قول في مقال

فيسبوك.. عنوان الحرية والشفافية

الانتشار الواسع والسريع جداً لشبكة الإنترنت جعلها تتحول إلى شبكة للتواصل الاجتماعي حتى أصبحت مؤثرة وفاعلة في حياة الشعوب بشكل يفوق الوصف. Al Majalla الصادرة باللغة الإنجليزية نشرت تقريراً عن أمن الشبكات، عرضت فيه آليات عمل وتطور أهم وأشهر مواقع التواصل «فيسبوك». ففي الوقت الذي أصبح فيه الاستغناء عن الإنترنت ضرباً من المستحيل، فرض «الفيسبوك» نفسه جزءاً من الحياة اليومية.

أحدثَ موقع «فيسبوك»- أحد أشهر مواقع الويب وأكثرها انتشاراً- ثورة هائلة في عالم التقنية، حوَّلت نمط تفاعل الناس مع الإنترنت من البحث والاطلاع والقراءة، إلى التواصل والترابط وتبادل الأفكار والرؤى. ويحق لمارك زوكربيرغ، مبتكر الموقع، أن يفاخر بعدد المشتركين الذي تخطى حاجز الـ500 مليون، أي 12/1 من سكان العالم. وفي فرضية تخيلية بناءً على الأرقام، فإن سكان الموقع يضعونه في المركز الثالث بين بلدان العالم من حيث الكثافة السكانية، بل إن هذا العدد ينمو بمعدل تقريبي يبلغ 700 ألف شخص في اليوم، ويمضي عليه المشتركون 700 مليار دقيقة في الشهر، ويقيم أكثر من نصفهم خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وتُعد فئة الشباب الأكثر كمًّا وتميُّزاً وتفاعلاً، وهذا ما تجسَّد في حركات للتغيير الاجتماعي والسياسي تبناها هؤلاء الشباب في أروقة «الفيسبوك» وساحاته، وانطلقت مؤخراً في بعض الدول.
عَبَر «الفيسبوك» حدودَ القارات، لكن الأهم أنه تسلل إلى طريقة استخدام الإنترنت، وإلى أسلوب تفاعل البشر واتصال أحدهم بالآخر. حيث يتيح لك الحفاظ على علاقات تواصل مع أولئك الأصدقاء المقربين منك، فضلاً عن معارفك الذين لا تربطك بهم أواصر وثيقة، لكن النجاح لا يعتمد على مجرد الأصدقاء، بل يمكن عزوه إلى حقيقة أنه توجد شبكة حقيقية من التفاعلات الاجتماعية. فكل شيء موجود على «الفيسبوك»، بدءاً من المكان الذي تدرس فيه إلى المقالة التي تقرؤها على الإنترنت.

لماذا يُعد من المهم توافر هذا القدر من المعلومات الشخصية على «الفيسبوك»؟ إحدى الإجابات تتمثل في أنه يتيح للناس الذين يصعب عليهم التواصل أن يتصل أحدهم بالآخر بطريقة سريعة وفاعلة.

في يناير من هذه السنة 2011م، ومع اندلاع الثورة في كلٍّ من تونس ومصر، أحاط جدل خلافي كثير بفكرة أن «الفيسبوك» جعل من الممكن لهذه الحركات الاجتماعية الانطلاق والانتشار. ونظراً إلى حجم التنظيم الذي حدث بوساطة هذه الوسيلة، وحقيقة أن النظام السابق في مصر اضطر إلى إغلاق شبكة الإنترنت لإخماد ثورة الشباب، فمن العدل القول إن هذا الموقع التواصلي قام بدور كبير ومؤثر.

بينما يمكن القول إن «الفيسبوك» لم يكن مسؤولاً مسؤولية كاملة عن حركات التغيير العربية، إلا أن مبتكره، مارك زوكربيرغ، امتدح بوصفه الفرد المسؤول عما يبدو واضحاً أنها ثورة اجتماعية على مستوى العالم. ومثلما أكدت مجلة «تايم»، فإن «الفيسبوك» «اندمج بحبكة النسيج الاجتماعي للحياة… وأصبح حقيقة دائمة في واقعنا الاجتماعي العالمي. لقد دخلنا عصر «الفيسبوك»، ومارك زوكربيرغ هو الذي أوصلنا إليه».

حين كان مارك زوكربيرغ الذي نشأ في مقاطعة ويستتشيستر في نيويورك يدرس علوم الكمبيوتر وعلم النفس في جامعة هارفارد قبل سبع سنوات، ابتكر موقع الفيسبوك، وأصبح مؤسسه المشارك ومديره التنفيذي، وانتسب إلى أكاديمية إكستر حيث تفوق في دراسة التراث اليوناني والروماني، وتطبيقات الرياضيات على بث البيانات، والمبارزة.

وفي الحقيقة، لم يكن «الفيسبوك» أول ابتكارات زوكربيرغ الناجحة. فسبق أن ابتكر مع صديق له برنامجاً سماه «سينابس» Synapse «مشروع رئيس»، اعتمد على الذكاء الصناعي لاقتفاء عادات الاستماع لدى المستخدمين. وقد علمت كلٌّ من شركة ميكروسوفت Microsoft وإيه أو إل AOL بالبرنامج، وعبَّرت عن الاهتمام بشرائه، وضم زوكربيرغ إلى صفوفها. لكنه رفض الالتحاق بأيٍّ منهما. واختار بدلاً من ذلك الانتساب إلى جامعة هارفارد، حيث سينجح في تطوير مزيد من البرامج، تتميز كلها ببعد اجتماعي ثابت، أحد تلك البرامج يسمى «كورس ماتش» CourseMatch، يتيح للمستخدمين اختيار صفوف دراسية ومقررات اعتماداً على خيارات الطلاب الآخرين. ثم طوَّر فيما بعد برنامج «فيسماش» Facemash حيث يستطيع المستخدمون تحديد المظهر الأفضل بين شخصين.

بالرغم من أن البرنامجين لا يرتقيان إلى مستوى إبداع «الفيسبوك»، لكنهما أظهرا العامل الذي عزاه كثيرون إلى نجاح «الفيسبوك»، قدرة زوكربيرغ على معرفة أن ما يريده الناس هو عالم أكثر شفافية، يعرفون فيه ما يفضلونه، ومن ثم تصبح خياراتهم المتعلقة بالمواضيع المعنية أكثر اعتماداً على المعلومات والمعرفة. وغدت ميزة (like) على «الفيسبوك» من أهم الأدوات، نظراً لأنها تتيح للموقع الاتصال بمواقع شهيرة أخرى مثل: «يوتيوب» أو «أمازون».

ليس «الفيسبوك» اليوم سوى وسيلة تعبير، وعلى شاكلة وسائل التعبير كلها، يمكن بسهولة أن تأخذ نبرة سياسية. لكن ما يُميِّز الموقع عن وسائل الإعلام الأخرى حقيقة أن من الأسهل نشر الأفكار المحددة إذا كان 1/12 من سكان العالم على هذه المنصة. وفي سياق التغييرات الاجتماعية، لا يمكن التعويض عن هذه المزايا للمهتمين بإيجاد زخم داعم للتغيير.

وأثناء ثورة الياسمين في تونس، وضع المستخدمون القادرون على دخول مواقع مثل «يوتيوب»، مقاطع فيديو تظهر تجاوزات الحكومة وانتهاكاتها على «الفيسبوك»، وسرعان ما جندوا المؤيدين للمشاركة في المظاهرات في قلب تونس العاصمة. وفي مصر، أظهر كثير من المقيمين خارج مصر تأييدهم للثورة عبر المشاركة في مظاهرات افتراضية مناهضة للنظام السابق.

تدرك الحكومات قوة «الفيسبوك»، وكثير منها منع الموقع من إعادة تحديد أسلوب مواطنيها في التفاعل على الويب. بل قام النظام التونسي السابق بحملة قرصنة لسرقة كلمات سر المستخدمين، بالرغم من مسارعة الشركة إلى حماية مستخدميها.

وتعبِّر هذه الأمثلة عن القدرة الكامنة في «الفيسبوك» على جعل العالم مكاناً أكثر ترابطاً واتصالاً. ومع أن كثيرين منا بدؤوا الآن فقط يدركون ما يمكن «للفيسبوك» أن يفعله، إلا أن زوكربيرغ عرف هذه الإمكانية وترك الجامعة ولما يبلغ التاسعة عشرة لتأسيس الشركة الشهيرة.

بالرغم من أن الموقع ليس معروضاً للبيع، إلا أن نجاحه الاقتصادي لا يضاهى. وقدرت مجلة «فوربس» عام 2010م ثروة زوكربيرغ «26 سنة» بسبعة مليارات دولار، ما يجعله أصغر ملياردير في العالم. لكن مؤسسة غولدمان ساكس قدرت في يناير قيمة الشركة بخمسين مليار دولار، وثروة زوكربيرغ بخمسة عشر ملياراً.

بالرغم من هذه الثروة الطائلة، اشتهر زوكربيرغ بأسلوبه البسيط في الحياة. وكثيراً ما وصف بأنه «أفقر ثري». فهو يقود سيارة من طراز أكورا، ويسكن بيتاً بالأجرة. في السنة الماضية، قدم هبة مقدارها مئة مليون دولار إلى نظام التعليم العام في نيوارك «بولاية نيوجرسي»، مع أنه ليس من الولاية، ثم تعهد بمنح نصف ثروته هبةً لأعمال الخير طوال حياته.

بالرغم من أن طموحات زوكربيرغ المالية قد تكون محدودة، إلا أن مطامحه «للفيسبوك» لا حدود لها. فبدلاً من الإنترنت، حيث المواقع مستقلة عن بعضها وعن المستخدمين، يريد زوكربيرغ في الجوهر وضع الشبكة برمتها ضمن السياق عبر العلاقات الاجتماعية التي تعرِّف مستخدميها. بكلمات أخرى، يريد تحويل شبكة الإنترنت إلى «فيسبوك» :«الانتقال من حكمة الجماهير إلى حكمة الأصدقاء»، كما تشرح مجلة «تايم».

ذكر زوكربيرغ مراراً أن ما يهمه فعلاً هو «جعل العالم أكثر انفتاحاً واتصالاً». ومن المؤكد أن رؤية زوكربيرغ للمستقبل، مع معدل نمو «الفيسبوك» وانتشاره، أو تسلله واختراقه، وعلاقة الناس بالإنترنت وأحدهم بالآخر، سوف تتحقق.

أضف تعليق

التعليقات