صدق أو لا تصدق..
ربما نهضت في هذه الألفية مدن تشبه مدن ألف ليلة وليلة، تتراءى للمسافرين وسط الصحراء كسراب مدينة بناها المردة والعفاريت. إنها مدن عجيبة موادها ليست من الأسمنت والحديد، ولم تبنَ بسواعد البنائين، بل هي مبنية من الرمل وسط كثبان رملية بواسطة كائنات دقيقة لا ترى بالعين المجردة. تحكي لنا ياسمين عبدالله عن هذا الحلم الغريب الذي لا يصدق: إنه حكاية بحث علمي بيئيّ منذ عام 2008م وهو يدغدغ أحلام الفارين من تصحر المدن وزحف الرمل.
إن مشكلة التصحر التي تواجه دول العالم الثالث تجعلهم عرضة للفقر والمجاعات، حيث يطمر الرمل الزروع. ففي الصحراء الكبرى في إفريقيا تزحف الكثبان الرملية بمعدل 600 متر شهرياً متجهة جنوباً، مخربة بذلك الأراضي الزراعية. ومهددة سكانها بالترحيل القسري بسبب التصحر.
إن التصحر يؤثر في بلدان عديدة، تشمل الجمهوريات السوفيتية في آسيا الوسطى والصين والصحراء الكبرى في جنوب إفريقيا. كما تهدد 140 مليون نسمة من سكان نيجيريا. ما جعل الرئيس النيجيري الأسبق أوليسيغون أوباسانغو يقوم في عام 2005م بطرح فكرة مشروع الحزام الأخضر الكبير، وهو حزام شجري وقائي للتصحر يمتد من موريتانيا في غرب القارة الإفريقية إلى جيبوتي شرق القارة، مروراً بمالي والسنغال والنيجر ونيجيريا. ويبلغ طوله 7 آلاف متر، وعرضه 15 كلم. لقد أبهرت هذه الفكرة الاتحاد الأوربي وتجمع دول الساحل والصحراء. فبدأ الرئيس السنغالي عام 2008م بالتشجير منفذاً، بذلك، الجزء الذي يخص بلاده، حيث يبلغ طول الحزام الشجري الخاص بالسنغال 515 كم.
فكرة خلاقة وعجيبة
بما أن ثلث سكان الأرض هم ضحايا مهددون بشبح التصحر، فإن هذه الكارثة الرملية تحتاج إلى فكر خلاّق وروح مبدع لإنقاذ البشر بإنقاذ مواردهم الغذائية من خلال فكرة ذكية. حتى وإن بدت الفكرة غريبة بعض الشيء وغير قابلة للتصديق لدى كثير من الناس، ومثيرة للجدل في أوساط العلماء.
لقد مرت ثلاثة أعوام على البحث البيئي الذي قدمه المهندس المعماري ماغنوس لارسون كمشروع يحقق التكيف، في إطار هندسي، وذلك باستخدام المواد المتاحة في الطبيعة، مستجيباً للقضايا البيئية. لقد كان ماغنوس مهتماً بدراسة الاستراتيجيات التخفيفية التي تهتم بتصميم وبناء أجسام للحماية والتخفيف من الكوارث الطبيعية. وذلك بجعل الأماكن المعرضة للكوارث كالزلازل والطوفان مكيفة لتلقيها، لا أن تمنعها. وبما أن ماغنوس شدته الصحراء الممتدة بجمال رمالها الذهبية. فقد كان مشروعه يدور حول هذه الكثبان الرملية في الصحراء الكبرى التي يفر منها السكان الأصليون لاجئين إيكولوجيين خوفاً وهلعاً من أن تبتلعهم بمدها الذي يتسلل كتسلل حبات الرمل في الساعات الرملية. تتجلى فكرة ماغنوس في بناء جدار ضخم يضاهي سور الصين العظيم في طوله إذ يبلغ 6000 كم، قاسماً الصحراء الكبرى ممتداً من موريتانيا حتى جيبوتي، ومكملاً للحزام الأخضر الشجري، وليس بديلاً عنه. إن هذا الجدار سيبنى بأسلوب هندسي فذ، وبواسطة نوع من البكتيريا!
كيف يحدث هذا؟!
هل يستطيع مهندس معماري أن يحل مشكلة التصحر بواسطة بكتيريا؟! ويبني مدناً في الرمل ومن الرمل بمعاونة كائن لا يُرى بالعين المجردة ؟! تبدو الفكرة شبيهة بأفلام الخيال العلمي، لكن بحسب رأي مؤسسة هولسيم السويسرية المُصنعة للأسمنت، والتي تمنح كل عام جوائز للمهندسين الأكثر ابتكاراً، فقد منحت هذا الشاب السويدي جائزة عن مشروعه الذي أدهش لجنة التحكيم في المؤسسة، كما أدهش الخبراء الصينيين، فضلاً عن بقية العلماء والخبراء، وتحمسوا له علّه ينقذهم من مشكلة التصحر التي يعانونها في صحراء غوبي الشاسعة.
لقد أخذ ماغنوس فكرة استخدام البكتيريا من فريق من الباحثين يعملون في جامعة كاليفورنيا ديفيس، حيث استخدموا هذه البكتيريا لترسيخ الأرض في المناطق المعرضة للزلازل بجعلها رمالاً كونكريتية.. وتقوم فكرة لارسون على حقن الكثبان الرملية على نطاق واسع ببكتيريا عصيّات باستيوري، وذلك باستخدام بالونات مملوءة بها. وتنتج هذه البكتيريا كيميائياً الكالسيت، وهو نوع من البلورات الطبيعة التي تتجمع بفعل هذه العصيّات، وتنتج نوعاً من الأسمنت الطبيعي يجعل الأرض صلدة.
لا تحتاج المهمة، حسب عرض مارغنوس، سوى 1400 دقيقة ليُبنى جدار بطول 6000 كم، مشكلاً حاجزاً منيعاً ضد زحف الرمال.
مدينة الرمل
لن يكون الحزام الشجري الأخضر الذي دعا إليه الرئيس النيجيري الأسبق بكافٍ للحماية من المد الرملي ما لم يكن هناك بشر يقومون بحمايته من غوائل البيئة المحيطة به، لذا كانت فكرة ماغنوس الهندسية، التي تقوم بناءً على هيكل يحضن هذه الأشجار ويحميها، فكرة منطقية إلى حد كبير. إن هذا البناء المستدام الذي سيعتمد على المواد المتاحة في الطبيعة سيوفر مأوى حياتياً للإنسان والكائنات الأخرى، حيث إنه يشبه الكهوف التي يغلفها الرمل الصلد، وذلك بفعل عصيّات باستيوري، حيث تدخل هذه الكائنات الدقيقة بين حبيبات الرمل وتتفاعل معها منتجة مادة السيليكايت التي تعمل كمادة لاصقة بين الحبيبات، ومشكلة، بذلك، جسماً صلباً يواجه الريح الصحراوية والرمل الزاحف. مما يتسنى لنا إقامة جدران تخفيفية مكونة بناءً صالحاً للسكن شبيهاً بالكهوف والهياكل التي تحضن الشجر. وتكون ذات جمال هندسي، حيث تمتد هذه الكهوف والهياكل متراصة في جدار عريض أشبه ببناء ضخم بلا فاصل تتوزع بينه الأشجار والتجاويف الجمالية. كما يمكن نشر هذه البكتيريا على الطبقة السطحية للصحراء لتكون الأرض صلدة تقوم مقام الأسفلت في المدن، وتخفف من ضرر العواصف الرملية. مما يجعل هذه البقعة التي حول الجدار الحاجز أشبه بواحة خيالية، تتوافر فيها جميع المرافق من منازل صالحة للسكن، ومدارس، ومستشفيات، ومطاعم. وربما كان في جزء من هذا الجدار منتجعات صحراوية ساحرة. إن هذا الجدار سيغدو وسيلة هندسية فريدة لربط الدول الصحراوية ببعضها من خلال هذه الواحات الخلابة، وكل هذا سيتم بفعل كائنات لا تُرى بالعين المجردة!
التصميم الهندسي
خلال 1400 دقيقة تستطيع أن تتحول الكثبان الرملية إلى تحف معمارية. وتتحول الصحراء إلى واحات خضراء. وبسبب فعل بيلوجي ناشئ عن اتحاد البكتيريا مع الرمل تقف هذه التكوينات الهندسية في طريق الكثبان قاطعة عليها الطريق. كما أن ماغنوس اختار لهذه التكوينات أشكالاً تشبه البيئة من حيث التجاويف في الجبال بفعل عوامل التعرية، أو ما يشبه الصخور الغائرة والمدفونة في الرمل. ويذكر ماغنوس أن هذه الحبيبات المتلاصقة بالإمكان أن تُبنى منها تفاصيل دقيقية تشبه بتفاصيلها الكنائس القوطية. لكنه يؤمن بأن شكل التصميم يجب أن يتوافق مع البيئة المحيطة به، ليضيف على الصحراء مدناً ذات بُعد درامي وخيالي لتلوح من بعيد مدناً حقيقية يحسبها المسافر سراباً.