هل أنت راضٍ عن عملك؟ هل تستمتع بعملك أم إنه مجرد عملية اجترار شاقة لساعات الدوام الطويلة؟ هل فكَّرت أن تتخلى عن وظيفة تمنحك دخلاً مجزياً بحثاً عن آخر يمنحك الشعور بالرضا الداخلي؟ وهل فكرت يوماً أن تعمل بلا مرتب؟
في عام 1995م بدأ الإعداد لإطلاق مشروعين لموسوعتين، الأولى هي موسوعة «الإنسكلوبيديا» التي قامت شركة مايكروسوفت العالمية بتمويلها واختيار أفضل الاختصاصيين من مشرفين وكتَّاب ومحررين لتحرير المقالات حول آلاف الموضوعات، حيث سيتم لاحقاً بيعها على شكل أقراص ليزرية وعبر الإنترنت. أما المشروع الثاني فهو موسوعة «ويكيبيديا» التي لم تقم أية جهة بتمويلها وإنما أشرف عليها عشرات الآلاف من الهواة ممن عملوا على كتابة وتحرير أكثر من 13 مليون مقال في 269 لغة، بهدف المتعة والتسلية فقط، لتنشر على الشبكة وتكون متاحة مجاناً لجميع المستخدمين.
لو طرحنا حينئذ سؤالاً على أستاذ في الاقتصاد حول مستقبل الموسوعتين وأيهما سينتشر وأيهما سيموت سريعاً، فلا شك أنه واستناداً لنظريات الاقتصاد والإدارة الناجحة سيجيب بأن الموسوعة التي تم تمويلها والتخطيط لها بشكل متقن ستكون نتائجها مضمونة وناجحة، وأي افتراض آخر سيكون مدعاة للسخرية، لكن ما حدث كان مدهشاً حقاً.. فبعد 16 سنة من إطلاق الانسكلوبيديا سحبت شركة مايكروسوفت الإعلان من موقع انكارتا والقرص المدمج وموقع الموسوعة على الشبكة، بينما أصبحت الويكيبيديا أهم موسوعة في العالم بعد ثماني سنوات فقط من إطلاقها.
فما الذي دفع مجموعة من الهواة لقضاء أكثر من ثلاثين ساعة أسبوعياً في عمل يدركون تماماً أنه لن يعود عليهم بأي مردود مادي، ما هو هذا الحافز الذي دفعهم لإنجاز عمل تفوَّق على منتج شركة ضخمة دفعت لموظفيها رواتب مجزية مقابل القيام بعمل مشابه؟! هذا ما يحاول دانيال بينك، الكاتب والصحافي الأمريكي، في كتابه هذا أن يجيب عنه، مستنداً لنتائج عقود من التجربة في محاولة لتفسير السلوك البشري ومعرفة الدوافع الحقيقية وراء تصرفاتنا، حيث يحاول «بينك» ردم الفجوة الكبيرة بين ما يعرفه العلم وما يفعله العمل.
الجزرة والعصا
وفقاً لنظريات العلم هناك دافعان أساسيان وراء السلوك البشري، الأول بيولوجي نشأ مع بداية وجود الإنسان على الأرض ودفعه للسعي من أجل البقاء عبر إشباع حاجاته الأساسية من طعام وشراب ورغبة جنسية. ومع تطور المجتمع البشري ظهرت الحاجة للعيش ضمن جماعات للدفاع عن نفسها والتعاون فيما بينها. وبدأ يتشكل مفهوم الدافع الثاني القائم على مبدأ الثواب والعقاب فيسعى الفرد للعمل طمعاً في البقاء ضمن الجماعة ويكبح دافعه الأول فلا يسرق طعام جاره مثلاً، خوفاً من العقاب. هذا النظام الجديد القائم على مبدأ الجزرة والعصا مكّن الإنسان من تغيير كل شيء بدءاً من سنِّ القوانين وانتهاء بإدارة المتاجر وحتى الثورة الصناعية التي قامت أسسها على هذا الدافع الذي أدى للتطور الاقتصادي في العالم. لذلك فهو دافع متأصل ومتجذر في نفوسنا بشكل قد لا نشعر حتى بوجوده؛ فالعامل يعمل طمعاً بالجزرة وخوفاً من العصا وكذلك الطالب في مدرسته والطفل في أسرته والموظف في عمله.
بقي هذا الدافع لعقود طويلة المحرِّك الأساسي للسلوك البشري ولا سيما في القرنين الماضيين، عندما كان العمل عبارة عن ساعات طويلة من الممارسة الروتينية المملة، فلم تكن هناك وسيلة لتحسين الأداء وزيادة الإنتاج أفضل من أسلوب الجزرة والعصا. ولكن ومع بداية القرن الواحد والعشرين بدأ الاقتصاد العالمي يزداد نمواً وتعقيداً وأصبح سوق العمل يتطلب قدرات عالية ومهارات جديدة، فلم يعد هذا الدافع كافياً للتحفيز، فالبشر ليسوا مجرد أحصنة يتم دفعها للعمل، ولهذا يحذرنا بينك من النتائج الخطرة لاستخدام المكافآت والحوافز المادية في أعمال يتطلب القيام بها وجود دافع ثالث مختلف تماماً وهو دافع داخلي جوهري يدفع الإنسان للعمل والإبداع بعيداً عن الدوافع الخارجية.
مكافآت أقل.. إبداع أكثر؟!
يعي «بينك» تماماً أن ما يطرحه في كتابه هذا قد يبدو غير منطقي ومثيراً للجدل، فكيف لرجال الاقتصاد أن يصدِّقوا أن للجوائز والمكافآت المادية تأثيراً سلبياً بعد أن كان معظم أصحاب الأعمال والشركات يؤمنون بأنها أفضل طريقة لتحفيز الموظفين. لكنه يؤكد قبل الحديث عن أي محفزات جديدة، أنه يجب أن يتم تأمين دخل جيد للموظف يمكنه من العمل والإبداع دون أن يشغله وضعه المادي. وعندها فقط يصبح المحفز المادي مضراً بالأعمال التي تتطلب وجود دافع داخلي للقيام بها، وعند محاولة تحفيزها بمكافأة مادية فإننا قد نفقد ذلك الميل الطبيعي نحو العمل، فأنت مثلاً عندما تمنح طفلاً جائزة مقابل تعلم الرياضيات فإنك تفقده هذا الميول على المدى البعيد وتحوله من متعة خاصة لعمل شاق. أو عندما تعرض عليه مكافأة شريطة قراءة ثلاثة كتب فإنه قد يقرأها، ولكنه لن يبدأ بكتاب رابع أبداً. يقول «بينك» لا بأس من منح الطفل مكافأة بعد القيام بالعمل ودون توقع مسبق لها، ولكن المكافآت من نوع «إذا فعلت كذا ستحصل على كذا» مضرة جداً لأنها تفقدهم استقلالهم ومبادرتهم الذاتية بدلاً من تنمية هذه الميول والرغبة في التعلم. فالمال يمكن أن يشكِّل دفعة إضافية ولمدى قصير فقط تماماً، كما يفعل كوب من القهوة عندما يبقينا متيقظين لوقت أطول ولكن سرعان ما يتلاشى مفعوله، كما أنه يقلل من عمق ومدى تفكيرنا فنفكر فقط بحل المشكلة المطلوب حلها للحصول على المكافأة، بينما الدافع الداخلي أكثر دواماً واستمراراً ويمنحنا بعداً وعمقاً في تفكيرنا وطاقة أكبر للاستمرار في العمل والانغماس فيه.
هذا هو الدافع الثالث الذي تم تجاهله لعقود طويلة، وهو عبارة عن رغبة داخلية للقيام بعمل نحبِّه فنشعر بأنه مشروعنا الخاص، وأن العمل فيه هو مكافأة بحد ذاتها، لأنه يمنحنا شعوراً بالرضا الداخلي ويشبع لدينا تلك الحاجة الإنسانية العميقة لقيادة حياتنا الخاصة والتعلم والعمل وإبداع أشياء جديدة لنجعل من أنفسنا وعالمنا شيئاً أفضل.
مما يعني أن تجربة الويكيبديا ليست مجرد حالة شاذة فهناك الكثير من التجارب الناجحة المماثلة لأعمال لم يكن الدافع المادي وراءها. فهناك مثلاً العديد من البرامج التقنية التي صممها مبرمجون ومتطوعون حول العالم، من بينها مستعرض Firefox المجاني، والذي سجل أكثر من 150 مليون مستخدم حول العالم، وبرنامج Linux وسيرفر Apache المجاني والكثير من المؤسسات غير النفعية والمشاريع التي أطلق عليها اسم مشاريع «مصدر مفتوح» كالبحوث الطبية وتصاميم السيارات والصور الفوتوغرافية والاستشارات القانونية المتوافرة مجاناً على الشبكة. ولهذا قام باحثون اقتصاديون ألمان بدراسة ظاهرة هذه المشاريع المنتشرة حول العالم، ووجدوا أن ما يدفع المشاركين فيها هو دوافع داخلية مسيطرة تتمثل بالمتعة والتحدي والرغبة بتقديم شيء جديد للعالم.
هل توافق على بيع دمك؟
عندما قام عالم اجتماع بريطاني بدراسة موضوع التبرع بالدم في بريطانيا، وصل لنتيجة مفادها أن دفع مكافأة مالية مقابل تبرع المواطنين بالدم ليس فقط عملاً لا أخلاقياً وإنما هو أسلوب غير فعَّال أيضاً. فالمتبرع يقوم بهذا العمل رغبة بفعل الخير فقط وليس للحصول على المال «إنه شعور لا يمكن للمال شراؤه وإلا فما سبب ارتفاع نسب التبرع بالدم في أوقات الكوارث والأزمات الإنسانية؟».
يكون للمال تأثير سلبي عندما نحاول استخدامه لترسيخ السلوك الجيد والتخلص
من السلوك السيء، فيكون له نتيجة عكسية، وقد يؤدي إلى التعود على الغش واتباع أية وسيلة لإتمام العمل، بينما لو شعر بمتعة هذا العمل فلن يتبع أقصر الطرق لإنجازه. إضافة لخطر الإدمان على المكافآت، حيث يؤدي ذلك إلى أننا لا نقوم بسلوك جيد إلا مقابل مكافأة مادية.
عندما يتحوَّل العمل إلى تسلية
في رواية مارك توين «مغامرات توم سوير» هناك أحد المشاهد الخالدة في الأدب الأمريكي التي تقدِّم درساً في الدوافع البشرية. عندما يكلف توم بمهمة شاقة هي عبارة عن طلاء سياج حديقة العمة بولي، فيشعر حينئذ بأن الحياة فارغة وأن الوجود مجرد عبء ثقيل، ولكن عندما يسخر صديقه من حظه التعس ونصيبه هذا يخطر لتوم فكرة رائعة بأن يحوِّل هذا العمل الشاق للعبة مسلية ويقنع نفسه والآخرين أن الأمر ليس مروعاً لهذا الحد بل هو امتياز رائع ومتعة بحد ذاتها، لدرجة أنه رفض أن يسمح لصديقه أن يجرِّب تلك المتعة حتى عرض عليه أن يمنحه دقائق من العمل مقابل تفاحة، فانتهى الأمر بأن وقع أولاد الحي في فخ توم، وقاموا جميعهم بالعمل على أتم وجه ليجربوا تلك المتعة التي تحدث عنها توم. يستخلص توين من هذا المشهد «مبدأً تحفيزياً رئيساً» يقول إن العمل هو ما نعتبره مهمة إلزامية واللعب هو أي عمل لم نجبر على القيام به. فبدل من مكافأة الطفل على أي مهمة يكلف بها، الأمر الذي قد يجعلها مهمة شاقة مهما كانت بسيطة، لِمَ لا نجرِّب أن نجعل مجرد القيام بها هو المكافأة بحد ذاتها، وجعله يعدّها تسلية وامتيازاً يتميز به دوناً عن غيره.
الاستقلال والتحكم والهدف
لاعب أم بيدق؟
ولهذا تفشل بعض المؤسسات في تحويل المهمات الشاقة لممارسة ممتعة لأنها لا تمنح موظفيها متسعاً من الحرية وبيئة مناسبة لتنمية الدافع الداخلي، فلكي نحب ما نعمله يجب أن نتمتع بالاستقلال والتحكم الذاتي ونصل مرحلة الاحتراف ونضع لأنفسنا هدفاً محدداً. يقول مدير إحدى الشركات «إذا كنت تريدني أن أحفزِّك فلا أريد أن أوظفك»، فعندما يشعر الموظف بأنه شريك في العمل ويبدأ باستخدام ضمير المتكلم بدل الغائب فيقول «شركتنا» بدل «شركتهم»، يكون قد وصل لمرحلة الاستقلال، واعتبر نفسه لاعباً بعد أن كان الموظفون بسبب دافع الجزرة والعصا ولعقود طويلة مجرد بيادق.
كان مدير شركة 3M الأمريكية يقول: «اختر موظفين جيدين واتركهم بمفردهم». وهذا ما حاول مدير الشركة التقنية Meddius تطبيقه، عندما منح موظفيه استقلالاً تاماً في الوقت والمكان والأسلوب الذي يعملون به من خلال اعتماد نظام «بيئة عمل النتائج فقط» حيث لم يعد هناك مواعيد محددة لدوام الموظفين، ولا مكان محدد لعملهم بل عليهم أن يظهروا فقط لعرض نتائج عملهم. اعتبرها البعض فكرة مجنونة ولكن مدير الشركة كان يؤمن بأن الإدارة الجيدة ليست أن تتجوَّل بين مكاتب الموظفين لترى إن كانوا يعملون، بل أن تؤمِّن لهم بيئة عمل مناسبة ليبدعوا وينتجوا بعيداً عن الضغط والتوتر، وعند هذا لن يفكروا بالبحث عن عمل آخر حتى وإن كان براتب مضاعف لأن الحرية التي منحت لهم في العمل أهم من أي اعتبارات أخرى ولا سيما أنها شركة تقنية وأغلب موظفيها من المصممين والمبرمجين ممن يتطلب عملهم إبداعاً واستقلالاً.
أما مؤسس شركة Atlassian الأسترالية فقد خصص يوماً كاملاً للقيام بمشاريع خاصة يختارها الموظف، حتى وإن لم تكن ضمن مجال عمله، وأطلق عليه «يوم فيديكس» إذ كان عليهم تسليم المشروع خلال 24 ساعة، فكانت النتيجة أن خرجوا بمجموعة من أهم برامجهم التقنية. وكذلك فعلت شركة جوجل فكان من نتائج يوم المشاريع الحرة هذا الكثير من البرامج التي أضيفت لشبكة جوجل، وزادت من انتشاره كأخبار جوجل والمترجم وبرامج المحادثة والمراسلة.
عندما يتوافر للموظف هذا الاستقلال ويشعر بالرضا الداخلي في عمله فإنه ينسى نفسه أثناء عمله، وقد يعمل حتى ساعات متأخرة مما يجعله يصل لمرحلة «التدفق» وهي حالة من التركيز العالي التي يتمدد فيها العقل لأقصى حدوده بفضل جهد إرادي لإتمام مهمة صعبة تستحق العناء وهو بهذا يصل للمهنية والاحتراف. وبالطبع لا بد كذلك من وجود هدف واضح أمامه يسعى لتحقيقه ويمنحه الطاقة المحفزة على الحياة. أي على كل منا أن يحدد جملته في الحياة كما نصحت كلار بوث لوس الرئيس الأمريكي جون كينيدي قائلة إن الرجل العظيم هو عبارة عن جملة واحدة، فجملة إبراهام لينكولن مثلاً كانت: «حافظ على الاتحاد وحرِّر العبيد»، وجملة فرانكلين روزفلت: «أخرجنا من الأزمة الاقتصادية وساعدنا على الانتصار في الحرب». وقد أرادت بذلك توجيه جهوده نحو هدف واضح ومحدد بدل تشتيتها بين أهداف جزئية عديدة. فما هي جملتك في الحياة؟