الهجاء.. عرفناه موجهاً من شاعر إلى آخر، أو إلى حاكم على خلاف مع شاعر، أو حتى إلى قبيلة أو طائفة من الناس لسبب أو لآخر. ولكن، من الشعراء من صبَّ هجاءه على كل الناس وعلى مجتمعه بشكل عام من دون أن يستثني أحداً. هنا يجمع لنا عماد بو خمسين عينات من أبيات لم ترحم أحداً في مجتمعات شعرائها. ورغم التنوع في الدوافع إلى نظمها، فإنها تبقى صورة عن الغربة التي لا بد للمثقف أن يشعر بها في وقت ما من أوقات عطائه.
عالمٌ خاصٌّ يعيش فيه هؤلاء الشعراء، وغربةٌ عجيبة مع أنهم مقيمون بين أهليهم… ترى هل كانوا يظنون أنفسهم خيراً من بقية الناس لمجرد الغرور؟ أم أنهم قد أدركوا أنهم امتلكوا شيئاً نادراً جعلهم مختلفين ومتميّزين بين أقرانهم؟! إن المبدع إذا عاش بين قومٍ لا يعرفون قيمته ولا يقدِّرون فـنَّه، ينتهي به المطاف غاضباً على مجتمعه محتقراً له. وإذا أضفنا لذلك حالة الغربة الذاتية التي يعيشها بعض الشعراء، فتَجِدُ أنهم قد وَجَّـهُـوا هجاءَهم للناس عامةً، ولم يَخُصُّوهُ بأشخاصٍ محدَّدين، كقول دِعبل الخزاعي:
مَا أكْثََرَ النَّاسِ! لا بَـلْ ما أقَلَّهُمُ
اللهُ يَعْلَمُ أنّي لَمْ أقُلْ فَـنَدا(1)
إنّي لأفتَحُ عَيْنِي حِينَ أفتَحُهَا
على كثيرٍ، ولكنْ لا أرَى أحَدا
وكذلك أبو بكر الخالدي، الذي لم يكن يرى الناس كما نراهم نحن، بل بلغ احتقاره لهم أنه يراهم في صورةٍ عجيبة، كأنهم نسخة مشوهة من البقر:
لا شيءَ أعـْجـَـبُ عـندي في تـبَـايُـنِـهِ،
إذا تَأمَّلْتُـهُ، منْ هذهِ الصُّوَرِ
أرَى ثياباً، وفي أثْنَائِهَا بَقَرٌ
بلا قُرونٍ، وذا عَـيْبٌ على البَقَرِ
وكذلك يفعل ابن المقرّب العُيوني، ويتأسَّى على حاله معهم:
يا ضَـيْعَةَ العُـمْرِ في قَومٍ تَخَالُهُمُ
ناسَاً، وَلا غَيرَ أَثوابٍ عَلى صُوَرِ
لو أنَّ ذا الحِلْمِ قَيْسَاً(2) حَـلَّ بَـينَهُمُ
لَوَدَّ مِنهُمْ ذهَابَ السَمعِ وَالبَصَرِ
ولوْ يُعَمِّرُ نُوحٌ فيهِمُ سَنَةً
لَقالَ يا رَبِّ هَذا غَايَةُ العُمُرِ
وأما المتنبي، الغارق في غربته الذاتية، فيشكو من سوء منظر الناس، وقبح أصواتهم:
كَلامُ أكثرُ منْ تَلْقى ومنْظَرِهِ
ممَّا يَشُقُّ على الآذانِ والحَدَقِ(3)
ويُظهر المتنبي سبب احتقاره للناس، فقد استشرى بينهم الفساد والأنانية، وانعدمت فيهم صفات الخير والمروءة:
أذمُّ إلى هَذا الزَّمَانِ أهَيْلَهُ
فأعْلَمُهُمْ فَدْمٌ(4) وأحْـزَمُهمْ وَغْدُ
وأكرَمُهُمْ كَلْبٌ وأبصَرُهُمْ عَـمٍ
وأسْهَـدُهُـمْ فَهْـدٌ(5) وأشجَعُهُم قِـرْدُ
ومنْ نـَكـَدِ الدنيا على الحُرِّ أنْ يَرَى
عَدُوَّاً لهُ ما منْ صَداقَتِهِ بُدُّ
ترى هل يستحق العامة من الناس هذا الهجاء المقذع، أم أنه دليل على حالة القلق وعدم الانسجام مع الواقع التي يعيشها هذا الشاعر أو ذاك؟!!
ويَنصَحُ عُمَرُ الخيام بالابتعاد عن الناس، فمعرفتهم لن تجرَّ عليك سوى الذمَّ والويلات في كل الحالات. وسواءٌ كنتَ مُـشـتَهِرَاً بينهم أو هادئاً منطوياً على نفسك، أو كنت طـيـباً فيهم أو شريراً، فلن تسلم من ألسنتهم:
إنِ اشْتُهِرْتَ، فَشَـرُّ الناسِ أنـتَ،
وإنْ انْزَوَيْـتَ فقدْ عَانـَيْتَ وَسْوَاسَا
لوْ كـُـنتَ خِـضْراً وإليَاسَاً، سُعِدْتَ بأنْ
لا تُعْرَفَنَّ وَأنْ لا تَعْرفِ الـنّاسَا
و هذا ما جعل الأحَـيْـمِـرَ السّعدي، ينفر من الناس ومن ضجيجهم الفارغ، ولا يرى فيهم سوى الأذى والازدراء:
عَـوَى الذئبُ فاسْتَأنَسْتُ للذئـبِ إذْ عَوَى
وصَوَّتَ إنْسَانٌ فكِدْتُ أطِيرُ
يَرَى اللهُ إنّي لِلأَنِيسِ لَكَارِهٌ
وَ تُبْغِضُهُم لي مُقلَةٌ وضَـمـيـرُ
ولعلنا لا نعدو الصواب حين نقول: إن في هذه الصورة التي رسمها لنا الشاعر لِعُواء الذئب وصُراخ الإنسان، إشارة إلى أن الإنسان قد أصبح عنصراً شاذاً على الطبيعة، غير منسجم معها، بل هو كائن ضارٌ ومدمِّر لها بعد أن كان مستخلفاً فيها.
وقد لجأ البعض للبحث عن بدائل لمجتمعاتهم، فيعلن انتماءه لهم، كما فعل الشنفرى الأزدي، إذ تصعلك واتخذ لنفسه أهلاً غير أهله، ثم خاطبَ قومه مُحذراً:
أقِـيْـمُوا بَـني أمّي صُـدُورَ مَـطِـيـِّـكُمْ(6)
فإنّي إلى قَومٍ سِواكُمُ لأمْـيَـلُ
ولي دُونَكُمْ أهْلُونَ، سِيْدٌ عَـمَـلَّسٌ
وأرقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفَاءُ جَـيْـألُ(7)
هُـمُ الأهْـلُ، لا مُـسْتَوْدَعُ السِّرِّ ذائعٌ
لدَيْهمْ، ولا الجَاني بما جَرَّ يُخـْـذلُ
وكذلك المتنبي يفتخر بأصدقائه من أهل الصحراء:
صَحِـبْـتُ في الفلواتِ الوحشَ مُـنـفَرداً
حتى تَعجَّـبَ منّي القُورُ والأكَـمُ(8)
أما القاضي الجرجاني، فقد وجد صحباً خيراً من السباع والصحراء ليلتجئ إليهم، ويجعلهم مؤنسيه في وحدته.. وهو هنا يأتي بسببٍ وجيهٍ ليبرِّر انعزاله عن الناس ووحدته:
ما تَطَعَّـمْـتُ لَذةَ العَيشِ حتى
صِرْتُ في وحْدتي لكُتْبي جَـليسا
ليسَ شيءٌ أجَلُّ عنديَ منْ نَفْسي
فَـلِـمْ أبْتَغي سِوَاهَا أنِـيْـسا
إنّمَا الذلُّ في مُـوَاصَـلـَةِ الـنّاسِ
فَدَعْهَا وعِـشْ كَريْماً رئيسا
والكثيرون سوى الجرجاني قد فـُـتـِنـوا كذلك بخير جليسٍ في الزمان، فجعلوه صاحباً وصديقاً، كما فعل أحمد شوقي:
أنا منْ بَـدّلَ بالكُتْبِ الصِّحَابَا
لمْ أجِدْ ليْ وَافِيَاً إلا الكِتَابا
صَاحِبٌ، إنْ عِـبْتَه أو لمْ تـَعِبْ
ليسَ بالوَاجـدِ في الصَّاحِـبِ عَـابَـا
وقد يكون لحالة التوحّـد هذه ومقاطعة الناس ما يبرِّرهما، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الوحدة خيرٌ من جليس السوء . ولكن هل أكثر الناس هم جلساء سوءٍ فعلاً، وينبغي الابتعاد عنهم؟ أم أنها مبالغاتُ الشعراء وخيالاتهم هي التي تصور ذلك؟ ومما يجدر ذكره في هذا السياق، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الجليسُ الصالحُ خيرٌ من الوحدة .!