تصدر عن منتدى الاقتصاد العالمي الذي يُعقد في دافوس (سويسرا) كل عام، تقارير تتناول الاقتصاد في العالم وآخر مستجداته. وقد تناول تقرير العام 2013 − 2014، بالتحليل والمناقشة، اقتصاد 148 دولة، وهو بذلك يُعد من أوسع التقارير والدراسات الاقتصادية شمولاً. ويشارك في وضعه بعض كبار الخبراء في دنيا المال والاقتصاد العاملين في المؤسسات الدولية والحكومية والخاصة، وكذلك الجامعات. وعلى الرغم من أنه يتناول في بعض فصوله ما أمكن، اقتصاد كل دولة على حدة، ولا سيما الدول الاقتصادية الكبرى، إلا أن رئيس المنتدى، كلاوس شواب، أصدر في التقرير أيضاً تحليلاً عاماً يشمل في نظرة واحدة، اقتصاد العالم، واستخلص ملاحظات عامة، يمكن أن تكون، من وجهة نظر المنتدى، تحليلاً لمجرى الأمور الاقتصادية ومقترحات للحلول المطروحة، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي لا تزال تجرجر ذيولها، على الرغم من الجهود التي تبذل للخروج منها. فيما يلي، اقتطعنا من التقرير، فصل: أعمدة التنافسية الاثنا عشر، الذي يحلل العوامل المؤثرة في التنافسية، وزيادة الإنتاجية، والتطور الاقتصادي في بلد ما، ويقترح الحلول التي يراها، من أجل أن يحتفظ الاقتصاد بقدرته على المنافسة والتجديد، في سوق اقتصادية معولمة.
نعرّف التنافسية على أنها مجموعة المؤسسات والسياسات والعوامل، التي تحدّد مستوى الإنتاجية في بلد ما. ومستوى الإنتاجية بدوره، هو الذي يحدّد مدى الازدهار الذي يمكن أن يبلغه اقتصاد ما. كما يحدّد أيضاً نسب العوائد التي تحصل عليها الاستثمارات في هذا الاقتصاد. وهذه العوائد هي محركات أساسية لوتيرة النمو فيه. بعبارة أخرى، الاقتصاد الأعلى تنافسية، ينمو مع الوقت بسرعة أكبر على الأرجح.
ولذا، فإن مفهوم التنافسية يرتبط بمكوّنات ستاتيكية وديناميكية. وعلى الرغم من أن الإنتاجية في بلد ما تحدِّد قدرتَه على الاحتفاظ بمستوى عالٍ من الدخل، فإنها أحد الحوافز الأساسية لعوائد الاستثمار، التي هي بدورها من العوامل الأساسية لقدرة الاقتصاد على النمو.
كثير من العوامل تحدّد الإنتاجية والتنافسية. وقد شغل فهم العوامل التي تسيّر هذه العملية، عقول الاقتصاديين مئات السنين، فوضعوا نظريات تراوح من نظرية آدم سميث وتركيزه على التخصّص وتقاسم العمل، إلى نظريات الاقتصاديين النيو كلاسيكيين الذين شدّدوا على الاستثمار في رأس المال المادي والبنية التحتية، إلى النظريات الأحدث التي اهتمت بعوامل أخرى مثل التعليم والتدريب، والتطور التكنولوجي، والاستقرار الماكرو- اقتصادي، وكفاءة الإدارة، وتطوّر الشركات، وجدوى السوق، وغيرها. ومع كون كل هذه العوامل قد تكون مهمة للتنافسية والنمو، فإنها لا ينفي بعضها البعض الآخر، فعاملان أو أكثر قد يكونان فاعلين في الوقت نفسه. والحقيقة أن هذا ما بينته الأبحاث الاقتصادية.
لقد حدّد دليل التنافسية العالمي (Global Competitiveness Index GCI) هذا الأفق المفتوح باحتوائه معدّلاً مدروساً لمختلف العوامل، التي يقيس كل منها مظهراً مختلفاً من التنافسية. هذه العوامل مجموعة في أعمدة التنافسية الاثني عشر:
العمود الأول: المؤسسات
ترتسم حدود البيئة المؤسسية بواسطة الإطار القانوني والإداري الذي يتعامل فيه الأفراد والشركات مع الحكومات لإنتاج الثروة. وقد زادت وضوحاً الحاجة إلى بيئة مؤسسية سليمة ومعافاة، خلال الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة، وهي حاجة ماسة، لا سيما لتعزيز التعافي الهش، بالنظر إلى الدور المتعاظم الذي تلعبه الدولة، على المستوى الدولي وفي اقتصاد عديد من البلدان.
إن لجودة المؤسسات أثراً كبيراً في التنافسية والنمو. فهي تؤثر في قرارات الاستثمار وتنظيم الإنتاج، وتلعب دوراً أساسياً في طرق توزيع المجتمعات الفوائد، وفي تحمّلها تكلفة استراتيجيات التطوير وسياساته. فمثلاً، يرفض ملاكو الأرض، وحاملو الأسهم، وأصحاب الحقوق الأدبية، الاستثمار في تحسين ممتلكاتهم وصيانتها، إذا لم تكن حقوقهم كمالكين، محميّة.
ويتجاوز دور المؤسسات مجرد الإطار القانوني. وتتسم مواقف الحكومات من الأسواق والحريات بأهمية قصوى، وكذلك جدوى أعمالها: فالبيروقراطية المفرطة والمعاملات المعرقلة والمبالغة في القيود والفساد وعدم النزاهة في التعامل بالعقود العامة، والافتقار إلى الشفافية وفقدان الثقة، وعدم القدرة على أداء الخدمات المناسبة لقطاع الأعمال، وارتهان النظام القضائي للسياسة، كل هذه ترتب تكاليف اقتصادية كبيرة على بيئة الأعمال، وتبطئ سير تطور الاقتصاد.
إضافة إلى هذا، فإن حسن إدارة المالية العامة مهم جداً في ضمان الثقة ببيئة الأعمال الوطنية. لذلك أُدرِجت هنا المؤشرات التي تبيّن جودة الإدارة الحكومية للمالية العامة، من أجل اكتمال صورة إجراءات الاستقرار الماكرو اقتصادي.
وعلى الرغم من أن الأدبيات الاقتصادية ركّزت خصوصاً على المؤسسات العامة، فإن المؤسسات الخاصة أيضاً عنصر مهم في عملية إنتاج الثروة. لقد أبرزت الأزمة المالية العالمية، وكذلك العديد من فضائح الشركات، دور المحاسبة ومعايير وضع التقارير والشفافية، في مكافحة الغش وسوء الإدارة، وضمان حسن الإدارة والحفاظ على ثقة المستثمر والمستهلك. والخدمة الجيدة للاقتصاد تؤديها مؤسسات الأعمال التي تدار بنزاهة، والتي يلتزم فيها المديرون سلوكاً أخلاقياً عالياً في التعامل مع الحكومة والشركات الأخرى والجمهور عامة. إن شفافية القطاع الخاص ضرورية للأعمال، وهي ممكنة التحقيق باعتماد المعايير وأساليب المحاسبة والتدقيق التي تضمن توفير المعلومات في الوقت المطلوب.
العمود الثاني: البنية التحتية
البنية التحتية المتطورة والفعّالة، أمر ضروري لضمان عمل الاقتصاد الناشط. وهي عامل أساسي في تعيين مواضع النشاط الاقتصادي، وأنواع النشاط والقطاعات التي يمكنها أن تتطوَّر في بلد ما. فالبنية التحتية المتطورة تحدّ من أثر المسافات بين المناطق، وتوحّد السوق الوطنية وتصلها بتكلفة منخفضة، مع البلدان والمناطق الأخرى. وفوق هذا، فإن جودة شبكة البنية التحتية وتطورها، يؤثران تأثيراً كبيراً على النمو ويقلصان فوارق الدخل والفقر بطرق متعددة. إن تطور البنية التحتية في النقل والاتصالات شرط لا بد منه لالتحاق المجتمعات الأقل تطوراً بصلب النشاطات والخدمات الاقتصادية.
وتتيح وسائل النقل المناسبة– ومنها الطرق الجيدة والسكك الحديدية والمرافئ والمطارات- للمقاولين أن يوفروا بضائعهم وخدماتهم في السوق، بطريقة آمنة وبلا تأخير، وتسهّل حركة العمال إلى مواقع عملهم. كذلك يعتمد الاقتصاد على توفير التيار الكهربائي بلا انقطاع، حتى تعمل الشركات والمعامل بسلاسة. وأخيراً، تتيح شبكة الاتصالات اللاسلكية المتطورة والواسعة الانتشار، تدفقاً سريعاً وحراً للمعلومات، وتزيد الجدوى الاقتصادية العامة، بضمانها الاتصال بين المؤسسات والشركات، وتسهيل اتخاذ القرارات في مواقع القرار الاقتصادي، استناداً إلى المعلومات المتوافرة لذلك.
العمود الثالث: البيئة الماكرو اقتصادية
إن استقرار البيئة الماكرو اقتصادية مهم للأعمال، ولذلك فهو مؤثر في التنافسية الإجمالية لبلد ما. ومع انه من المؤكد، أن الاستقرار الماكرو اقتصادي وحده لا يستطيع أن يزيد إنتاجية شعب ما، إلا أن المسلَّم به، هو أن عدم الاستقرار الماكرو اقتصادي مضر بالاقتصاد، كما شهدنا في السنوات الأخيرة، لا سيما في الإطار الأوروبي.
فالحكومة لا تستطيع أن توفر الخدمات المجدية، إذا كان عليها أن تدفع فوائد مرتفعة على ديونها الماضية. وعجز الموازنات يحد من قدرة الحكومة في المستقبل، على التعامل المناسب مع الدورات (cycles) في بيئة الأعمال. ولا تستطيع الشركات أن تعمل بجدوى، حين تكون نسب التضخم فوق الاحتمال. وفي الإجمال، لا يستطيع الاقتصاد أن ينمو نمواً مستداماً إلا إذا كانت البيئة الماكرو اقتصادية مستقرة. وقد لفت الاستقرار الماكرو اقتصادي أخيراً انتباه الجمهور، عندما احتاج اقتصاد بعض البلدان المتقدمة، لا سيما الولايات المتحدة، وبعض البلدان الأوروبية، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للحيلولة دون اهتزاز الاستقرار الماكرو اقتصادي، حين بلغت نسبة ديونها العامة مستوى غير مستدام، في إثر الأزمة المالية العالمية.
العمود الرابع: الصحة والتعليم الأساس
إن صحة اليد العاملة حيوية لتنافسية بلد ما وإنتاجيته. فالعمال المرضى لا يمكنهم أن يعملوا بكامل طاقتهم، إذ تنخفض إنتاجيتهم. والمرض يرتب تكاليف كبيرة على الشركات، فالعمال المرضى يتغيبون عن العمل أو يعملون بمستوى منخفض من الجدوى. ولذا فإن الاستثمار في الخدمات الصحية ضروري في الاقتصاد السليم، مثل الاستثمار في الصحة المعنوية واعتباراتها.
إضافة إلى الصحة، يأخذ هذا العمود في الحسبان مقدار التعليم الأساس المتوافرة للشعب وجودته، وهو تعليم متعاظم الأهمية في اقتصاد اليوم. فالتعليم الأساس يرفع مستوى إنتاجية العامل الفرد. إضافة إلى هذا، فإن العمال الذين حصلوا على القليل من التعليم الرسمي، لا يقوون إلاَّ على المهام اليدوية البسيطة، ويجدون صعوبة في التكيف مع وسائل الإنتاج المتطورة وتقنياتها المتقدمة. ولذا فإن إسهامهم في الابتكار أقل من الآخرين. بعبارة أخرى، يمكن لانعدام التعليم الأساس، أن يصبح عقبة في وجه تطوير الشركات، حين تصادف مصاعب في رفع مستوى العمل، وتعزيز جودة المنتجات وقيمتها.
العمود الخامس: التعليم العالي والتدريب
التعليم العالي الجيد والتدريب ضروريان للاقتصاد الذي ينوي أن يرفع مستوى جودة المنتجات، متخطياً وسائل الإنتاج البدائية والمنتجات البسيطة. فثمة صلات قائمة بين تعزيز معايير الجودة العابرة للحدود، والتنافسية. وعلى الخصوص، تتطلّب عولمة الاقتصاد من البلدان المختلفة، أن تشجِّع الاتصال الفكري بين العاملين ذوي التعليم العالي، القادرين على أداء مهام معقدة والتكيّف بسرعة مع بيئتهم المتبدّلة ومع الحاجات المتطورة لنظام الإنتاج. ويفرض هذا العمود قياس مستويي التوظيف الثاني والثالث، وكذلك جودة التعليم كما يحدّدها رؤساء الشركات، وأيضاً مدى التدريب اللازم للعاملين، بسبب أهمية التدريب المهني المتواصل، في أثناء أداء العمل- وهو أمر يهمله كثير من البلدان- لضمان عدم التوقف عن تعزيز مهارة العاملين.
العمود السادس: فاعلية سوق السلع
تكون البلدان التي تتوافر لها سوق سلع فعّالة، في وضع جيد لإنتاج المجموعة المناسبة من السلع والخدمات، نظراً إلى شروطها المتلائمة مع العرض والطلب، وإلى سعيها لضمان أن تكون هذه السلع قابلة للتسويق في الاقتصاد. والمنافسة في السوق الصحية، المحلية والخارجية، هي منافسة مفيدة في السوق الفعّالة، وبالتالي في إنتاجية الشركات، فهي تضمن أن تصنع أجدر الشركات السلع التي تطلبها السوق، فتكون هذه أكثر الشركات ازدهاراً.
إن أفضل بيئة ممكنة لتبادل السلع، تتطلب أدنى مستوى ممكن من تدخل الدولة الذي يعوق نشاط الأعمال. فمثلاً، تعاق التنافسية بفعل الضرائب المشوِّهة أو المثقِلة، ومن جراء القواعد التي تحدّ الاستثمار الأجنبي المباشر (Foreign Direct Investment FDI)- أو تميّز حياله على نحو يحدد الملكية الأجنبية- أو من جراء القيود التي تقيد التجارة الدولية. لقد سلطت الأزمة الاقتصادية الأخيرة الضوء على الارتباط القوي بين اقتصاد البلدان في العالم، ومدى علاقة النمو بالأسواق المفتوحة. وإجراءات الحماية مضرة لأنها تقلّص النشاط الاقتصادي العام.
وتتوقّف فعالية السوق أيضاً على شروط الطلب، مثل توجّه المستهلك وتطوّر أساليب عمل البائع. فلأسباب ثقافية أو تاريخية، قد يكون الزبائن أكثر تطلباً في بعض البلدان، من بعضها الآخر. وقد ينشئ هذا الأمر ميزة تنافسية مهمة، لأنه يجبر الشركات على أن تكون أكثر تجديداً وتوجّهاً نحو المستهلك، وبذلك يَفرض السلوك الضروري لتحقيق الفعالية في السوق.
العمود السابع: جدوى سوق اليد العاملة
تُعد جدوى سوق اليد العاملة ومرونتها حيوية في ضمان أن يعمل العامل في أجدى وظيفة له في الاقتصاد، وأن يعطى الحوافز، حتى يؤدي أفضل أداء في عمله. لذا ينبغي أن تكون سوق اليد العاملة مرنة، حتى ينتقل العامل من نشاط اقتصادي ما إلى آخر، وبتكلفة منخفضة، وأن تتيح حركة في الأجور، من دون اضطراب اجتماعي. لقد ظهرت أهمية هذا الأمر على نحو دراماتيكي في أحداث البلدان العربية، حيث كان تصلّب أسواق اليد العاملة سبباً مهماً في ارتفاع نسبة بطالة الشبان، وأدى إلى اشتعال الاضطراب الاجتماعي في تونس. ونسبة البطالة بين الشبان، عالية أيضاً في عدد من الدول الأوروبية، حيث لا تزال تقوم حواجز مهمة تحول دون دخول سوق العمل.
على أسواق اليد العاملة المجدية أيضاً أن توفّر حوافز واضحة وقوية للعاملين، وتبذل جهوداً لتعزيز فلسفة المكافأة في بيئة العمل، وأن تضمن حقوق المساواة في الأعمال بين المرأة والرجل. فإذا أُخذت هذه العوامل معاً في الحسبان، فسيكون لها أثر إيجابي على أداء العامل وجاذبية البلد للمواهب، وهما مظهران متناميان في الأهمية، نظراً إلى شح المواهب الذي يلوح في الأفق.
العمود الثامن: تطوّر سوق المال
ألقت الأزمة المالية والاقتصادية الضوء على الدور المركزي الذي يلعبه القطاع المالي السليم، في النشاط الاقتصادي. فالقطاع المالي الفعّال يوفّر الموارد التي يدّخرها مواطنو بلد ما، وأولئك الذين يدخلون الاقتصاد آتين من الخارج، من أجل أكثر الأغراض إنتاجية. إنه يمد بالموارد مشاريع المقاولات أو الاستثمارات التي تملك أعلى معايير الدخل المتوقّعة، لا تلك التي تملك النفوذ السياسي. ولذا يعدّ تقدير المخاطر الدقيق والسليم، شرطاً ضرورياً لسوق المال الجيدة.
والاستثمار في الأعمال يعدّ ضرورياً للإنتاجية. لذا يحتاج الاقتصاد إلى أسواق مال متطوّرة، تستطيع أن توفّر رأس المال لاستثمار القطاع الخاص، من مصادر كالقروض من قطاع مصرفي سليم، وتبادل سندات جيدة الإدارة، واستثمار رؤوس المال، والمنتجات المالية الأخرى. ومن أجل أداء كل هذه المهام، يحتاج القطاع المصرفي إلى أن يزرع الثقة وأن يكون شفافاً، وكما قيل أخيراً على نحو واضح، أن يكون لأسواق المال تنظيم جيد لحماية المستثمرين واللاعبين الآخرين في ميدان الاقتصاد عموماً.
العمود التاسع: الجاهزية التكنولوجية
في الاقتصاد المعولم اليوم، يتعاظم دور التكنولوجيا في الشركات، حتى تتمكن من المنافسة والازدهار. ويتضمن عمود الجاهزية التكنولوجية قياس سرعة اعتماد اقتصاد ما الوسائل التكنولوجية المتاحة لتعزيز الإنتاجية في الصناعة، مع تشديد خاص على قدرة هذا الاقتصاد على الاستفادة التامة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (Information and Communication Technologies ICT) في النشاط اليومي وخطوط الإنتاج، لتحسين الجدوى والقدرة على التجديد من أجل التنافسية.
لقد تطوّرت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لتصبح “تكنولوجيا لكل الأغراض” في زمننا هذا، نظراً إلى امتداد فوائدها إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى، ودورها بصفتها بنية تحتية لتوسيع آفاق الصناعة. لذا فإن اعتماد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، واستخدامها، يشكلان مفتاحاً أساسياً لبلوغ البلدان الجاهزية التكنولوجية الشاملة.
وسواء أكانت هذه التكنولوجيا المستخدمة، من نتاج وطني أم أجنبي، فلا فرق في قدرتها على تعزيز الإنتاجية. والنقطة المركزية هي أن الشركات العاملة في بلاد ما، تحتاج إلى اعتماد منتجات أو تصاميم متطورة، وإلى القدرة على استيعابها واستخدامها. ومن المصادر الرئيسة للتكنولوجيا الأجنبية، يلعب الاستثمار الأجنبي المباشر عادة دوراً مركزياً، لا سيما في البلدان الأقل تقدماً في التطوّر التكنولوجي. ولا بد من الإشارة في هذا السياق، إلى أن التكنولوجيا المتاحة للشركات في بلد ما، تحتاج إلى أن تكون متقدمة على مستوى قدرة هذا البلد على الأبحاث العديمة التطور، وأن تطور تكنولوجيا متقدمة للتجديد الذي يوسّع آفاق المعرفة. لهذا نفصل بين الجاهزية التكنولوجية والتجديد، الذي يتناوله العمود الثاني عشر، أدناه.
العمود العاشر: حجم السوق
يؤثّر حجم السوق في الإنتاجية، ما دامت الأسواق الكبيرة تتيح للشركات أن تستغل اقتصاد هذا الحجم. لقد كانت الأسواق المتاحة للشركات، محدودة تقليدياً بالحدود الوطنية. وفي عصر العولمة، حلت الأسواق الدولية محل الأسواق المحلية، لا سيما للبلدان الصغيرة. ويشير المنطق الشائع إلى أن الانفتاح التجاري مرتبط ارتباطاً إيجابياً بالنمو. وحتى لو كانت بعض الأبحاث الأخيرة تثير الشكوك حول صلابة هذه العلاقة، إلا أن ثمة إحساساً عاماً، بأن للتجارة أثراً إيجابياً في النمو، لا سيما في البلدان ذات السوق المحلية الصغيرة.
لذلك يمكن النظر إلى الصادرات على أنها بديل عن الطلب المحلي، في تعيين حجم السوق للشركات في بلد ما. وإذ نضم كلاً من السوق المحلية والأسواق الخارجية معاً في قياسنا لحجم السوق، فإننا نأخذ في الحسبان الاقتصاد المتّجه إلى التصدير، وكذلك المناطق الجغرافية (كالاتحاد الأوروبي مثلاً) التي تضم بلداناً عديدة، لكن لها سوقاً مشتركة واحدة.
العمود الحادي عشر: تطور الأعمال
لا شك في أن تطور (sophistication) أساليب إدارة شركات الأعمال، يؤدي إلى تعزيز الجدوى في إنتاج السلع والخدمات. ويختص تطور هذه الأساليب بعنصرين مترابطين ترابطاً معقّداً: جودة شبكات الأعمال العامة في بلد ما، وجودة أعمال كل شركة واستراتيجيتها منفردة. هذه العوامل مهمة جداً للبلدان، في مراحل التطور المتقدمة، حين تكون المصادر الأولية لتحسين الإنتاجية قد استُنفدَت، إلى حدّ بعيد. إن مستوى جودة شبكات الأعمال والصناعات المساندة في بلد ما، وهي جودة نقيسها بعدد المنتجين المحليين ومستواهم ومدى تعاونهم، مهمة لأسباب عديدة. فعندما تكون الشركات ويكون المنتجون في قطاع ما على اتصال فيما بينهم، ضمن مدى جغرافي قريب، في شكل عنقود (cluster) تتحسّن الجدوى، وتتاح مجالات أكبر للتجديد في أساليب العمل والمنتجات، وتتقلص الحدود لدخول شركات جديدة. أما الاستراتيجيات وأساليب العمل المتقدمة في شركات الأعمال الفردية (العلامة التجارية، والتسويق، والتوزيع، ووسائل الإنتاج المتطورة، وإنتاج منتجات متقدمة) فتفيض على مجمل الاقتصاد، وتستفيد منها الشركات الأخرى، لتحسين أساليب عملها وتحديثها، في كل قطاعات الأعمال في البلاد.
العمود الثاني عشر: التجديد
يمكن أن يَنتج التجديد من المعرفة الجديدة، التكنولوجية وغير التكنولوجية. التجديد غير التكنولوجي مرتبط جداً بالمهارة والبراعة وظروف العمل التي توفرها النظم، ولذلك فإنه عولج إلى حد بعيد في العمود الحادي عشر. وأما عمود التنافسية الأخير هذا فيركز على التجديد التكنولوجي. على الرغم من المكاسب الكبيرة التي يمكن جنيها، بتحسين المؤسسات، وإنشاء البنية التحتية، وتقليص عدم الاستقرار الماكرو اقتصادي، وتعزيز رأس المال البشري، فإن جميع هذه العوامل تُقتطَع من الدخل. ويقال الشيء نفسه في جدوى اليد العاملة، وأسواق المال والسلع. وفي المدى البعيد، يمكن للتجديد التكنولوجي أن يحسّن كثيراً مستوى المعيشة.
لقد كانت الثورة التكنولوجية سبباً في تقدم الإنتاجية في مجالات كثيرة، في تاريخ اقتصادنا. ويراوح هذا التقدم من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، واختراع المحرك البخاري وتوليد الكهرباء، حتى الثورة الرقمية الأخيرة. فهذه الثورة لم تبدّل فقط أسلوب فعل الأشياء، بل فتحت أيضاً مجالاً أرحب لاحتمالات جديدة في المنتجات والخدمات. والتجديد مهم جداً للاقتصاد لا سيما في البلدان التي تقترب من حدود المعرفة. والقدرة على إنتاج قيمة مضافة، باعتمادها فقط وتكييفها التكنولوجيا الأجنبية، تتجه إلى الاضمحلال.
وعلى الرغم من أن البلدان الأقل تقدماً، لا تزال قادرة على تحسين إنتاجيتها باعتماد التكنولوجيا المتاحة، أو بتحسينها مكاسبها في مجالات أخرى، فإن هذا الأمر لم يعد كافياً للبلدان التي بلغت مرحلة تجديد التطور، من أجل زيادة الإنتاجية. وعلى الشركات في هذه البلدان، أن تصمّم وتطوّر أحدث المنتجات والأساليب، لحفظ تنافسيتها والتقدم نحو منتجات ذات قيمة مضافة أعلى. ويتطلب هذا التقدم، بيئة ملائمة للنشاط التجديدي، يساندها القطاعان العام والخاص.
وعلى وجه التخصيص، يعني هذا التقدم استثماراً كافياً في الأبحاث والتطوير، خصوصاً في القطاع الخاص؛ ووجود مؤسسات أبحاث علمية عالية المستوى، قادرة على إنتاج المعرفة الضرورية لبناء التكنولوجيا الجديدة؛ والتعاون الواسع في الأبحاث والتطوير التكنولوجي بين الجامعات والصناعة؛ وحماية الحقوق الأدبية، إضافة إلى مستوى رفيع من التنافس، وإتاحة رأس المال والتمويل.
وفي ضوء التعافي الاقتصادي البطيء، وتعاظم ضغوط الموازنة في الدول ذات الاقتصاد المتقدم، لا بد من أن يقاوم القطاعان العام والخاص الضغوط الرامية إلى الاقتطاع من موازنات الأبحاث والتطوير، لأنها حيوية جداً لمواصلة النمو المستدام في المستقبل.
ترابط الأعمدة الاثني عشر
على الرغم من أننا عالجنا مضمون أعمدة التنافسية الاثني عشر، كلاً على حدة، إلا أنه لا بد من أن نلاحظ أنها ليست مستقلة واحدها عن الآخر. وهي تميل إلى مساندة بعضها بعضا. وغالباً ما يُلحِق الضعف في أحدها الضرر بالأخرى. فمثلاً، يصعب جداً بلوغ قدرة قوية على التجديد (العمود 12)، دون يد عاملة جيدة التعليم والتدريب (العمودان 4 و5)، قادرة على استيعاب التكنولوجيا الحديثة (العمود 9) ومن دون تمويل كافٍ (العمود 8) للأبحاث والتطوير، أو من دون وجود سوق سلع فعّالة، تتيح تسويق السلع الجديدة (العمود 6). ومع أن الأعمدة الاثني عشر أُدرِجت على دليل واحد، إلا أن مؤشراتها يجب أن تقاس على انفراد، لأن هذه المؤشرات تشير إلى النطاق الخاص الذي يحتاج فيه بلد ما إلى التحسين.