تسعى الصين لفرض نفوذها الثقافي من خلال نشر مراكز لتعليم اللغة الصينية، والتعريف بالحضارة الصينية، وذلك في أكثر من 51 دولة في العالم
يتزايد الطلب بشكل تصاعدي ومتواتر على أنواع عديدة من السلع الصينية التي يلبي بعضها حاجات السوق، بينما بعضها الآخر يمثِّل إغراءات تسويقية
هل استطاعت الصين خلال سنوات قليلة الفوز في معركة الاقتصاد، بتلبية متطلبات سكان العالم الاستهلاكية، بغض النظر عن اختلاف ثقافاتهم؟! أم هو مجرد إغراق للسوق بسلع ممهورة بـ«صنع في الصين»؟
نانسي أبو حوسة تستعرض العوامل التي أسهمت في نجاح التجربة الصينية، ومراحل الطفرة الاقتصادية من إنتاج السلع الاستهلاكية إلى إنتاج المعرفة.
«صُنع في الصين» هي العلامة التجارية التي تشير إلى كثير من السلع التي تتداولها معظم بلدان العالم على امتداد قاراته. إنها علامة لكل ما هو صيني ويتميز بالخصوصية والكفاءة. وإذ اختلفت النظريات حول ما إذا كانت طفرة الصين في الاقتصاد والتقنية هي ثمرة نظامها الشيوعي، أو تبني قادتها الحاليين الطرق الرأسمالية في إدارة الأسواق، ذكر تقرير عن الصين صدر نهاية عام 2009م عن مؤسسة «تومسون رويترز» البريطانية وعنوانه: «الجغرافية الجديدة للعلم»، أن «هذا النمو المذهل سيدفع السيطرة التاريخية لأمريكا الشمالية وأوروبا على العلوم إلى التكيف مع نظام عالمي جديد».
يصعب على أي نظام إداري أو قيادي أن يسود العالم دون أن يملك منظومة اجتماعية وراءه تستطيع أن تحوِّل ظاهرة هذا الغزو الاقتصادي والفكري والاجتماعي إلى ثقافة، وتصبح الشعوب المتلقية معتمدة بشكل أساسي على ما تمده بها مظاهر هذا الغزو. ولكي تسود هذه الهيمنة يتطلب من الحضارة الأقوى أن تبدي ترابطاً مؤسساتياً فيما بينها، وأن تظهر احتراماً حقيقياً وتفهماً لمعتقدات الآخرين.
هكذا هم شعوب الشرق الأقصى إجمالاً، ولكن ما هو أكثر وضوحاً هو ذكاء الشعب الصيني والبالغ عددهم حتى الآن مليارًا وثلاثمة وستة وثلاثين مليون نسمة وهم لا يضيقون ذرعًا كما الشعوب الأخرى بأعدادهم وانتماءاتهم المتفاوتة، بل هم يتعدون تلبية احتياجاتهم المحلية إلى تلبية جميع ما نحتاج إليه لاستمرار عادات وتقاليد نمارسها خلال حياتنا اليومية في جميع أنحاء العالم. وهنا نجد المصانع الصينية تزخر بمنتجات متنوعة وكثيرة لا تمت إلى بعضها بصلة، ففي حين تُصدِّر المصانع الصينية للعالم العربي سجادة الصلاة الحريرية والمسبحة والبوصلة لمعرفة اتجاه القبلة وفانوس رمضان والعباءة والثوب، تُصدّر إلى قارات أخرى النقيض تماماً، كالأيقونات المسيحية والمسبحة الهندوسية والرموز البوذية وغيرها الكثير من التفاصيل التي يصعب معرفتها من دون اهتمام فعلي بالشعوب الأخرى. تساؤلات عديدة طرحت بعد الانتشار الواسع الذي حظيت به صادرات البضائع الصينية بسرعة كبيرة، ومن الواضح أن التجار والمستهلكين فاجأتهم طريقة تلخيص المصانع الصينية لحاجات السوق الفائقة الخصوصية، وكذلك السرعة في التكيف مع التغيرات الاجتماعية المختلفة، وما يواكبها من طلبات في الأسواق الشرائية. وبالرغم من الأزمات السياسية والكوارث الطبيعية كالزلازل التي تضرب الصين من وقت إلى آخر لم تمس شعبية البضائع الصينية التي يتزايد الطلب عليها بشكل تصاعدي ومستمر.
العوامل التي ساهمت في نجاح التجربة
إن التجربة الصينية جديرة بالتأمل، إذ تحوي بين سطورها الكثير من الدروس التي من الممكن أن تأخذ بها الدول النامية، فعلى الرغم من الانعزال الثقافي الذي مرت به الصين إبان الحكم الشيوعي إلا أنها احتفظت بهامش كبير من الانفتاح الاقتصادي. وجاء قرار الانفتاح على العالم متوازناً وحاسماً. ورفعت الحكومة شعار «افهم تسُد» للدعوة إلى الانفتاح التقني والاجتماعي مع الحفاظ على قيم المجتمع الأصيلة من خلال الابتكار وتنظيم الأولويات. فأدرك الشعب الصيني أن هذا هو أسرع الطريق وأقصرها لانتشارهم وانتشار ثقافتهم في الوقت نفسه. فانطلقوا يستكشفون فضاء الثقافات الأخرى في كل مجال بحيوية وشجاعة، وبكثير من الثقة والقدرة على استيعاب كل جديد وبشيء من المتابعة والتحليل، تجاوزت الصين الكثير من الألغام الثقافية والعقبات الفكرية التي تَنتجُ عنها أزمات حقيقية في وضع آخر.
مفهوم القرية الصينية
نظريات مختلفة تم طرحها حول أسباب هذا الانتشار، وخصوصاً مع الاعتقاد السائد بأن الصينيين غير قادرين على التواصل مع شعوب الحضارات الأخرى، فعدا عن عائق اللغة يميل الصينيون عند السفر أو الهجرة إلى العيش في محيط يشابه محيطهم في موقع رأسهم الأصلي في الصين، إذ يصعب السفر إلى أي بلد متعدد الإثنيات من دون أن يجد المسافر ما يسمى: China Town أو القرية الصينية، كما أن معظم الصينيين لا يبدون اهتماماً في تعلم أي لغة غير الصينية، لذا يجد الزائر في الصين صعوبة في التواصل بغير اللغة الصينية.
وفي نظرية سائدة أخرى هناك من استند إلى ضخامة التعداد السكاني في الصين وصعوبة الاكتفاء الذاتي من المصادر الاقتصادية المتوافرة، وأن هذه الطفرة هي مجرد فقاعة صابون، إلا أن الصين استطاعت الحفاظ على تلبية متطلبات سوقها المحلية وتوسعت في نطاق صادرتها حتى وصلت إلى منزلة المنافسة مع أقوى الأسواق العالمية.
وفي النظرية المضادة قال بعض الخبراء الاقتصاديين إن توسع الوجود الصيني في القارة السوداء هو استعمار غير مباشر للمصادر والسلع الخام، وإن هدف هذه المساعدات هو استغلال موارد أفريقيا الطبيعية. إلا أن الصين نفت مراراً وتكراراً أن يكون تصرفها استغلالياً أو قهرياً في أفريقيا. الجدير بالذكر أن الصين تستورد من أفريقيا النفط وغيره من السلع الخام، كما أنها في المقابل تقوم بتقديم قروض ذات شروط تفضيلية بلغت قيمتها في العام المنصرم 10 مليارات دولار. وهذا ينفي النظرية السابقة لأن التعاون الحاصل تنتج معه منافع مشتركة.
أما النظرية الأقرب لتفسير الواقع بأنه لا يمكن لأي ثقافة أن تُقبل من ثقافات أخرى ما لم تحمل بين طياتها الإبداع في كل مجال، وكثيرة هي مظاهر هذا الإبداع في التقليد في الحياة الصينية، ولا يمكن حصرها في مقال. والحقيقة أن من أهم ما يميز التجربة الصينية هو السعي الدائم لبناء منظومة متكاملة من السياسات في شتى المجالات، لأن التركيز على الجوانب المختلفة من جوانب التغيير والتطوير هو الكفيل بزرع بذور النهضة الحقيقية. وشيئاً فشيئاً ازداد الطلب ولم تتوقف قائمة الصادرات عند الكماليات والأدوات الشخصية والملابس وغيرها من الصناعات، بل وصلت عالم الحاسب الآلي وجديد التقنية وشتى منتجات الصناعات الثقيلة والألوف من البضائع المميزة، من بينها التوابل ومنتجات اللحوم والزهور والفواكه والأشغال اليدوية وغيرها من المجالات. ومما لا شك فيه أنَّ الصين أصبحت تدريجيّاً ملاذاً للتجار المبتدئين كما هم التجار الكبار الباحثون عن التبادلات التجارية الأكثر إنتاجاً والأقل تكلفة.
لا تكتفي الصين بالوعود الإحصائية بأنها سوف تكون القوة الاقتصادية العظمى في العالم بلا منازع مع حلول 2050م، فهي تسعى لفرض نفوذها الثقافي في شتى المجالات، إذ تسعى بشكل مستمر إلى نشر مراكز تعليم اللغة الصينية بما فيها التعريف بتاريخ الصين وحضارتها والتي تنتشر بسرعة هائلة في أكثر من إحدى وخمسين دولة حول العالم. أما الهدف الرئيس من هذه المعاهد البالغ عددها حتى الآن 133 فهو نشر اللغة الصينية، وتوطيد العلاقة الثقافية بين الصين وشعوب العالم من خلال الأنشطة الثقافية والتعليمية. وإلى جانب ذلك تقدم الحكومة الصينية مساعدات اقتصادية على شكل خدمات اجتماعية للدول التي تفتقر للاستقرار السياسي والاقتصادي. وتشير إحصاءات وزارة التعليم الصينية إلى أنه سوف يصل عدد دارسي اللغة الصينية إلى 120 مليون شخص حول العالم بحلول عام 2015م. هذا النموذج الاقتصادي الصيني الذي يعد الأكبر في العالم أصبح معجزة قريبة الشبه من الطفرة اليابانية، إذ سجل احتياطي النقد الأجنبي في الصين رقماً قياسياً جديداً حيث تجاوز ثلاثة تريليونات دولار مع نهاية إبريل الماضي بزيادة %25.3 عن العام السابق.
الصين ومراحل الطفرة
بدأت طفرة الاقتصاد الصيني مع انتهاء الثورة الثقافية الكبرى في أكتوبر 1976م، فدخلت الصين عهداً جديداً من التطور الاجتماعي وبدأ تطبيق سياسة الانفتاح على العالم الخارجي، ومنذ ذلك الحين شهدت التنمية الاجتماعية والاقتصادية إنجازات ملموسة جذبت انتباه العالم. بينما في الفترة الممتدة من أوائل التسعينيات حتى عام 2000م استهدفت تحقيق مجموعة من السياسات لتوسيع عمليات الازدهار الصناعي وتوجيه الصادرات من خلال تخصيص كل سوق دولية على حدة، إضافة إلى تحديث البنية الأساسية للاقتصاد من خلال توطيد المزيد من التعاون التجاري والدبلوماسي. وتنتهج الصين اليوم استراتيجية الاعتماد على الذات من خلال استغلال الطاقات البشرية والموارد الطبيعية المحلية، وبذلك نمت مسؤولية الشركات واحتفظت المؤسسات بمراكزها الاجتماعية والاستراتيجية، لعدم التخلي عنها نتيجة النمو المفاجئ الذي تصعب السيطرة عليه.
يقوم مبدأ التنمية في الصين على الإخلاص في العمل والتفاني في تحقيق الأفضل، مما لا بد أن يخلق نجاحاً ثابتاً تحترمه باقي الشعوب باختلاف أعراقها، وهذا ما جعل الصين قادرة على الاستفادة من الظروف الاقتصادية السائدة لبناء اقتصاد محلّي متمكن. بعد التنمية البشرية ورفع كفاءة رأس المال البشري يأتي استيعاب التقدم التقني، وتخطي مشكلاته مع الوقت من خلال وجود أداء منضبط بالخطط المرسومة.
اقتصاد الصين من إنتاج السلع إلى
اقتصاد المعرفة
لقد جاءت مخططات الحكومة الصينية لتأمين الفرص المتساوية لجميع أبناء شعبها على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم التي تتنوع بين البوذية التي يدين بها الأغلبية، ثم الإسلامية، والمسيحية وأقليات تؤمن بعقائد مختلفة. من هذا المنطلق تمَّ بناء حلم جماعي مشترك بين الجميع، وجرى رسم خطة عملية بعيدة عن المزايدات والأوهام. وعلى هذا تدرّبَ الناس على تجاوز الاختلافات العرقية والمذهبية، وأصبح تزويد العالم بحاجاته الرئيسة هدفاً عملياً قابلاً للتحقيق. لا يحاصر الصينيون أنفسهم عند التعامل مع بعضهم بعضًا ومع الجنسيات الأخرى في المواجهة وافتعال مشاعر التضارب بين الانتماءات حتى في أوقات الأزمات. وفي زمن القرارات الاقتصادية المجحفة في أثناء الحكم الشيوعي لم يلجأ الشعب الصيني إلى العنف وإنما التزم ببساطة بالقوانين وابتكر حلولاً حولها. وعندما تمت الإساءة إلى صورة الصين في بعض المؤتمرات السياسية والاقتصادية كانت ردة فعل الصينيين حكومة وشعباً هي العمل ثم العمل.
لم تقف حدود فكر الإنسان الصيني عند تلك النقطة لاعتقاده أن العمل في حد ذاته لا يكفي لضمان الاستمرارية، ولكن مرة أخرى في وجود الابتكار والشمولية في التخطيط الثقافي والسياسي والاقتصادي يكمن الاستمرار. وتجهل الكثير من الشعوب حقيقة الصناعة الصينية وقوتها ودقتها، فالشركات الصينية تمتلك شتى القدرات لإنتاج الصناعات العديدة حسب الرغبة والسعر.
ولقد أدركت الصين أنها لا تستطيع أن تطلب من شعبها الانفتاح على الآخر ما لم يتم زرع بذور تلك الممارسة منهجياً في مراكز التعليم، ووضعت سياسات خارجية تسمح بالتعايش وتشجع عليه عملياً ومبنية على توجيه رسالة واضحة بأن تحقيق ذلك الحلم يحتاج إلى نقلة على جميع المستويات. ويعد قطاع التعليم والتدريب في الصين أحد أهمّ الأسباب التي مكَّنتها من الرقي والتطور، إذ يتميز الشعب الصيني بتعدد قدراته وكفاءاته والذي كان نتاج الاهتمام بالتعليم والإنفاق السخي على التدريب والبعثات الدراسية، ما أتاح وفرة اليد العاملة في السوق الاستهلاكية، وتكوَّن عدد ضخم من التقنيين والمهندسين المختصين. كما عمدت الحكومة الصينية إلى شراء براءات اختراع الكثير من المنتجات الأجنبية وأبرمت اتفاقيات تبادل الخبرات في العديد من المجالات مع الدول السبّاقة في مجالاتها.
أما فيما يتعلق باتفاقيات حماية حقوق الملكية الفكرية التي خفَّفت من وطأة الادعاءات القانونية الدائمة التي كانت تواجهها الصين نتيجة تقليد مئات الألوف من المنتجات الاستهلاكية من الألعاب إلى الملابس ومن البرامج الإلكترونية إلى مسامير المصانع وغيرها الكثير من الأجهزة والأدوات التي لا حصر لها من البضائع المقلدة. فقد اتخذت الصين موقفاً مسؤولاً لتحفيز أنشطة حماية حقوق الملكية الفكرية، وذلك من خلال التمسك باتباع القواعد الدولية وتحقيق التوازن في المصالح بين أصحاب حقوق الملكية الفكرية والمستهلك. واليوم قطعت الصين شوطاً كبيراً في حماية حقوق الملكية الفكرية بفضل الجهود الدؤوبة من المجتمع الصيني ككل.
الصين قوة صناعية عظمى
عدا عن مصادر الطاقة والمعادن والتي تسهم الصين فيها بحصص مرتفعة من الإنتاج العالمي لمصادر الطاقة كالفحم الحجري والبترول والغاز الطبيعي، تمتلك الصين آبار بترول ومناجم حديد. وللصين مركز ثقل في بحوث البلورات وهندسة التعدين، ما انعكس بإيجابية على التنمية الصناعية. أما سهول الصين فهي غنية بالمواد العضوية التي أسهمت في تطوير مجتمع زراعي من الدرجة الأولى، وفي حين تواصل الصين أبحاثها في الإنتاج الزراعي لسد حاجاتها الغذائية، أخذت المبادرة العالمية للتركيز على أبحاث في علم الأحياء الجزيئي، والذي من المتوقع أن يكون ذا أثر كبير في فهم الجينات والبروتينات.
وختاماً، تقول الحكمة الصينية البالغة من العمر 2500 عام: «إن النصر ليس في الفوز بمئة معركة، بل في إخضاع العدو من دون حرب أبداً». وهكذا حققت الصين فوزاً مختلفاً بأن تكون المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي في
سنوات قليلة.