بل تستطيعين. كلمة قالتها والدة أغاثا كريستي لابنتها فأدخلتها عالم الكتابة الرحيب.. ولكن إذا كنت طفلاً تعيش في إحدى مدن الأطراف البعيدة عن مصادر الثقافة والتلقي، فما الذي يمكن أن يدفعك لتصبح أديباً، تكتب للطفل، وللطفل فقط؟
قد تحصل على الإجابة عندما تقرأ هذه الصورة الشخصية للأستاذ فرج الظفيري، الكاتب والأديب السعودي المتخصص في أدب وإعلام الطفل، والتي ترسمها للقافلة الصحفية السعودية ابتسام رياض.
في مدينة حفر الباطن السعودية، القريبة من الحدود السعودية الكويتية نشأ فرج الظفيري.. مدينة شبه منعزلة وبعيدة عن المراكز الرئيسة للبلاد.. عانى أهلها نقصاً شديداً في المطبوعات بشكل عام، سواء أكانت كتباً أم مجلاتٍ أم غيرها. ففي السبعينيات، لم يكن هناك وجود لشركات توزيع، بل كان البريد الوسيلة المتبعة للحصول على المجلات والجرائد، رغم ما ينتج عن ذلك من وصول المطبوعة متأخرة شهرين أو ثلاثة من موعد صدورها.
نسخة واحدة من أجلي..
كانت مجلة بساط الريح وبعض القصص المصورة التي تنتجها الشركات اللبنانية هي متعة فرج التي يحرص عليها. قد تأتي أو لاتأتي، فالأعداد التي يحصل عليها ما هي إلا المرتجع من المدن الكبيرة. وكان وصول هذه المجلات يعتبر فتحاً عظيماً في تلك الفترة. يقول فرج: أنا متأكد أن شركات التوزيع عندما بدأت تجلب هذه المجلات لم تكن تحضرها إلا من أجلي! فالاهتمام بالقراءة كان معدوماً تقريباً .
وبالنسبة لفرج، لم تكن الكتب المدرسية تلبي احتياجاته الثقافية والمعرفية، ومازالت إلى الآن غير كافية.. فوجد في نفسه نهماً شديداً لقراءة أي كتاب يقع في يده، خاصة مع ظهور وانتشار بعض مجلات الأطفال بصورة أوسع عما كانت عليه كمجلة ماجد، ومجلة سعد.. ومع زيادة نهم فرج للقراءة بدأ يهتم بالكتابة وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من العمر.. ووضع نصب عينيه أهدافاً تحقق بعضها، ولايزال يسعى لتحقيق الباقي. فكلما كبر فرج، كبرت أحلامه التي تحقق بعضها على أرض الواقع، ولا يزال يسعى لتحقيق أحلام هدفها المشترك أن يصبح رائداً في مجال أدب وإعلام الطفل.
الساقط!!
على استحياء عرض فرج القصص التي كتبها على مدرس اللغة العربية بالمدرسة. كان ذلك في المرحلة الإعدادية، وبعد قراءته للقصص علَّق الأستاذ كاتباً عليها: إذا كان هذا الإنتاج من الابن فرج فهو يدل على وجود أديب وكاتب جيد .. شجعت هذه الكلمات فرج على تقديم قصصه لأستاذ آخر وهو الأستاذ أحمد الصقعوب. يقول فرج: كان للأستاذ أحمد دور كبير في حياتي، فلقد أعطاني جرعة كبيرة من القراءة من خلال مكتبته العامرة بالكتب التي جمعها أثناء سفره للدراسة خارج مدينة حفر الباطن.. وأنا أعترف له بهذا الجميل .
استمر فرج يزور أستاذه في بيته ينهل من مكتبته ما شاء، إضافةً إلى الكتب التي كان يهديها إياه بين فترة وأخرى. إلى أن لاحظ والده استغراقه في القراءة ليل نهار، مما أثار شفقته عليه فقال له: يا بني أنت ترهق نفسك وتتعبها كثيراً في القراءة التي لا داعي لها، نظرك ضعيف والقراءة لن تفيدك . فقال فرج: إذا كنت تقصد الفائدة المادية يا أبي، فسترى هذا الورق يتحول إلى مال، وأنا من سيفعل ذلك ، وهو يقول اليوم: وما توفي والدي إلا وهو يرى أني قد حوَّلت الورق مالاً فعلاً .
كان اهتمام الوالدين منصباً على الدراسة فقط، حتى أن والدته كانت تدعوه بالساقط (الراسب) في إحدى السنوات لأن ترتيبه جاء الثاني وليس الأول كما عوَّدهم دائماً.
مرحلة تكوين الاتجاه..
كانت نهاية المرحلة المتوسطة مرحلة تشكيل الاتجاه. وبما أنه متفوق دراسياً، رغب والداه بدخوله القسم العلمي. أما ابن أخته فهد، فقد رغب أن يصبح خاله طبيباً حتى ترفع رأسنا بين الجماعة . فرد فرج قائلاً هدفي أن يمتد اسمي من المحيط إلى الخليج، وليس بين الجماعة فقط . وقرر فرج بعد استشارة مدرسيه، أن يدخل المعهد العلمي (دراسة أدبية وشرعية) حتى يتمكن -من خلال دراسته لألفية ابن مالك والتي درَّسها فيما بعد- من النحو والأدب، أما العلوم الشرعية فاستفاد من دراسته لها في تقديمه الأدب كرسالة منضبطة بآداب الشريعة.
كانت فترة دراسته في المعهد فترة ركود. فلم يكن وقته يسمح بالكتابة، بالإضافة إلى التذبذب الذي كان يمر به، والتساؤلات التي تجول في رأسه عن القصة، هل هي حلال أم حرام؟ إلى أن وصل إلى اقتناع تام ليس فقط بأن القصة حلال، بل بأهميتها في ترسيخ المبادئ والقيم الفاضلة في المجتمع.
خارج الحدود..
في عام 1997م، تخرَّج فرج في جامعة الإمام محمد ابن سعود بالرياض من كلية الشريعة بتقدير ممتاز. وعاد بعدها إلى مدينة الحفر ليبدأ انطلاقته، بعدما لاحظ أن المجلات الموجودة كالأنيمي الياباني، لا تقدِّم سوى مادة تعتمد على الإبهار فقط. فهي بلا هدف ولا رسالة. فبدأ بإخراج الدفاتر المخبوءة التي كُتبت قبل عشر سنوات. أعاد كتابتها وهذَّب بعضها، وأخذها إلى أقرب مكان للنشر وهو الكويت. كانت مجلة العربي الصغير قد عاودت الصدور، وأعلنت عن استعدادها لاستقبال الكتَّاب والرسامين. فأخذ فرج ما كتب وذهب إلى الكويت. وعند وصوله طلب مقابلة رئيس تحرير مجلة العربي الصغير فلم يجده، بل وجد سنابل المسلم سكرتيرة التحرير وقتها التي أخذت منه القصص التي كتبها. بعد أسبوع تلقى اتصالاً أبلغه بقبول بعض المواد، ويطلب منه الحضور إلى الكويت.
طلب الدكتور محمد المنسي قنديل -أحد أبرز كتَّاب الطفل المميزين- من فرج تحويل القصة إلى سيناريو، وأعطاه نموذجاً لسيناريو مكتوب.. رأى فرج أن السيناريو ما هو إلا الفكرة نفسها التي خطرت له سابقاً، وهي وصف يقوم الرسام برسمه، وحوار على لسان الشخصيات المرسومة.
بالنسبة لفرج، كانت المسألة واضحة وبسيطة. فانتهى من عمل السيناريو وسلَّمه للدكتور قنديل الذي كان مندهشاً من السرعة التي أنهى بها فرج المهمة. وكانت هذه بداية تعاون استمر ثلاث سنوات بالإضافة إلى تعاونه مع مجلات أخرى كسعد وماجد وبراعم الإيمان وغيرها من المجلات التي كانت كلها من خارج الحدود.
عودة وتحدٍّ
في نقاش دار بين فرج وأحد الأشخاص، قيل له: لم لا تقدِّم أعمالك لبلدك الذي يعاني من نقص واضح في الأعمال الجيدة بدل العمل خارج الحدود؟ . لفت هذا التساؤل نظر فرج إلى أنه لم يحقق هدفه الذي طمح إليه، وهو أن يكون أديباً سعودياً بما أن كل جهده منسوب لغير بلده. فقرر التوقف عن الكتابة كمهنة والاكتفاء بما حققه من نجاح فيها.. في تلك الأثناء قابل الأستاذ محمد عدنان غنّام -رحمه الله- فأقنعه بالمحاولة وأشار عليه بتقديم مشروع لتطوير مجلة باسم .
بعد تفكير، استقر رأي فرج على المحاولة. درس المجلة وقدَّم مشروعاً لتطويرها إلى الدكتور فهد الطياش -مدير عام الشركة السعودية للأبحاث والنشر سابقاً- الذي قرَّر بعد الاطلاع على المشروع تعيين الأستاذ فرج الظفيري رئيساً لتحرير مجلة باسم وأظهر استعداده لتقديم الدعم والمساندة له. كان فرج أمام تحدٍ كبير إما النجاح وإما الفشل، وبمساندة الدكتور الطياش، أصبحت باسم في عهد فرج مدرسة في أدب وإعلام الطفل. كما تميزت بفريق عمل ناجح ومتميز، ولكن هذا الواقع لم يستمر طويلاً، إذ ترك فرج المجلة قبل إتمام ما خطط له.
كانت الأعوام الممتدة من 2001 وحتى 2005م مرحلة زاخرة في تاريخ باسم ، فقد تميزت المجلة بمحتوى على أعلى مستوى من الجودة، لدرجة أنه تمت مراسلات من وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات لاختيار بعض القصص المنشورة فيها لتوضع في المناهج، وقدَّم مجموعة من دارسي الماجستير رسائلهم عن مجلة باسم في هذه الحقبة.
ولماذا أكتب لغير الطفل؟
منذ 11 عاماً وحتى الآن لايزال فرج يعمل مدرساً للمواد الشرعية بالمدارس الابتدائية، وهو يؤمن بضرورة تغيير المناهج من حيث أسلوب العرض، وليس في المحتوى. أما العلوم المتجددة فهي فعلاً بحاجة إلى تغيير، فآخر تحديث للمعلومات في بعض المواد كان قبل أن يولد المدرسون حسبما يقول.
يعتبر الأستاذ فرج أحد المنظرين في أدب الطفل، حصل في العام 2006م على درجة الماجستير في الإعلام من الجامعة الأمريكية بلندن، وهو من أغزر كتَّاب الطفل إنتاجاً في منطقة الخليج، خاصة في مجلات الأطفال. تفرَّد فرج عن غيره بالكتابة للطفل فقط، ولم يكتب أبداً لغير الطفل.. ولماذا أكتب لغير الطفل؟.. هذه رسالتي وهذا هو المجال الذي أبدع فيه .
طيب يا خال.. نجرِّب
بعدما ذكرنا الدور الكبير للأستاذ الصقعوب والدكتور فهد الطياش في حياة فرج، يأتي دور الشخص الأعمق تأثيراً في نفسية فرج وهو ابن أخته فهّاد الظفيري.. يقول فرج: فهّاد هو الملهم لي في كل ما فعلته من دون أن يشعر. كلما عرضتُ عليه أمراً، يقول: طيب يا خال وماذا في ذلك؟ فلنجرِّب. كلمات بسيطة يقولها بتلقائية. كانت تخطر ببالي كلما ترددتُ في الإقدام على أمر ما. لذا فأنا أعتبره شريكي في كل نجاح. وإن كان الناس يأخذون عادةً ممن هم أكبر منهم سناً، فقد أخذت أنا ممن هو أصغر مني .
مجلة مكِّي إنجاز آخر، فهي صادرة عن مشروع تعظيم البلد الحرام تهدف لغرس قيم التعظيم في نفوس أطفال مكة، واختير فرج ليكون رئيس تحريرها. صدرت المجلة بأربع لغات -غير العربية- وهي الإنجليزية والأوردو والملياليم الهندية، وكانت هذه أول مرة في تاريخ مجلات الأطفال تترجم فيها مجلة عربية إلى لغة أخرى، وقد تم توزيعها على الحجاج في موسم حج 1427هـ.
عالم الأطفال
يعمل فرج الآن على تحقيق حلمه القديم.. عالم للأطفال .. عالم مختلف، على غرار عالم ديزني بمنتجاته، بأعماله، بإنتاجه الإعلامي المرئي والمسموع والمطبوع، باحتوائه على كل ما يختص بالطفولة من مصانع وألعاب وكتب وكل ما يمكن أن يخطر على البال، ومحوره الطفل والطفل فقط. وقد بات هذا المشروع في مرحلة الإعداد التي قد تستمر لثلاث سنوات تقريباً، عدا مرحلة التنفيذ التي قد تستغرق بضع سنوات أخرى.
حمد وسعد ولطيفة وطيف هم أبناء الأستاذ فرج.. مازالوا يعيشون في مدينة حفر الباطن التي مازالت -كمدن وقرى كثيرة غيرها- بعيدة نوعاً ما عن قنوات التواصل.. فهل سيجدون من يقول لهم: أنتم قادرون؟ وهل سنسمع قريباً عن كاتب أو عالم أو مفكر من مدينة كحفر الباطن وجد من يقول له: بل تستطيع ، لنرسم له صورة شخصية؟!