ملف العدد

الجدار

  • 50Malaf3-23
  • 50Malaf3-24
  • 50Malaf3-25
  • 50Malaf3-29
  • 50Malaf3-30
  • 50Malaf3-31
  • 50Malaf3-33
  • 50Malaf3-34
  • 50Malaf3-35
  • 50Malaf3-37
  • 50Malaf3-38
  • 50Malaf3-39
  • 50Malaf3-41
  • 50Malaf3-42
  • 50Malaf3-44
  • 50Malaf3-45
  • 50Malaf3-47
  • 50Malaf-1
  • 50Malaf3-2
  • 50Malaf3-3
  • 50Malaf3-4
  • 50Malaf3-5
  • 50Malaf3-6
  • 50Malaf3-7
  • 50Malaf3-8
  • 50Malaf3-9
  • 50Malaf3-10
  • 50Malaf3-11
  • 50Malaf3-12
  • 50Malaf3-14
  • 50Malaf3-16
  • 50Malaf3-17
  • 50Malaf3-20
  • 50Malaf3-21

الجدار كلمة ذات مدلولين، الأول حقيقي والآخر مجازي. ففي الواقع الملموس هو عنصر بنائي يحدد بثلاثة أبعاد: السماكة، والطول، والارتفاع. ووظيفته الرئيسة غلق المسافات وعزل الفضاء. وانحصرت وظيفة الجدار فيما مضى في دور محدد وبسيط، هو العزل والحماية لكل ما يوجد داخله من كل ما يقع خارجه، في زمننا الحاضر أصبح الجدار عنصراً إنشائياً «هندسياً»، يحمل أوزاناً تفوق وزنه الذاتي.

أما مجازياً فهو شيء افتراضي، وعائق نفسي غير ملموس يمنعنا من بعض التصرفات، فالقوانين والعادات والتقاليد أو الأعراف، كلها جدر بين الناس وبعض تفاصيل الحياة.

فريق القـافلــة يصحبنا لنتسلق الجدران ونستكشف ما وراءها!
قد لا تبدو مفردة «الجدار»، للوهلة الأولى، من النوع الثري، على العكس، قد تمنحك انطباعاً أولياً بالكآبة والجمود وضيق الأفق وقلة الخيارات، غير أنَّ الحقيقة المختبئة خلف ستار من التأمل والبحث هي بخلاف ذلك تماماً.
لا جدال في أنَّ بعض الكلمات يمتلك القدرة على إشعاع المعاني بغزارة دون كثيرٍ من الجهد، فهي لا تقبل أن يحبسها الذهن في قالب تعريف محدد، لأنها بطبيعتها ذات خفّة وحرية جامحة، ورغبة في استدعاء وجوه متعددة، اكتسبتها عبر تاريخ عريض من التجارب والخبرات التي تضفي عليها طيفاً ثريًّا من الألوان.
ونحن نزعم أنَّ مفردة «الجدار» في حقيقتها من هذا النوع، وليست مفردة ذات طاقة إيحائية ضئيلة. هي فعلاً كلمة متفجّرة، وليست مفردة جامدة كما توحيه حجارة الجدران الصلبة. إنها من نوع المفردات ذات التركيبة السائلةِ الدلالةِ والإيقاعِ في الذاكرةِ تماماً كمفردة «ماء» أو «نهر»، وهي بخفّة مفردة ذات كتلة متطايرة في الشعور النفسي كمفردة «عطر»!

بين اللغة والتاريخ
الجدار كلمة سكنت التاريخ، بل امتدت ظلالها إلى ما قبله، ففي تاريخ «ما قبل الجدار» وُجِدَ إنسان الغابة وإنسان الكهف. ولتاريخ صناعة الجدران حكاية طويلة مع البيئة، بل البيئات المختلفة على الأرض، فمن جدران الكهوف التي صنعتها الطبيعة بدأت الحكاية، تلك الجدران هي أكثر الجدران صلابةً ومحافظةً على الفن والتاريخ عبر ما تحفظه من نقوش.

وفي فصول حكاية الجدار العتيقة نجد أن الجدار مفردة مستمرة في التأقلم مع البيئة، بل إن معظم مكونات البيئة قد شاركت في خلقه، لنا أن نتصور جدران بيوت صنعها الإنسان في مراحل مختلفة من تاريخه، من أغصان الأشجار، من جذوع النخيل وسعفها، حجارة الجبال بأنواعها وألوانها، طين الأرض، الماء والتراب، وكأنَّ الأرض كلها قد دخلت في عجينة هذا الجدار!

للجدران معانٍ متناقضة قادرة على توليد المزيد من المعاني والمفارقات من خلال علاقة التضاد التي تجمعها، فحين تسند ظهرك إلى الجدار فإنه يمنحك الحماية، وحين تقابله هارباً من عدو فقد وصلت للنهاية، هو الجدار ذاته، ولكنه الحياة في الحالة الأولى والموت في الثانية.

صنع الإنسان الأوَّل الجدار ليأمن على نفسه من مخاطر البيئة وتقلباتها الجوية، كثرت الجدران، وارتفعت المدن، ربح الإنسان الأمن وانفصل عن البيئة التي كانت تمنحه خيراتها بالمجان، اكتسب جسده الدفء في أحضان الجدران وخسرت عيناه الآفاق الممتدة.

لقد منح الناس الجدران معاني سلبية، فما إن تسأل أحدهم عما توحيه إليه كلمة «جدار» حتى تتبادر إلى ذهنه معانٍ سلبية كالنهاية، العائق، السجن، الحجاب، الساتر. هذه المعاني قد ترمز لنهاية الحياة، أو لعوائق كبيرة يتعثر بها الإنسان، انعدام الحرية، ضيق التنفس، وعلى المستوى المعرفي ترمز الكلمة إلى ضيق الأفق المعرفي، انعدام الرؤية، أو وجود موانع للرؤية والبصيرة.

قد يكون من الطبيعي أن يضع الإنسان رموزاً للأمور السلبية في حياته كما يضع رموزاً للأمور الإيجابية، ومن الممكن أن يكون بعض هذه الرموز من صنع يديه، ولكن هل من الطبيعي أن تكون سكنى الإنسان بين هذه الأمور التي ركز فيها رمزية عالية السلبية؟! ليس من المستغرب إذاً أن تتزايد حالات الربو وضيق التنفس بين بني البشر!

الجدران الأثرية
كون الجدران جزءاً لا ينفصل عن عناصر الهندسة المعمارية، تزخر المزارات الأثرية بالكثير من الجدران، بعض الحضارات قامت ببناء جدران بطريقة بسيطة ومتينة لتؤدي وظيفة السور العالي، فيما قامت بعض الحضارات الأخرى بالنقش عليها وحفرها لتكتسب صبغة جمالية لتزيين المحيط.

جدران قرية الفاو
تقع القرية على بعد حوالي 700 كم جنوب غرب مدينة الرياض، وتطل على صحراء الربع الخالي، وسميت تيمناً بموقعها فهي موجودة عند فوهة مجرى قناة تسمى «الفاو». تعود القرية وهي عاصمة كندة الأولى، إلى فترة تمتد إلى قرنين قبل الميلاد واستمر السكن بها إلى حوالي القرن الرابع الميلادي، معظمها منحوتة من الصخر والجزء المتبقي صُنع من الحجر، اللبن والجص، وهو ذو قدرة تحمل عالية إذا ما حسبنا عمرها البالغ حوالي 1800 سنة وأكثر. ويذكر أن الجدران كان يتم نحتها من الجهة الداخلية للمسكن أو المتجر حتى تؤدي وظيفة التخزين على نمط الأرفف الحديثة.

جدران حلب الأثرية
تعد جدران قلعة حلب السورية- الشبه دائري- من أجمل المعالم الأثرية في المدينة وأضخمها في العالم وأغربها لما تحمله من طابع معماري فريد من نوعه. وتقع جدران القلعة على مرتفع نصفه طبيعي والآخر اصطناعي لا يضاهيه ضخامة إلا الدرج المؤدي إلى البوابة الرئيسة للقلعة وتعلوه القناطر المتفاوتة في الارتفاع.

وتقع جدران القلعة على مرتفع نصفه طبيعي والآخر صناعي، وهو سور المدينة القديمة فيما مضى، وقد وُجد في أجزاء منه نقوش تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد على عهد الآراميين.

لقد جعل هذا الجدار من القلعة ملاذاً حصيناً من الهجمات العسكرية على مدى التاريخ من عصر الآراميين ومروراً بالعديد من الحضارات وحتى العصر الإسلامي الذي انتهى بالحكم العثماني. يذكر أنه تم بناء بوابة رئيسة واحدة فقط مؤدية إلى داخل القلعة، تليها سبعة أبواب مصفحة ومغطاة بالحديد كي تقاوم ضربات النيران ومباغتات الهجوم المفاجئ.

جدران تحجب الحرية
الجدران هي التي تجعل السجن سجناً، وفي السجن نهايةُ الذين ينتهكون حقوق الآخرين ويزعزعون أمنهم، ومن الحجارة ذاتها تصنع جدران المنازل التي يطلب الإنسان الأمن بأن يقفل على نفسه الباب لينام بين جدرانها، الجدران ذاتها تمنح الأمن في مكان وتسلب الحرية في مكان آخر.

الجدار في الأمثال
هو جزء من تفاصيل يومنا وحياتنا، فالجدران والحوائط التي تحيط بنا تمنحنا الفرصة لأن يكون لها في الأمثال دور وحضور.

«لا تستند إلى الجدار المائل ولا إلى المرأة»
مثل تشيكي

«عندما تولد البنت تبكي الجدران الأربعة»
مثل روسي

«ظل رجل ولا ظل حائط»
مثل مصري
«لبنة في الحائط أفضل من جوهرة في الخيط»
مثل أمازيغي

«فلان استند إلى حائط مائل، واستظل بظل زائل»
مثل سوداني

«لا يبنى الحائط من حجر واحد»
مثل عالمي

«الجدران لها آذان»
مثل عالمي

جدران عالمية
حائط البراق..

يختلف هذا الحائط أو الجدار عن جميع الجدران في العالم ، فهو ليس جداراً سياسياً ولا جداراً عازلاً، إنما هو جدار ديني، إذ يرتبط في الوجدان الإسلامي بأهم الحوادث الأكثر إعجازاً في التاريخ. وهي حادثة الإسراء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المسجد الأقصى، ومن ثمَّ العروج به إلى السماء. هذا الحائط الذي يحدُّ المسجد الأقصى- أولى القبلتين- من الجهة الغربية، ويُعَدُّ جزءاً من السور المحاط بالمسجد، يتنازع حوله المسلمون واليهود الذين يجعلونه بادعاء كاذب ضمن تركتهم الدينية على أنه آخر أثر من هيكل سليمان- عليه السلام. بينما علماء الآثار الإسرائيليون اليهود شهدوا بعد التنقيب أنه لا يوجد أي سند لما ورد في العهد القديم حول هذا الجدار، ولقد شككوا في وجود الهيكل أصلاً، ومنهم عالم الآثار اليهودي فينكلشتاين رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، ما يدحض هذه الروايات اليهودية حول آثر معبدهم القديم، وينفي مزاعمهم. لم يمارس اليهود طقوسهم الدينية أمام هذا الجدار، التي تتجلي في البكاء حول الأثر الضائع الذي سماه عرب المقدس «حائط المبكى»، إلاّ في العهد العثماني، وكأنهم يبحثون عن مسوِّغ ديني للاحتلال، والتهجير، وهدم حي المغاربة المقابل للجدار بهدف التوسعة.

حائط البراق أو الجدار الغربي من المسجد الأقصى الذي بُورك حوله لم يبنَ من أحجار ياقوتية، ولم يوشى بالذهب. لكن عظمته تتجلى في التاريخ الذي مرَّ به منذ أن بناه الملك هيردوس الأول الذي حكم الجليل منذ عام 37-3 ق.م. وبالرغم من أنه حكم ممالك يهودية إلاّ أنه لم يكن يهودياً، حسب الموسوعات اليهودية،إنما كان عربياً أودمياً، بنى هذا البناء لإدهاش العالم القديم بفخامته. دُمِّر المبنى عدة مرات وأعيد بناؤه، لكن أساساته من أحجار متنوعة ومغروسة في عمق الأرض تُعدُّ آثاراً باقية في عمق الأرض، تشهد على تعاقب العصور واختلافات تقنيات البناء. فلقد اكتشف أثناء التنقيب أنه في بنائه الأول يتكون من سبع طبقات حجرية، ثم أعيد بناؤه في العصر الروماني ليتكون من أربع طبقات حجرية في الأسفل. يبلغ ارتفاع الجدار- كما يظهر- عشرين متراً، بينما يبلغ عمق الحائط المدفون حوالي سبعة أمتار. وهو مبني من أحجار ضخمة مختلفة الأنواع والأحجام تعود لأزمنة مختلفة، كما أن بعض النباتات الطبيعية تنمو بين أحجاره.

هذا الحائط الغربي الشامخ له من معجزة الإسراء مساحة فهو مربط الدابة! عندما أسري بالنبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس على ظهر البراق وهو دابة جبريل- عليه السلام- هبط النبي الكريم إلى تلك البقعة التي بورك حولها، وتأهب للدخول إلى المسجد الأقصى أولى القبلتين. فربط- صلى الله عليه وسلم- البراق في حلقة كانت موجودة على هذا الجدار الغربي. يشهد على ذلك حديث رواه عنه أنس بن مالك. فسمي هذا الحائط في عهد عمر بن الخطاب إبان الفتوحات الإسلامية لبيت المقدس بحائط البراق. تجادل حول هذا الجدار، المسلمون واليهود الذين لم يبدؤوا بالبكاء أمامه إلا بعد مرور أكثر من ألف عام على تسمية الجدار بحائط البراق. في عام 1930م شُكِّلت لجنة ليست مسلمة ولا يهودية لحل النزاع حول: مَنْ الأحق بملكية هذا الجدار؟ وتوصلت اللجنة إلى أن ملكية هذا الحائط وحق التصرف فيه وما جاوره هو عائد للمسلمين، كونه جزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى. فالحائط «طوله وعرضه وتاريخه» مقدس لدى المسلمين، لكونه جزءاً من بقعة مطهرة من المسجد الأقصى، كما يُعَدُّ مربط الدابة التي امتطاها نبينا الكريم في ليلة إسرائه. فهو حائط البراق لا حائط المبكى.

الجدار الفاصل
ظاهرتان مهمتان لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتوضحان في هذه الآونة: خلفية الاهتمام الدولي بما سمي بـ«الربيع العربي» والجهد اللافت للحكومة الإسرائيلية لإعادة تكوين «مملكة إسرائيل القديمة» على نطاق واسع في ظل انكفاء أسباب القوة العربية أمام المشهدية الدولية على إعادة رسم خريطة المنطقة من جديد من خلال رفع أكثر من جدار ليس بين دول المنطقة، بل داخل كل دولة بعينها.

إن مخاطر ما يجري له امتدادته من ذاك الجدار العازل، أو الفاصل، أو السور الواقي الذي أقامته إسرائيل منذ عام 2002م بمحاذاة خطوط الفصل بين الأراضي الفلسطينية المحتلة عامي 1948م و1967م، فالمسألة تعود بجذورها إلى الفكر الصهيوني الاستيطاني، وهي ترتكز على الآنية كلما تغيَّرت وجوه رؤوس الحكم الإسرائيلي، حيث يأتي اللاحق حاملاً في الغالب « خطاب المزايدة» على السابق.

فحكام إسرائيل بدأبهم على بناء السور الذي يبلغ ارتفاعه 8 أمتار وطوله 750 كيلومتراً، كرسوا خطاً من الإسمنت والحديد والنار والكراهية يشمل سلسلة من الخنادق والقنوات العميقة والجدران الإسمنتية المرتفعة والأسلاك الشائكة المكهربة تمتد على مسافة 45 كيلومتراً حول القطاع الشمالي من الضفة الغربية، ويمرُّ الجدار على الخط الأخضر من الشمال إلى الجنوب، ويضم القطاع الشرقي من القدس، وإلى جانب التداعيات الأمنية من إقامة هذا الجدار، هناك تأثيرات اقتصادية من جراء عزل التجمعات الفلسطينية بعضها عن البعض الآخر وخصوصاً تلك الواقعة بين الجدار والخط الأخضر، يضاف إلى ذلك أن فكرة بناء الجدار تحمل في طياتها تدمير الممتلكات والأراضي الزراعية ومصادر المياه وإضافة قيود جديدة على حركة الأفراد والبضائع.

ولا تبدو فكرة إقامة الجدار العازل غريبة على الفكر اليهودي، فقد كان الغيتو اليهودي في الأصل مكاناً داخل المدينة أو خارجها محاطاً بسور له بوابة أو أكثر، وما الجدار العازل المقام حالياً في فلسطين إلا صورة عما تختزنه الذاكرة اليهودية من ثقافة الغيتوات التي نشأت عليها التجمعات اليهودية في بلاد الشتات وأعادت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجسيدها في السور الواقي في فلسطين لدى تجميع اليهود في غيتو دولتهم الاستيطانية.
الجدار الأعجوبة

لعل أشهر جدار في التاريخ الإنساني هو سور الصين العظيم الذي يُعَدُّ ضمن عجائب الدنيا السبع. إذ ضمته منظمة اليونيسكو عام 1987م إلى قائمة التراث العالمي.

أنشئ سور الصين أو جدار الصين الحامي قبل الميلاد بهدف حماية مملكة الصين في عهد الإمبراطور تشين شي هوانج تي، الذي وحَّد ولايات الصين المتصارعة، وضمَّها بين جدران هذا السور حمايةً لها من غزو المغول والأتراك وهجماتهم.
يبلغ طول سور الصين العظيم أكثر من 6700 كم. وهو يطوق الحدود الشمالية والشمالية الغربية. إذ يبدأ من مدينة تشنهوانغداو التي تبعد حوالي 300 كم شرق بكين. وهي تقع على بحر بوهاي. فيها بحث الإمبراطور تشين عن سرِّ الخلود. وعلى شواطئها أقيمت جدران منيعة تُشكِّل جزءاً مهماً من هذا السور العظيم. لذا يوجد فيها المقصد السياحي للجزء الأبرز منه.

لقد بُني هذا السور العظيم، الذي يزيد طوله على 6700 كم، خلال 17 سنة بمعاونة أكثر من 300.000 شخص، وانتهى في عام 204 ق.م. ولقد بُني في بدايته بالطين في عهد أسرتي هان، وسوي الأمبراطوريتين. أما في عهد أسرة منغ، التي حكمت الصين لمدة ثلاثة قرون من عام 1368م إلى 1644م، فقد دُعم السور واستبدل بأجزائه الطينية الطوب.

من عجائب سور الصين أن بناءه تم بأسلوب معماري أشبه بالحصون، إذ بُني كهيئة جدارين متوازيين، الأول من الطين والثاني من الطوب، تفصل بينهما مسافة تراوح بين أربعة وتسعة أمتار وتضيق في الأعلى. كما يوجد بين كل 200 متر برج مربع للحراسة يبلغ ارتفاعه 12 متراً. بينما يتفاوت ارتفاع سور الصين من ثلاثة إلى ثمانية أمتار. وهذا يشكِّل حماية من تسلل الجيوش ومعداتهم وعتادهم. كما أن الأبراج تُعَدُّ دعماً وحماية، في حالة هذا التسلل البري. لقد انتهى من زمن بعيد دور سور الصين العظيم الذي من أجله بُني، لكنه بقي شاهداً على إبداع الإنسان وعظمته، ومزاراً للسياح الذين يبحثون عن المعجزات حتى لو كانت في ثقوب الجدران!

سور برلين
شريط الموت

من تاريخ سور برلين العازل نشم رائحة الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية. ونؤمن بقوة الجدران الجائرة في مواجهة الاختلافات السياسية والاقتصادية. لقد حقق سور برلين الإسمنتي الشائك قوة صامدة دامت 28 عاماً بنجاح في عزل برلين الشرقية عن برلين الغربية.

ما بين عشية وضحاها استيقظ سكان برلين عام 1961م، وبالتحديد في اليوم السابع عشر من أغسطس، على سور بدأ بناؤه في لمح البصر، ليقسم العاصمة برلين إلى غرب وشرق، ويقطع الطرق والأحياء والشوارع الرئيسة. لقد شق هذا السور مدينة برلين فعزل الأصحاب والأحبة عن بعضهم، حتى إنه قد شق بعض المنازل فقسمها لتصبح الحديقة في برلين الشرقية وبقية المنزل في برلين الغربية! كان السور بمنزلة شريط حاجز يشبه أفعى طويلة تُهدِّد من يحاول أن يتجاوزها لينتقل إلى المعسكر الآخر. لقد كانت برلين الشرقية هي صاحبة هذا المشروع العازل الذي كلَّف ألمانيا الشرقية 150 مليون دولار لمنع هجرة القوى العاملة من برلين الشرقية إلى برلين الغربية. يبلغ طوله 106كم، بينما يبلغ ارتفاعه 2.80 متر، محاطاً بالأسلاك الشائكة يمر بها تيار كهربائي يصعق من يحاولون الفرار. كان فعل هذا الجدار الجبار في سكان برلين عنيفاً، إذ بلغ عدد ضحاياه أكثر من 1200 شخص لا جرم اقترفوه سوى أنهم حاولوا الفرار من المعسكر الشرقي إلى الغربي. كان أمام هذا الجدار العازل في بدايته حكايات من الألم والفراق بين الأهل والأحبة. أما في منتصف زمانه كانت هناك الرغبات الملحة من سكان ألمانيا الديمقراطية للفرار من جحيم الشيوعية إلى الانفتاح الاقتصادي الأوروبي في برلين الغربية التي كانت بمنزلة النعيم القريب الذي يفصلهم عنه جدار يسمى جدار برلين. عُزِّز بأبراج للحراسة بلغ عددها 300 برج، و22 مخبأ، وكان يعمل في حراسته 14 ألف جندي.

بسبب شريط الموت الذي دام 28 عاماً كره سكان برلين الجدران العازلة بالقوة، لذا عندما سقط الجدار عام 1990م بقرار المعسكر الشرقي الذي بناه، توجَّه سكان برلين الغربية والشرقية بمعاولهم لهدم ذلك الجبار الذي حرمهم متعة الحرية. وفتتوه فيما بينهم لتكون أحجاره مجرد قطع تذكارية.
«سيد غورباتشوف، إذا كنت تسعى للسلام والرخاء للاتحاد الأوروبي، فحطِّم هذا الجدار»
رونالد ريغان
الرئيس الأمريكي الأسبق،

سراديب الموتى
جدران من الجثث
لا شك في أن الكثيرين عندما يستندون بظهورهم إلى الجدران ينشدون نوعاً من الأمن. لأن الجدار هو آخر معقل للأمان عندما تعز الملاجئ.

ماذا لو قُدِّر عليك أن تستند بظهرك إلى الجدار في سراديب الموتى في باليرمو التي تقع في جزيرة صقلية جنوب إيطاليا؟! بالتأكيد ستكون تجربة مثيرة للبحث عن الأمان بين براثن الفزع. إذ تكتسي جدران السراديب بعدد يتجاوز 8000 مومياء مختلفة، يعود بعضها لقرون خلت، فتبدو كأنها معلقة على الجدران بمشاجب مخفية تنتظر أن تتحرر من جدارها لتنقض عليك. لقد كانت هذه السراديب في البداية مكاناً مخصصاً لدفن الأساقفة والرهبان الكبوشيين، وهم جماعة دينية كاثوليكية تأسست في إيطاليا عام 1525م. ولقد اختاروا السراديب المعتمة تحت مدينة باليرمو لتكون مثواهم الأخير والسري بعد موتهم وتحنيطهم. في عام 1599م اكتشف الرهبان هذه السراديب السرية التي أسبغوا عليها طابع التفرد والتميُّز. فبدأت السراديب في استقبال الموتى من العامة الموسرين منذ عام 1599م وحتى 1880م، إذ أغلقت رسمياً. لكنها في عام 1920م استقبلت مومياء الطفلة روزاليا لومباردو على نحو خاص. كان على أهل المتوفى أن يدفعوا للكنيسة والسراديب مبالغ سنوية على هيئة تبرعات مقابل أن تُعلَّق الجثة بعد تحنيطها على جدار السرداب! إذ كان المبلغ بمنزلة الإيجار السنوي للجدار، فحالما يتوقف أهل المتوفى عن الدفع، فإنَّ المومياء ستوضع في صندوق على الرف بدلاً من الجدار، متعرضة بذلك للإهمال والتجاهل المتعمدين. عكس تلك المعلقة التي ربما تُستبدل ملابسها على فترات منتظمة بحسبما ورَدَ في وصية المتوفى.

تحوَّلت هذه السراديب أو الجدران إلى مزار سياحي يمكن للزائر التجول عبرها لمشاهدة الجثث المحنطة والمعلقة على الجدران، مع الحذر الشديد في عدم الاستناد إليها. لقد قُسِّمت مومياءات سراديب الموتى الكبوشيين إلى فئات عدة وهي: الرجال والنساء، العذارى والأطفال، الكهنة والرهبان، والأساتذة والفنانون. ويقال إن الرسام الإسباني الشهير فيلاسكيز(1599-1660)م موجود بين مومياءات سراديب الموتى في باليرمو، ويحتل أحد جدرانها مع مجموعة هم على شاكلته من الأساتذة. لا شك في أن تلك الجدران مفزعة، إذ تشبه فلماً مرعباً يتحقق على أرض الواقع، ويجعل الزائر يمشي بحذر خوفاً من أن يحتك طرفه بالجدار المبطن بالجثث المحنطة. فالجدار في تلك السراديب بمنزلة قبور مكشوفة للعيان.

الجدران في القرآن والشعر
لعل أول جدار مقدس جاء ذكره في القرآن هو جار الكعبة في لحظة رفع قواعدها. كما ورد ذكر «الجدار» صراحةً في مواضعَ ثلاثة، اثنان منها بلفظ الإفراد «جِدار»، والثالث بلفظ الجمع «جُدُر». وورد ذكرُه من دون تصريح بلفظه في قصَّة ذي القرنين.

الموضعان الأوَّلان في سورة «الكهف»، التي حدثتنا عن عدد من القصص الغابرة، فيها من العِبَر والعِظات الكثير الكثير.

ومن تلكم القصص قصةُ كليم الله سيِّدنا موسى مع نبيِّ الله الصالح الخَضِر – عليهما السلام – الذي آتاه الله علماً خاصّاً من لدُنه لم يُؤتَه موسى، وهو العلمُ ببعض تصاريف الله في عباده مما ظاهرُه شرٌّ مكروه وحقيقتُه خيرٌ مرغوب.

ومن خبره مع سيِّدنا موسى أنهما اجتمعا:(فانطلقا حتى آذا اتيا اهل قرية استطعما اهلها فابو ان يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد ان ينقض فأقامه قال لو شئت لإتخذت عليه اجرا{ (الكهف: 77)، ثم قال سبحانه على لسان الخَضِر في تفسير سبب فعله: }وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فاراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ومافعلته عن امري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا) الكهف.82 وقد شاء الله أن يجعلَ الجدارَ مخبأً لكنـزهما؛ لما فيه من قوَّة ومنعة، فهو خيرُ مكان لحمايته حتى يشُبَّ اليتيمان ويقوَيا على استخراجه.

ولذلك أخبر الله عن اليهود أنهم من جُبنهم وخَوَر نفوسهم لا يجرؤون على قتال المسلمين إلا متحصِّنين، يلوذون بالجُدران ليختبئوا خلفها، وقد فضحَهُم ربُّنا، سبحانه، فكشف عن حقيقتهم بجَلاء في سورة «الحشر» قائلاً: (لايقاتلونكم جميعا ال في قرى محصنة او من وراء جدر باسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لايعلمون)الحشر: 14). وذلك هو الموضع الثالث من مواضع التصريح بلفظ الجدار.

وفي سورة «الكهف» حديثٌ عن جدار عظيم، أقامه ملِكٌ صالح عادل قويٌّ شجاع وهو ذو القَرنين، شيَّده من الحديد والنحاس الصُّلب، ليكونَ سدّاً منيعاً يحمي الناسَ من قوم يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض، وقد حاولوا أن يعلوا الجدارَ ويرقوا عليه فلم يُفلحوا لعلوِّه وملاسته، وحاولوا أن يخرقوه من أسفله فعَجزوا أيضاً لشدَّته وصلابته. وخبر هذه القصة في الآيات «93-97» من سورة الكهف، ولم يصرَّح فيها بلفظ «الجدار» وإنما ذكر بلفظ السدِّ.

ملامح الجدار في الشعر العربي
حيث يذكر الجدار يذكر البيت، وللبيت مع الشعر حكاية، فالعرب لم يعتنوا في بدايات نشأتهم بالعمارة، وقد كان أكثرهم يسكن الخيام بدلاً عن البيوت، هذه الخيام ليست كالبيوت الثابتة، فهم ينقلونها معهم أثناء ضعنهم، وتبقى ذكريات المكان الذي حلت به بيوتهم لفترة، ومن كان يجاورهم به من شجر وبشر، وما نشأ بهما من علاقات ألفة وجيرة وحب:
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
لم يكن لألفة المكان والاستقرار به دور كبير كما في القرى والمدن، ولذلك لا تقدير للجدران والبيوت، سوى بيت واحد وحسب، بسيطُ البناء، موغلٌ في القدم، كانوا يقدسونه، وهو الكعبة، بيت الله، وعلى أستاره علّقوا قصائدهم.

في المقابل، معنوياً، كان لهم بيت واحد يسكنونه هو الشعر، وكانوا يسمّون الوحدة الشعرية «بيتاً». لم تكن لهم دوواوين كدواوين الملوك، وكان الشعر وحده «ديوانهم»، يفخرون به كما يفخر الآخرون بأبنيتهم.
وحين نتأمل رحلة الجدار في الشعر، منذ اقدم بيت شعري، نستطيع تذكره، وردت فيه مفردة «جدار»، إلى آخر بيت قرأناه في قصيدة حديثة، فثمة تباين كبير في ملامح الجدار والوظائف التي يقوم بها شعرياً في القصيدة. ولعلّ من أقدم وأشهر الأبيات التي استعانت بالجدار بيتُ مجنون ليلى الذي يصف حاله في الحب:
أمرّ على الديار ديار ليلى
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبّ من سكن الديارا
نقرأ هذين البيتين فلا نرى للجدار الذي يقبله الشاعر ميزة يستحق لأجلها التقبيل سوى أنه كان مسكناً أوت إليه ليلى، ومس جسدها جسده، الجدار هنا تابع للمحبوب يكتسب قيمته منه، إلا أن الأمر ليس كذلك لدى ابن الرومي مع جدران بيته:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عمرت به شرخ الشباب منعماً
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
فقد ألفته الروح حتى كأنه
لها جسد لو بان غودر هالكا

فالتّماسّ هنا أصلي، والتعلق صميمي، والعلاقة لم تعد عبر أشخاص آخرين وإن ابتدأت كذلك، العلاقة لم تعد قابلة للزوال بزوال الأشخاص، فقد حلّ الدفئ العاطفي في هذه الجدران، وأصبحت رمزاً لنعيم الشباب، وخلاصة لملذات الحياة، والارتباط بها أصبح غير قابل للانفكاك سوى بالموت تماماً كارتباط روح بجسد.

مع الشاعر السعودي علي الحازمي في قصيدته «شارع في جدار» نصل برحلة صورة الجدار في الشعر إلى ملمح جديد عبر انتقالة شاسعة نحو الزمن الحديث، لنجد الشاعر وقد تماهى مع الجدار في صورته الشعرية، ليصبح الشاعر والجدار جسداً واحداً على مستوى الصورة:

«امرأة شطرت حلم عمرك نصفين دون اكتراث
شقت بنظرتها شارعاً في جدار اكتراثك
دقت برأس خيالك مسمار صورتها عنوة
امرأة لم يكن باستطاعتها أن تغادر أسوار وهمك حين تنام
ذنبها وحده أنها ابتسمت ذات يوم أمام الرصيف لشخص قبالتها كنت تفصله في وقوفك بينهما دون قصد
أطلت تحدق في سحرها باشتهاء مديد وما كنت تدري بأن وقوفك هذا يؤخر غضنا فسيحاً سيشرع في الريح كلتا يديه ليأخذها من أمامك بعد قليل».
نلاحظ أنّ الجدار تغلغل في دور القيام بتمثيل مشاعر الإنسان الدقيقة، فهو يعبر عن البلادة وعدم «الاكتراث» وجمود المشاعر، ولكنه يقوم بدور مناقض في الشطر التالي مع عبارة «جدار اكتراثك»، حيث يقوم التضاد بين جمود الجدار وحركية الاكتراث على خلق صورة جديدة مبتكرة فيما بينهما. كما أن الجدار يحضر باعتباره إنساناً ينشق بنظرة أنثى، ويدق في رأسه مسمار تعلق فيه صورة تلك المرأة وفي الاستعانة بالمسمار تعبير عن ألم دائم واحتفاء بهذا الألم «المعلّق».

في عدد قليل من المقاطع الشعرية استطاع الشاعر تحميل الجدار عدداً من الوظائف المختلفة، ولكنها تصب جميعاً في نهاية واحدة هي إيلام الشاعر، الجدار كان حصاراً للشاعر داخل حكاية الألم هذه «أسوار الوهم»، فالمفارقة الكبيرة التي تكتشفها في نهاية القصيدة أن كل هذا الألم كان صدفة في موقف لم يكن الشاعر هو المقصود به، القصيدة تنتهى بانفتاح القصيدة على الريح بما تعنيه من عدم الاستقرار بعد أن كانت بدأت بامرأة وحلم، وقبل ذلك بعنوان «شارع في جدار» الذي يختصر الحكاية بأن حياة سكينة مشوبة بهدوء جامد قد انقلبت صدفة إلى جصار داخل أسوار تمور بالاضطراب، وقد كان للجدار دوراً أساسياً في تمثيل هذه العوالم المتناقضة فمنه تبدأ الحكاية وإليه تؤول.

وفي العصر الحديث أيضاً نرى في قصيدة «جدار يريد أن ينام «للشاعر عبد النور الهنداوي ملمحاً جديداً للجدار، فالقصيدة لا تتناول الجدار بشكل مباشر، ولا ذكر للجدار في النص، والعنوان وحده يشير إلى صورة جميلة ومغايرة للجدار باعتباره رمزا للصمود ولكنه أصيب بالتعب من كثرة الوقوف وهو الآن يريد أن ينام!.
الجدار في اللغة، يعني الحاجز أو العائق أو الحاجب، والجِدارُ الحائط، والجمع جُدُرٌ، سيبويه قال: هو مما استغنوا فيه ببناء أَكثر العدد عن بناء أَقله، فقالوا ثلاثة جُدُرٍ، وقول عبدالله بن عمر أَو غيره: إِذا اشتريت اللحم يضحك جَدْرُ البيت، يجوز أَن يكون جَدْرٌ لغةً في جِدارٍ، قال ابن سيده: والصواب عندي تضحك جُدُرُ البيت، وهو جمع جِدارٍ، وهذا مَثَلٌ وإِنما يريد أَن أَهل الدار يفرحون.

الجدران في الفن
لن يخطر على بال أن الجدار الجامد سيقطر رقةً بوصفه مُلهماً، وذلك لتوظيفه في القصائد والأغاني. فالجدار تردَّدَ كثيراً في الأغاني العربية والعالمية، وزاحم الورد والشمس وضوء القمر وكل الكائنات العذبة.

طفل يكتب فوق جدار لمارسيل خليفة من أشهر القصائد التي وصفت الظروف الاجتماعية القمعية التي تفرضها الأسوار الفولاذية حول المستوطنات في فلسطين. وقامت الفنانة أميمة الخليل بتأديتها في الكثير من حفلاتها أيضاً.
طفل يكتب فوق جدار
طفل نبتت بين أصابعه النار
أيتها الخوذات البيضاء حذار
من طفل
نبتت بين أصابعه النار
من طفل يكتب فوق جدار
يكتب بعض الأحجار.. وبعض الأشجار.. وبعض الأشعار

أما في الفن السعودي فقد ظهر الجدار في أغانٍ كثيرة، من ضمنها أغنية «زمان الصمت» من كلمات الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن للفنان طلال مداح. ولقد رددها كثير من أبناء العالم العربي. كان أول ظهور لهذه الأغنية في السبعينيات الميلادية، تقول كلمات الأغنية:
«حبيبي يا حبيبي
كتبت اسمك على صوتي
كتبته في جدار الوقت
على لون السما الهادي
على الوادي
على لوني وميلادي».
كيف للاسم أن يُكتب في جدار الوقت؟ وكيف يكون للوقت جدار؟! من هنا كان بدر بن عبدالمحسن مهندساً للكلمة، وبانياً للجدار الذي كتب عليه اسم المحبوبة. فالجدران مرتع خصب لأسماء الأحبة.
أغانٍ عالمية في الجدران

كانت فرقة بينك فلويد البريطانية من أكثر فرق الروك تميزاً في العالم، إذ وصلت شهرتها الآفاق في السبعينيات والثمانينيات الميلادية. بدأت في أواسط الستينيات كمجموعة أصدقاء تلاقوا وتآلفوا في جامعة كامبريدج مكونة من سيد بارت، بوب كلوز، روجرز ووترز. ريتشارد رايت. بدؤوا كفرقة أتحفت العالم لدى عقدين من الزمن بأروع الألبومات الغنائية التي تحمل طابع الروك. ولعل أشهر هذه الألبومات ألبوم THE WALL الذي صدر عام 1979م وهو الألبوم الحادي عشر للفرقة. وكان أفضل الألبومات مبيعاً في عام 80م، حيث بيع منه أكثر من 23 مليون نسخة. وقد حصلت أغنية الجدار التي غنتها فرقة بينك فلويد على ترشيحات لجوائز عالمية. كما حصلت على المركز الأول في قائمة العشر أغان الأولى في بريطانيا وأمريكا.

قُسمت هذه الأغنية الشهيرة إلى ثلاثة أجزاء.. كل جزء منها يتحدث عن جدار مجازي مختلف.
في الجزء الأول تُشبه الأغنية التمييز العنصري والحروب العرقية بالجدار الذي يتم بناؤه طوبة طوبة حتى يتحول إلى جدار عازل، كما تصف كيف ودّع الابن أباه عند الذهاب إلى الحرب وكيف علم بموت والده:
أبي طار عبر المحيط
تاركاً فقط ذكرى
صورة من ألبوم العائلة
أبي، ماذا تركت لي أيضاً؟
أبي، ماذا خلّفت لي؟
ككل كانت فقط طوبة في الجدار
ككل هم كلهم فقط طوبات في الجدار

في الجزء الثاني تتناول الأغنية الجدار النفسي السلبي الذي يتسبب في بنائه عنف المعلمين والمعلمات، سواء عن طريق الإهانة الجسدية أو المعنوية:
لسنا بحاجة إلى تعليم
لسنا بحاجة إلى تحكم في الأفكار
لا للسخرية التهكمية في الصف
اتركوا الأطفال في حالهم أيها الأساتذة
ككل هي فقط طوبة أخرى في الجدار
ككل أنتم فقط مجرد طوبة في الجدار

الجزء الثالث قرر كاتب الأغنية أن يتخلص من كل ما يعوق حياته الشخصية والعاطفية وينوي الحصول على علاقات ناجحة وسوية، وشبّه الأشخاص في حياته بطوبات في الجدار الذي يمنعه عن المضي بحياته نتيجة الغضب وخيبات الأمل التي يصيبونه بها.
لا أحتاج لأذرع تحضنني
لا أحتاج لعقار لتهدئتي
لا أعتقد أني أحتاج أي شيء على الإطلاق
ككل كانت كلها مجرد طوبات في الجدار
ككل كنتم كلكم مجرد فقط طوبات في الجدار

فلم بينك فلويد والجدار
بسبب الشهرة والرواج الذي لاقته الأغنية والفرقة، وبعد ثلاث سنوات من إصدار الإغنية، أنتج عام 1982م فلم روائي موسيقي طويل بعنوان: «بينك فلويد والجدار». يدور حول هذه الفرقة ومراحل إنتاج هذا الألبوم المتميز الذي يتحدث عن الجدران. وقد كتب الرواية عضو الفرقة روجرز ووترز، وكان الفلم من بطولة بوب غيلدوف، وإخراج آلان باركر.
الجدير بالذكر أن الفلم حصل على جائزتي BAFTA.

فلم
«ول إي» Wall-E
الجدار في عالم الفن أخذ حيزاً كبيراً، فالعديد من الأفلام والمسلسلات والأعمال المسرحية تطرقت للجدار بشكل مباشر أو غير مباشر، ويعد فلم «ول إي» من أبرز الأفلام التي تناولت مفهوم الحائط بالمعنيين المادي والافتراضي، ويروي الفلم قصة روبوت وحيد اسمه «ول إي» يبحث عن الحياة والعاطفة على كوكب الأرض في عام 2700م، بعد أن هجره البشر ليعيشوا على متن سفينة فضائية هرباً من التلوث الذي تفشى عقب الاستهلاك غير المنظـّم لموارد الطبيعة، وانتشار أطنان من النفايات شكلت جدراً عملاقة في كل مكان.

أما الجدار المجازي فهو الجدار العاطفي، إذ تجمع قصة حب بين «ول إي» و»إيف» «روبوت آلي حديث» يفترض أنهما لا يملكان الإحساس بالمشاعر في قالب كوميدي ظريف أخرج بطريقة فنية رائعة حسب تقييم النقاد، إضافة إلى ذلك يسعي الفلم إلى التحذير من الجدران النفسية نتيجة الاستسلام للتكنولوجيا الحديثة ومنتجاتها المختلفة، التي أصبحت تتدخل في أدق التفاصيل، وتتحول إلى إدمان على مشاهدة التلفزيون أو الجلوس أمام شاشات «الكومبيوتر»، أو استخدام الهاتف في كل مكان وزمان، مما يؤدي إلى عزلة تبدأ بسيطة، تبعد البشر عن بعضهم قبل أن تستفحل لتتحول إلى حال من العزلة التامة.

الجدران الوهمية
من أكثر قصص الجدران غرابة تلك التي أبطالها أشباح، تخترق الجدران عابرة الأماكن، كأن الجدار الحجري من وهم! كذلك الجدران المجازية التي تمثل درعاً واقية، كالجدار الناري الذي يمنع أي اختراق أو تسلل.

كل منا في طفولته تمنى لو يعبر الجدران كشبح مخاتل، متجاوزاً الأقفال والأبواب والجدران!

كثيرون منا حلموا بفتحة الزمن في الجدار التي تبتلعنا لأماكن مختلفة، لكن الجدار الأسمنتي ما زال يقف لنا بالمرصاد. أما حلمنا بالاختراق فقد بدأ يتراءى لنا مع ما قدمه خبراء التقنية في جامعة تامبر في ولاية فلوريدا الأمريكية. متمثلة في اقترحات مذهلة وخلاقة للمهندسين والمعماريين في عالم بناء الجدران. وهو أن يستبدلوا جدران المنزل الداخلية التي تبنى عادة من الأسمنت أو الجبس، بجدران أخرى ضوئية ثلاثية الأبعاد، تصدر من بروجكتر مخفي. إن هذه الجدران في الأصل حواجز افتراضية تحجب الرؤية، حيث تتكون من ضوء شعاعي وضباب، تتجسد في الفراغ كجسم لجدار حقيقي، لكن الأجسام الأخرى تستطيع العبور والنفاذ من خلاله. فمستقبلاً عندما ترى مضيفك يعبر من أحد جدران الصالة في بيته حاملاً لك صينية القهوة، لا ترتعب، فمضيفك ليس شبحاً، إنما بنى منزله بأسلوب حديث وتقني.

من المفارقات أن حلمنا بتحطيم الجدار الحقيقي والنفاذ من خلاله، يقابله حلم آخر يدور حول جدراننا الوهمية التي يشيدها المبرمجون التقنيون لتحفظ أسرار عملنا وحياتنا الخاصة في أجهزة الحواسيب. مثل الجدار الناري الذي نحلم بأن يكون أشد قوة من الجدران الحقيقية المبنية من الخرسانة والأحجار.

فبينما هناك جدران حقيقية تمر خلالها أشباح الأجسام، هذا لو سلمنا جدلاً بصدق حكايات الأشباح، هناك جدران افتراضية تمنع أعتى اللصوص من اختراقها.

جدار الخلية
هو طبقة صلبة تحيط بالخلية من الخارج لا تُرى بالعين المجردة، وتقوم بتحديد شكل الخلية وتوفير الحماية لها، بالإضافة إلى حمايتها من الخدوش والأخطار الخارجية. ويتكون الجدار الخلوي من ثلاث طبقات تتألف من معادن مختلفة أهمها البروتين والسليلوز. ويساعد جدار الخلية على تحديد أنواع مختلفة من الخلايا: حقيقية النواة أو غير حقيقية النواة. وتعد النباتات والفطريات والبكتيريا أمثلة على الكائنات الحية التي تمتلك جداراً خلوياً.

الجدار الناري
Windows Firewall
برنامج تقني يفصل بين الملفات الخاصة الموجودة على جهاز الحاسوب وبين الملفات العامة التي يستخدمها الجهاز نفسه للدخول إلى شبكة «الانترنت»، وبذلك فهو يتولى تصفية وعزل أي محاولة تسلل يقوم بها قراصنة «الإنترنت– الهاكرز» إلى الجهاز. ويتميز البرنامج بتوافر مستويات حماية عدة، تتيح لمستخدمه القدرة على التحكم في أحقية المرور ضمن قواعد معينة.
والاسم «جدار النار» مجازي، يعود إلى أكثر من قرن، حيث انتشر في البلدان التي كانت بيوتها تبنى من المواد السريعة الاشتعال كالقش، والحطب، فيتم بناء حائط من الطوب بين البيوت بشكل يوقف انتقال النيران المحتملة يُدعى الجدار الناري.

جدار القلب
لجدار القلب أهمية إيجابية يتعدى دوره في حماية أهم عضلة في جسم الكائنات الحية وهي تقنية طبية ذكية، تعمل على كشف سرعة تصنيع الأنسجة البيولوجية داخل جدران الأوعية الدموية للقلب، وبالتالي تساعد على التنبؤ باحتمالية حدوث التهابات في شرايين القلب الرئيسة، والتي تمنع وصول الدم إلى الدماغ، مما قد يتحول لدى بعض المرضى إلى جلطة.

جدار الصين الإلكتروني
اسم أطلقته الحكومة الصينية تيمناً بسور الصين العظيم، على جدار الرقابة الافتراضي، والذي صُمّم كي يمنع وصول مستخدمي «الإنترنت» في البلاد إلى بعض المواقع السياسية. وهو ليس الجدار الأول الذي تستثمر فيه الصين مبالغ كبيرة في مجال مراقبة «الإنترنت»، إذ شكلت الحكومة هيئة رقابية متخصصة يطلق عليها مكتب الدولة لمعلومات «الإنترنت».
التلصص
من وراء الجدران
يقال إن الجدران لها آذان، وذلك لأن هناك من يلصق أذنه خلف الجدار ليستمع لما يدور في الطرف الآخر من المكان المعزول.
كما للجدران آذان كذلك للبعض منها ثقوب، فالجدار ليس بذلك الجسم المصمت الموثوق به. فجدران الطين لها من الثقوب ما يجعل العيون تتنزه متلصصة. أما جدران الجبس الحديثة المدعمة بقوالب حديدية، فهي ناقل مثالي للصوت. لذا لا تثق بالجدار.. فربما كان خلفه من يتربص بك.

الغرافيتي..
فن الخربشة بالرذاذ

لم تكن، يوماً، جدران الشوارع مكاناً مناسباً للإلهام الفني، فالفنانون المحترفون يقبعون في استديوهاتهم الخاصة ساعات وأياماً طوالاً لإنجاز لوحة. لكن بعض أساليب التعبير الجامحة، ربما، أوجدت نوعاً من الفن جعل من جدران الشوارع مكاناً للإبداع، أُسبغ عليه اسم «الغرافتي» لا يعتمد في ألوانه على الألوان الزيتية أو المائية المتداولة لدى الفنانين، إنما اعتمد بشكل كامل على ألوان الرذاذ أو ما يُسمى بالبخاخ الملون.

يُعتقد أن الكتابة والرسم على الجدران عمل سيئ، يُعد جريمة يعاقب عليها القانون في بعض الدول المتقدمة. وإزاء هذا التجريم لجأ الشبان إلى ممارسة هذه الخربشة التي تحمل رسائل سياسية واجتماعية كردة فعل عنيفة على هذا التجريم، ولكن بطريقة متقنة وبتأنٍّ جعل من المشاغبين فنانين بامتياز.

لقد بدأ هذا الفن في عام 1961م في لوس أنجلوس، حيث كان وسيلة للتعبير عن الذات لدى من يعانون الفصل العرقي، وذلك في شوارع لوس أنجلوس الخلفية التي هي مكان للسود والملونين. إنَّ فن الغرافتي أداة يلوِّح بها الشبان في وجه السلطة، حيث يصممون الشعارات ويكتبون الرسائل اللافتة على جدران عامة يراها الجميع.

فن الغرافتي أو الرسم على الجدران أسلوب حديث غزا جميع دول العالم التي تعاني شعوبها الفصل والقمع العرقي، ولكنه ظل فناً من دون فنانين معروفين، إذ غالباً ما يترك متعاطو هذا الفن لوحاتهم الجدارية من دون توقيع مهما كانت مبدعة وجميلة خوفاً من الملاحقة القانونية.

من بين الفنانين المجهولين لهذا الفن برز الفنان الجداري الغرافيتي بانكسي، وهو ناشط سياسي ورسام ومخرج سينمائي بريطاني، ولد في عام 1974م ونشأ في بريستول في إنجلترا. بدأ في الكتابة على الجدران وهو لم يتجاوز الثانية عشرة، ولاحظ المراقبون لرسوماته أنها تشبه إلى حد كبير رسومات فنان الإستنسل الفرنسي الشهير بليك لي رات 1953م. ما جعله ملاحقاً من قبل المعجبين ونقاد هذا الفن الرائع.

على الجدران.. أزياء من ورق

الجدران حواجز تحجب المدى. على سطوحها المصمتة ربما انبثق مدى مزيف بفعل لوحة أو زخرفة، أو سجاجيد معلقة فتعطي انطباعاً مبهجاً عن الجدران بخلاف أنها حواجز حماية.

مثلما للأشخاص ملابس وأزياء كذلك كانت للجدران أزياء وزينات مختلفة، لعل أهمها ورق الجدران الذي يغطيها ليمنحها نوعاً من الترف.

بدأت حكاية ورق الجدران من القرن السابع عشر الميلادي. ابتكره الأوربيون بسبب غلاء المعيشة التي فرضتها الحروب، وذلك بديلاً عن المعلقات المصنوعة من خشب أو سجاجيد، إذ كانت بالإضافة إلى كونها زينة فهي تمثل طبقة عازلة على الجدران الحجرية توفر الدفء. وكان هذا الأسلوب متبعاً لدى الأغنياء في العصور الوسطى. لكن هذه المقتنيات من سجاجيد وألواح خشبية كانت مكلفة للغاية، مما دعت الطبقة الأقل ثراءً في عصر النهضة للجوء إلى ابتكار ورق الجدران المزين برسومات تشبه رسومات السجاجيد واللوحات الخشبية الكبيرة التي كانت تعلق على الجدران قبل هذا العصر. في البداية كان ورق الجدران يعلق بالأسلوب نفسه المتبع مع المفروشات الأخرى، فلم يكن يثبت بالغراء أو الصمغ، بل كان يعلق بطريقة يبدو فيها فضفاضاً. بعدها اتبع الأسلوب المتبع حالياً في تثبيته كاملاً مما يجعله يبدو كأنه الجدار.

ظهرت أسماء عديدة لمصممي هذا الفن من بينهم الفنان الألماني ألبريشت دور الذي يُعد من أشهر فناني عصر النهضة وابتكر رسومات ونقوشًا عدة لورق الجدران. وابتكر غيره من الفنانين نقوشًا أخرى فكانت هناك أنماط مختلفة ومحددة لرسوم ورق الجدران ونقوشه. في منتصف القرن الثامن عشر كانت بريطانيا العظمى هي الرائدة في مجال تصنيع ورق الجدران معتمدة في نقوشها على 17 نمطًا أساسياً ابتكره فنانو أوروبا في عصر النهضة. ومع تباشير القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1813م تطورت المطابع، مما مكن المصنعين لورق الجدران من إنتاج كميات كبيرة أهلت أن يكون ورق الجدران من الأشياء الأكثر شعبية في أوروبا، فلا يكاد تخلو جدران بيت من هذا الورق الذي يحيي بعضه مناظر خلابة على الجدار، وتخرج الجدار من صمته وجموده إلى أن يكون جانباً من الفن في البيت.

الكتابة
على صدر الجدار

هل الكتابة على الجدران شغب أم شغف؟! وهل الجدران التي تكشف لنا عن صدرها تغري بالخربشات فيتفتق واقع الشارع المهادن عن فنانين وثوار وعشاق ومكلومين بفقد؟! لماذا كانت الكتابة على الجدران ممنوعة؟! وتصرفاً غير حضاري، بينما هي التي حفظت جزءاً من تاريخ العصور البدائية والقديمة.

لا شك، أن الكتابة على الجدران اليوم تختلف عنها قديماً، فالأخيرة كانت بغرض التدوين وحفظ ما يود شعوب تلك الأمم بقاءه، وذلك بكتابتهم على جدران المعابد والكهوف، بينما الأولى بمنزلة صرخة تحتاج إلى عسف وترويض، لأنها تنتهك جدران الغير، حتى وإن كان بعضها يحمل فناً أو وجعاً، أو طيفاً لذكرى. لماذا كان الجدار الحامي لوحة للخربشة في زمن الورق والدفاتر؟ هل ذلك الصدر الظاهر للعيان ويراه الغادي والرائح لوحة مثالية للشكوى؟!

الجدار الصامت الجامد هو الناقل لكل ما يُكتب عليه بفضيحة توازي اتساعه ونصاعة لونه. هو، أحياناً، مرآة المجتمع الملوثة. لذا لا بد من صقلها وتنظيفها من حين لآخر.

من الطرائف التي تنقلها جدران الشوارع عبارة: «ممنوع الكتابة على الجدران»، وهي مكتوبة بلون أحمر صارخ على أحد جدران البيوت. وكأن بهذا المنع دعوة للكتابة وللخربشة والفضفضة ملؤها التحدي لبداية ماراثون من الكتابة. إن جدران البيوت الخارجية في الشوارع الأكثر فقراً وقهراً ملاذ خصب للشغب. فعبارات الحب والقلوب التي تخترقها السهام وأبيات شعرية كسرها الجهل بالإملاء، والتناصر لأندية رياضية، جميع هذه الخربشات أبطالها من الذكور الذين يجدون متعة في الشكوى والصراخ على جدران أصبحت الكتابة جزءاً من ملامحها. فلو اختفت عنها الكتابة لبدت بلا ملمح تذكر به.

لقد كانت الجدران في العقدين الماضيين بمنزلة صحيفة تعبِّر عن هموم شريحة من المراهقين الشباب وأفراحهم. فلوَّنوا الجدران بما يجوز ولا يجوز من عبارات خادشة للحياء. لقد امتدت هذه الصحيفة لتشمل المدن والقرى وحتى جدران الجبال. ثم تحوَّلت الكتابة إلى ظاهرة حوربت إلى أن اختفى اللون البخاخ من الدكاكين الصغيرة. ولم يعد يباع لمن يشتبه بهم كمخربين للجدران. لكن هذه الظاهرة لم تنته بالنصح أو القمع، ولم تضمحل إلاّ في وجود جدار آخر يُدعى الفيس بوك، ولهذا الجدار حكاية.

جدارية «الزيارة إلى سان ايسيدرو»
هل هذه اللوحة الجدارية تسرق النظر، أم تثير في النفس شيئاً من الكآبة؟!

من الوهلة الأولى في هذا اللوحة المعتمة نطالع خطاً طويلاً متواتراً من الناس المختلفين، مرسوم على وجوههم فزع وترقب. تتعاطف معهم دون أن يثيروا في نفسك المحبة تجاههم فهم بملامح مخيفة، وبعيون مليئة بالهلع.
من هم؟ وإلى أين هم ماضون؟!

سؤال يجيب عنه فرانشيسكو غويا 1746م الذي رسم هذه اللوحة الجدارية الضخمة، إذ بلغ طولها 140 سم، وعرضها 438 سم في منزله «سوردو كينتا ديل» في إسبانيا، في القرن الثامن عشر أيام محاكم التفتيش. إن هذه الجدارية تُعدُّ من أشهر أعمال غويا الفنية، فهي ضمن مجموعة جداريات أخرى رسمها غويا في مرحلة متأخرة من حياته متزامنة مع إصابته بالصمم والأرق، ما جعلته عاجزاً عن النوم والسمع فعاش في جو من الكآبة والسواد. هذه الحالة المأساوية جعلت من غويا يرسم على جدران بيته الذي سُمي «دار الأصم» بألوان سوداء أو مظلمة لشخوص مرعبين أو مفزوعين.

تُعدُّ جدارية «الزيارة إلى سان ايسيدرو» من أكبر جداريات غويا، إذ رسمها في الطابق الأرضي من منزله على أكبر جدار فيه مع جداريات أخرى، وذلك ما بين عام 1819 و1824م، بعدها غادر غويا إسبانيا إلى فرنسا. وبيع المنزل ذو الجداريات السوداوية إلى أشخاص عديدين في مراحل مختلفة إلى أن تملكه البارون دي ايرلانغر 1874م الذي تبرع بهذه اللوحات الجدارية إلى متحف برادو، بما فيها هذه اللوحة التي تمثل شخوصاً مفزوعين في طريقهم لغسل ذنوبهم إلى سان ايسيدرو.

أضف تعليق

التعليقات