والديون التي تتابعت عليه، فأحوجته إلى معاشرتها والإفادة من خدماتها، كونها من النساء العاملات، لما صبر على خشونتها وصخبها وحمقها ولتزوج عليها حسناءَ نؤومةَ الضحى:
فأقسمُ لولا أن حُدْباً تتابعتْ
عليَّ ولم أبرحْ بدَيْنٍ مُطَرَّدا
لزاحمتُ مكسالاً كأنَّ ثيابها
تُجِنُّ غزالاً بالخميلةِ أغيدا
وقد امتد هجاء الشاعر لزوجته من رأسها إلى أخمص قدميها، حيث يصف أصابع يديها ورجليها في قصيدة أخرى، فيصورها وكأنها أعضاء إخطبوط فيقول:
مُدَاخَلَةُ الأرساغ في كل إصبعٍ
من الرِّجْلِ منها واليدين زوائدُ
نصائح مغلفة..!
أما عبيد بن الأبرص الأسدي (ت 600م) فيعيب على زوجته كثرة الشكوى، وعدم الصبر على مشاركة زوجها الحياة بحلوها ومرها، فيزجي لها نصحه المغلف بالهجاء قائلا:
زَعمتْ أنّني كبرتُ وأني
قلَّ مالي وضنَّ عني الموالي
وصحا باطلي وأصبحْتُ كهلا
لا يؤاتي أمثالُها أمثالي
فاتركي مطَّ حاجبيكِ وعيشي
معنا بالرجاءِ والتأمالِ
وبِحَظٍ مما نعيش ولا تذْهبْ
بكِ التُرَّهاتُ في الأهوالِ
وليس بمستغرب أن يهجو الحطيئة زوجته، فجرثومة الهجاء تسري في دمه، وقد طال بذلك الهجاء شخصه. وينكر الحطيئة على زوجته استراقها السمع، وعدم كتمانها السر فيخاطبها قائلا:
تَنحّي فاجلسي مني بعيداً
أراح الله منكِ العالمينا
أغربالاً إذا استودعتِ سِرّا
وكانوناً على المتحدثينا
حياتك، ما علمتُ، حياةُ سوءٍ
وموتكِ قد يسرُّ الصالحينا..!
ولم يكتف منظور بن سحيم الأسدي بهجاء زوجته، بل تمادى أكثر فحلق شَعرها، وقد شكته إلى الوالي فاعتقله وجلده، لكنه قدم للوالي حماره وجبته هديةً فأطلق سراحه. وهو ما يفسر معنى قوله:
ذهبتُ إلى الشيطانِ أخطب بِنتَه
فأوقعها من شقوتي في حِبَاليا
فأنقذني منها حماري وجُبَّتي
جَزَى الله خيراً جُبَّتي وحماريا
ولم يكن جران العود النميري (ت:630م) ألطف أو أرأف في هجاء زوجته رزينة ممن أتينا على ذكرهم، فقد رسم لزوجته بالكلمات صورة كاريكاتورية تثير الضحك فقال:
تُصبِّر عينيها، وتعصبُ رأسَها
وتغدو غدوَّ الذئب، والبومُ يضبحُ
ترى رأسَها في كلِّ مَبدَى ومَحضرٍ
شَعاليلَ، لم يُمْشطْ ولا هو يُسْرَحُ
وإن سَرَّحتهُ كان مثل عقاربٍ
تشولُ بأذناب قصارٍ وترمحُ
لها مِثلُ أظفار العقابِ ومَنْسِمٌ
أَزَجُّ كظُنْبوبِ النَّعامةِ أروحُ
ويطرح محمد بن يسير الرياشي (ت:821م) سؤالاً قاسياً على زوجته، لكنه، مع قسوته، ينطوي على حكمة تقضي بأن دوام الحال من المحال، فيقول:
ما تصنعين بعينٍ عنك قد طَمَحَتْ
إلى سواكِ، وقلبٍ عنكِ قد نَزَعا؟
إنْ قلتِ: قد كنتِ في خفضٍ وتكرمةٍ
فقد صدقتِ ولكنْ ذاكَ قد مُنِعا
وأيّ شيءٍ من الدنيا سمعتِ بهِ
إلاَّ إذا صار في غاياتِهِ انقطعا
ويبدو أن أبا دلامة قد رُزِئ بزوجة تكثر من
التذمر والشكوى، كتلك التي ابتلي بها الشاعر
عبيد بن الأبرص، وقد عبَّر أبو دلامة عن رزينة تلك بقوله:
لا بارك الله فيها من مُنَبِّهةٍ
هبَّت تلوم عيالي بعدما هجعوا
إذا تشكَّتْ إليَّ الجوع قلت لها
ما هاج جوعَكِ إلاَّ الريُّ والشَبَعُ
مازلتُ أُخْلصها كسبي فتأكله
دوني ودون عيالي، ثم تضطجعُ
وتوجد في تراثنا الشعري نصوص غير منسوبة، أو أشهر من أصحابها، ومنها القصيدة التي يهجو فيها أعرابي زوجتيه، وينسب إلى نفسه الجهل والحماقة بعد أن اكتشف أن ما أمَّله من هناء ونعيم بينهما لم يكن إلا وهما من الأوهام فيقول:
تزوَّجتُ اثنتين لِفرط جهلي
بما يشقى به زوجُ اثنتين
فقلتُ أصير بينهما خروفاً
اُنَعَّم بين أكرم نعجتين
فصرتُ كنعجةٍ تُضحي وتُمسي
تداوَلُ بين أخبث ذئبتين
لِهذي ليلةٌ ولِتلكَ أخرى
عتابٌ دائم في الليلتين
ولا شك أن صاحبنا قد وقع فريسة أوهامه، وأن الهناء الذي أمَّله أمر نادر التحقق، وهذا هو رأي حكيم الشعراء أبي العلاء المعري الذي يقول:
إذا كنتَ ذا ثِنْتَين فاغدُ محارباً
عدوَّين، واحذر من ثلاثِ ضرائر
وإنْ هنَّ أبْدَين المودَّةَ والرِّضا
فكم من حُقُودٍ غُيِّبَتْ في السرائر
وإن كنتَ غرّاً بالزمانِ وأهلِهِ
فتكفيكَ إحدى الآنسات الغرائرِ
وبعد، فإن التراث الشعري العربي زاخر بصور أخرى مضيئة للعلاقات الزوجية المبنية على الحب والانسجام، لكننا تناولنا هذا الجانب لطرافته، وعزاء المتعاطفين مع الزوجات اللاتي نِلْنَ نصيباً من ذلك الهجاء أنهن قد كِلْنَ لأزواجهن الشعراء الصاعَ صاعين فعلاً لا قولاً!
——————————————————
ليديك رائحة المكان
شعر: منير محمد خلف – سورية
كلّ الأماكن
لا تعودُ إلى يدي،
كلّ الأماكن
مرهقات الروحِ،
يجدرُ بي مساءً
أن أسوّيَ بعضي المفقودَ
أو أمشي إلى كلي الذي
لم يأتِ بعدُ،
أنا انتظارُ الحالمينَ.
.. أسوّر الدنيا
بدمعٍ من صهيل الروحِ
ممتشقاً سيوفَ الطين،
أسقي كبوتي العظمى
شموعَ التين والزيتون،
قلبي واضحٌ جداً
ولكن لم تمرَّ عليه عائلة القرنفل
لم يجد أحداً يواسيهِ
ولم ينحتْه إزميلُ انتظاركِ،
كانت الأيامُ سوداً
والخفافيشُ امتداداً للتساؤلِ
أو محطاتٍ لنهرٍ مالحٍ
تصّاعدُ النكراتُ نحوي،
لا أرى شبحاً
سوى قلبي
يدبّر حيلةً أخرى
لينقش صورة الذكرى
على أمواج وصلكِ،
لا تكوني مثلما قالوا..
فهم أضغاثُ جرحٍ
لا ينامْ،
لم يسألوا عن منبع الحسراتِ
لم يتطيّروا
إلا على فردوس قلبكِ،
راودوكِ عن انتزاع الحلمِ
بين حمامتين
تهيّئان المستحيل
لنرتدي شجر القفولْ.
ليديكِ رائحة المكان
وخضرة الأرض الضليعة
بانتقاء الوقتِ
في فصل القصائدِ
وابتكار الحزن
في جسد الهطولْ.
صنعوا على قرميد صبحكِ
قهوةً مجبولة الآهاتِ
هازئة بليلٍ
مسبل الأصداء
في نهر الكلامْ.
كلّ الأماكن
خاويات القلبِ
إلا صوتك المحفور في نبضي
طيورٌ من عميق الضوء
في ليلي الغزيرْ.