الطاهر وطار، رجل له أكثر من حضور، عاصر كثيراً من الفصول الدرامية والمهمة من تاريخ الجزائر، لكنه لم يتغيَّر، بل ظل هو نفسه حتى في لباسه ولحيته وتواضعه وضحكته وشقاوته. الإعلامية الجزائرية ندى مهري تلقي ضوءاً عن قرب على حياته وإنجازاته الإبداعية.
لم يرحل، لم يحزم حقائبه إلى وطن آخر في أوج التهديدات والاغتيالات العجائبية التي مرَّت بها الجزائر.
لم يتغيَّر، فرصيده النضالي والثوري جعله يحافظ على لياقته في الصمود والتحدي، بيد أن الجزائر تغيَّر فيها كل شيء، كثرت فيها الأسئلة المبنية على الحسابات السياسية والفجائع الدموية والتي حوَّلت شعباً بأكمله إلى مشروع رفات ينتظر أجله من جهة، وحقل تجارب لمختلف البرامج السياسية والتيارات السائدة من جهة أخرى، بعد ما كان حقل تجارب لأزيد من مائة وثلاثين سنة في محاولات طمس اللغة والهوية الجزائرية من طرف المستعمر.
هذا الرجل الذي أعتبره أكثر من رجل وأكثر من حضور، عاصر كل هذه الفصول الدرامية والمهمة من تاريخ الجزائر، لكنه لم يتغيَّر. ظل هو نفسه حتى في لباسه ولحيته وتواضعه وضحكته وشقاوته.
التقيت الروائي الراحل الطاهر وطار منتصف تسعينيات القرن الماضي بالجمعية الثقافية الجاحظية التي تحمل شعار «لا إكراه في الرأي». وقتها لم أكن سعيدة، فكيف لقلبي أن يبتهج وأنا يومياً أذبل بأوراقي وأبجدياتي وأحلامي حاملة انتظاراً حطَّم خاماتي، وكنت أيضاً في سن وزمن الغضب من وطني لأنني انتميت لجيل عاصر الموت العبثي بكل تفاصيله وانتظرت دوري في الموت بشكل يومي لعشرية كاملة، ورغم هذا الحصار المطبق كانت هناك نافذة عزاء تلوح في داخلي كوخز لذيذ لأهرب في عوالمي وأستحضر ذلك الزمن البعيد عندما كنت أقرأ كتبه قبل أن أفهمها في مدينتي الصغيرة البعيدة عن الجزائر العاصمة بـ 500 كم وقبل أن ألتقيه.
عندما التقيته لم أكن حيادية المشاعر، فلهذا الكاتب هيبة وما سمعته من أقاويل عن وعورته في التعامل مع الآخرين أقلقني، ثم إن التحدث مباشرة إلى قامة أدبية مهمة وشامخة لصعب، لكن، بمجرد التعارف زال ذلك الارتباك تماماً وترعرع شعور جديد من الغضب، ذلك أن عمي الطاهر وطار كان يحسبني على التيار الفرانكفوني واعتبرني تلك البنت المدللة القادمة من عائلة سياسية معروفة ولم يكن يعرّفني إلا بتلك الوجاهة في حين كنت أدافع بشراسة عن انتمائي الشخصي لسلالة القلم وليس «سلالة كان أبي».
صراع جديد تفتق في روح مشروع كاتبة بدأت نشر كتاباتها الأولى باللغة الفرنسية، وبين بقائي قريبة من عمي الطاهر وطار كوني كنت يومياً أذهب للجاحظية ويومياً أتعرَّض لنفس الهجوم والمواقف من طرفه كان ذلك قبل أن أعي السبب الحقيقي والمتمثل في دفاعه المستميت عن اللغة والثقافة العربية، أنا التي كنت مقتنعة ومتبنية شعار الكاتب الجزائري «كاتب ياسين» -رحمه الله- القائل: «أكتب باللغة الفرنسية لأقول للفرنسيين إنني لست فرنسياً» وفي منطق استفزازه هذا اقتربت منه أكثر وتشاركنا في أمور كثيرة وتعودت على مشاكساته وانقلب غضبي رويداً رويداً إلى صبر وسكينة ثم إلى محبة جميلة جداً جمعتنا، واكتشفت أنه كاتب زئبقي يصعب القبض على ما يختلجه من أفكار وإلى أي قضية ينتمي وربما لهذا السبب أثار الكثير من البلبلة، وأصبح عرضة لاتهامات كثيرة فتارة يحسب على ولائه للسلطة، والسلطة تتهمه أنه معارض لها، والجماعات الإسلامية تتهمه أنه علماني واتهمه العلمانيون أنه أصولي.
وعن رأيه في الكتابات الجديدة من الأدب الجزائري فكان يُعدها غير ناضجة وبالتالي فتح أبواباً أخرى على تأزيم علاقته بالمبدعين الشباب واتهامه أنه أعاق تطور الرواية الجزائرية وبأن ذائقته كلاسيكية.
ولعل أشد ما جعلني أحترم هذا الرجل أنه بالرغم من بلاغات التهديد بتفجير مقر الجاحظية الذي يقع في إحدى المناطق الشعبية بالجزائر العاصمة والساخنة بالتطرف آنذاك إلا أنه لم يخف ولم يتوتر، ظل هادئاً وفياً لعمله الثقافي اليومي ومشاكساته، متحلياً بفراسة الثوار في التمييز بين التهديدات الحقيقية والتهديدات المزيفة من جهة، ومن جهة أخرى ربما لإيمانه السّري بواجبه المقدس في احتضانه للمبدعين الذين التحفهم الوغى في زمن صنع الوغى من اللاشيء، ووجدوا في الجاحظية مأوى لهم، وأيضاً حتى تظل الجاحظية منبراً لهم ولمختلف الأنشطة الثقافية، إضافة إلى أنه يحب عمله كثيراً حد الإدمان.
إن عمي الطاهر وطار اختار البقاء على قيد الكتابة، رغم الظروف الصعبة التي نالت منه لدرجة أنه فكَّر في الانتحار، والسبب يعود لتقاعده المبكر في سن السابعة والأربعين، سنة 1983م، إبعاداً عن حزب جبهة التحرير الوطني حيث قال: «عندما وجدت نفسي في عز العطاء خارج المجتمع، مكثت في البيت أشم رائحة المطبخ 24/24 ساعة، وحين أخرج من البيت لا أجد أصدقاءً ولا أعداء لأنهم في العمل. تقرأ فتشبع من القراءة، تكتب فتعجز عن الكتابة لأنك منشغل وتحس أنك على هامش الحياة تماماً وكانت أمامي حلول ثلاثة: إما أن أغيِّر حياتي تماماً فأتحوَّل إلى رجل أعمال أو أتحوَّل إلى صعلوك، أو أخرج من هذه الحياة ببساطة. وأنا بصدد التفكير الجاد في عملية الانتحار اهتديت للطريق السليم وهو التفرغ للعمل الثقافي والانهماك فيه، فترجمت ديواناً من الفرنسية إلى العربية رغم ضعف لغتي الفرنسية، وتعلَّمت الإعلام الآلي في الثمانينيات وما فوق، ثم أنشأت الجاحظية سنة 1988م. وهكذا انتصرت على أعدائي وخصومي وأسست فضاءً خاصاً بي وهي جمعية الجاحظية». كما انتصر للثقافة العربية بالجزائر بتأسيسه جائزة «مفدي زكريا» المغاربية للشعر ومجلتي «القصيدة» و«التبيين».
بعد سنوات قضيتها بجواره، افترقت عنه وعن الجاحظية، اخترت الرحيل وحزمت حقائبي ورغم ابتعادي عنه، كنت كلما زرت الجزائر، وفي كل مرة أتمشى في شوارعها لابد أن تأخذني قدماي إلى جمعية الجاحظية، ألتقيه فيبتسم مرحباً بلهجة جزائرية، أحب سماعها بصوته البربري المعرَّب ويقول لي: «أتيت أيتها الألمانية من أرض الكنانة؟». ينظر إليَّ ويواصل كلامه: «أنت الأنثى الوحيدة التي لم أشاهد آثار مقارع الغربة في مقلتيها، ما السر الذي يجعلك لا تتغيرين؟ تذكريني ببطلة روايتي في الشمعة والدهاليز»، يا لها من شهادة كبيرة من رجل كبير شهادة وضعتها وساماً على صدري.
أبتسم له بزهو وأنظر إلى هذا الشيخ السبعيني فأراه كنهرٍ متدفق بالمرح والتواضع والجدية، وسخَّر نفسه للكتابة فقط، ولم يصب بلوثة المناصب والأضواء وهو القائل: «لاتهمني الحرية بقدر ما تهمني الكتابة». أفتكّ منه أحياناً حواراً صحافياً وأحياناً نتحدث عن الحياة الثقافية بمصر وعن كتَّابها وعن الأماكن التي مررت بها وارتادها في زياراته السابقة لمصر، فتتحد ذكرياتنا على اختلاف الزمان ولكن الإيقاع نفسه مصري الحنين، وأحياناً يطلب مني أن أوصل كتبه لبعض أصدقائه من الكتَّاب في مصر.
عمي الطاهر وطار الذي اعتاد أن يكتب في جبل شنوه بتيبازة (منطقة سياحية غرب العاصمة الجزائر) داهم الوقت الباريسي ووقت علاجه بميلاد رواية «قصيد في التذلل»، رواية نارية كعادة كتاباته التي لا تتوقف عن إثارة الضجيج، تحدث فيها عن علاقة المثقف ببلاط السلطة وفضح بشكل سافر تسلق المثقفين لأضواء السلطة وكسب رضاها.
رحل إذاً أب الرواية الجزائرية وأبي الروحي تاركاً مكانه شاغراً لا يعوض في فضاء الأدب الجزائري والعربي، وتاركاً بصمته الجميلة في روحي، تلك البصمة التي استفزتني ذات يوم وجعلتني أتوجه للكتابة باللغة العربية.
* شهادة عن الروائي الطاهر وطار قدِّمت في الملتقى الخامس للإبداع الروائي العربي بالقاهرة