الثقافة والأدب

كائنات محتملة
القرية المغربية المهجورة.. بطلة

  • dv1915496_5
  • 310_1009

كائنات محتملة هو عنوان الرواية الجديدة للأديب المغربي المعروف محمد عز الدين التازي. الدكتورة عفاف عبدالمعطي، تكشف هنا عن السمة المشتركة بين هذه الرواية من جهة والمسار العام للرواية المغربية حيث يكون المكان صورة للوطن، يرتقي في دلالاته أحياناً ليصبح هو نفسه بطل الرواية. ولذا اختارت الناقدة أن تلحق مقالتها بفصل من الرواية يتحدث عن المكان فيها، ألا وهو مدينة زرقانة الصغيرة والمهجورة.

بدأ صدور الرواية المغربية في أربعينيات القرن الماضى، وهذا هو ما ثبت بالفعل في الببليوجرافيا التي حصرت تاريخ الرواية المغربية منذ عام 1942م.

ولكن هناك رأياً آخر يقول إن الرواية المغربية قبل الاستقلال لم تكن معروفة، ولم يكن الكُتَّاب يقبلون عليها وإن كنا نفاجأ بين حين وآخر بمن يقسِّمون تاريخ القصة والرواية المغربية إلى مراحل، إذ يعودون بها إلى عام 1905م ويذكرون أسماء كثيرة وأعمالاً أكثر، لكنهم يخلطون بين المقامات وبين الروايات المترجمة والأعمال المقتبسة وبين القصص القصيرة والشعر القصصي والمقالات الإصلاحية التي صيغت في أسلوب أقرب إلى أسلوب الحكي والقص، وأبعد ما يكون عن الأسلوب الفني، أو الشكل الروائي بمعناه المتعارف عليه بين النقاد.

التاريخ في تعبيره عن الواقع
ولعل ما يهمنا في هذا السياق أن نقرر أن من يقرأ الرواية المغربية يشعر للوهلة الأولى بأنها رواية كُتبت لتكون دالة على الارتباط بالواقع المغربي، بمحدداته البشرية والجغرافية وبالالتحام مع الواقع التاريخي الذي كان، قبل الاستقلال أو بعده، معبِّراً عن العلامات الخاصة بهذا التاريخ من جهة الحدث الحاصل أو من جهة المظاهر الحضارية المصاحبة له. لذا، فالرواية تقدِّم لنا صورة للمجتمع المغربي كتاريخ وكواقع متغيرين. ومن أكثر الكتَّاب المغاربة تعبيراً عن الواقع الاجتماعي الكاتب محمد عز الدين التازي، الذي بدأ الكتابة الروائية في نهاية السبعينيات في القرن الماضي، حين صدرت روايته الأولى أبراج المدينة (1978م) في العراق عن دار الآفاق، ثم توالت رواياته ومجموعاته القصصية التي بلغت العشر، مارس خلالها جميع أنواع الكتابة السردية التي تتراوح بين القصة القصيرة جداً والقصيرة، والقصة الطويلة وذلك في مجموعات النداء بالأسماء 1981م، ثم الرواية القصيرة مثل فوق القبور – تحت القمر 1989م، بينما جاءت رواية أيها الرائي في منطقة وسطى بين الرواية القصيرة والطويلة.

يطالعنا الروائي الكبير محمد عزالدين التازي برواية جديدة هي كائنات محتملة ، تقدم عالماً مكانياً يُغاير العوالم المكانية الأخرى التي اختطها في رواياته السالفة، حيث مدينة زرقانة الصغيرة التي تشبه دواخلها القرية والتي يصفها الراوي منذ مِهاد الرواية بأنها:
كون صغير.. مدينة للظلام والظمأ والغلواء،
أناسها يحيون بين الأبهاء والخرائب والحدائق
والحرائق، عالم منسي متأخر في زمانه
راجع في أفول.. (الرواية ص 9)

حضور المكان حتى في السلوكيات
يحمل وصف الراوي في هذا الجزء من النص دلالة مكانية كبيرة دالة على النسق المجتمعي الذي سيبدأ في وصفه. وبطريقة السرد هذه، تصبح صورة المكان ودلالته مرتبطة بهذا المكان لعمق أثره في الحياة البشرية في المدينة الموصوفة زرقانة. إذ ما من حركة إلا وهي مقترنة به وما من فعل إلا وهو مستوحٍ لبعض دوافعه من هذا المكان، وهو أعمق وأكبر وأهم من أن ينحصر في ما يمثل من ظرف ووعاء، أو أن نقتصر فيه على البين الناتئ من مستوياته، لأن كل مناحي الحياة وقطاعاتها، بل وكل مناحي النَفْس الموصوفة داخل النص تشهد على حضور المكان الكثيف وتعدد مظاهره. وكل وجوه حركاتها وسلوكها، ولعله ما من قرين للتجربة البشرية الماثلة في النص، إلا وكان وصف المكان في مدينة زرقانة الصغيرة هو مغذيها ومنطلقها ومصبُّها وترجمة لتواجد الشخصيات أيضاً. وهو ما يقدمه الراوي دلالة على المدينة ومن داخلها أبناؤها، فيقول: في زرقانة: لا أحد يعطي شيئاً لأحد… الزرقانيون يحبون كثرة الكلام يمارسونه كي يتفرجوا على أنفسهم، ويكونوا شهوداً عليها (ص 11)

وإذا كان المكان (مدينة زرقانة) هو الدلالة الأولى في النص على واقع تلك المدينة، فإن الراوي قد استخدم مقتطعاً سردياً أول كدلالة أخرى على إجمال السرد قبل تفصيله؛ بمعنى أن الراوي قد قدَّم فقرة مجملة لما سيفصله من سرد نصي حيث يقول:
.. وتلك يا صاح أحبولة وقعت فيها كما
يقع الضرغام في حبائل لا يدركها، وها هي
زرقانة تدريها ولا تدريك، تحويها ولا تحويك
تبوح لها وهي عن أسرارها تخفيك، تستوطنها
ولا تغريك، لكنها تصبح كأخواتها في المدن ذات
حكايات وعجائب وغرائب، وانهيارات وخرائب،
ولو كنت سهراناً تسبك الحرف مع الحرف من ماء
هو ماء العين أو من معدن هو نار ونور لما أصابك
هذا الفتور، وها هي زرقانة لا تفتح لك باباً ولا تعطيك
جواباً، وتصير على طرقاتها ومبانيها أرضاً يباباً،
فما تخطه على نقا الرمل تمحوه رياح لا كالرياح،
ولك أن تستأنس بهذا البوح .

يظهر الخطاب السردي هنا كنوع من تفصيل ذكر الأحداث قبل إجمالها عبر وصف مكان النص: مدينة زرقانة . وهنا يبدو السرد كصيغة لعرض وقائع ومواقف متتابعة مكانياً وكذلك زمانياً. والراوي في النص هو راوٍ ذاتي، وعلى جانب كبير من المعرفة النصية. ولذلك، فهو على مسافة قريبة من المواقف والوقائع المسرودة وكذلك الشخصيات، لذا فتلك المسافة قد تكون زمنية (أي يسرد وقائع حدثت قبل ساعات أو قبل سنوات)، أو قولية (حيث يسرد بكلماته الخاصة ما قالته إحدى الشخصيات أو يستخدم كلماتها). وذلك عندما يكشف عن أن كل من في مدينة زرقانة قد تلاشى بفعل الزمن، أو بسبب مكابدة الهجرة التي يفرضها واقع المدينة الفقير إلا من:
ثلاث أسر عريقة هي التي بقيت في المدينة محافظة
على رونق العيش في مساكنها وتجارتها الصغيرة
وعاداتها في الأعياد والمناسبات، والأسر الأخرى
هاجرت إلى أسبانيا ولم يبق في زرقانة سوى الأغراب
الذين جاءوا من القبائل المجاورة وبعضهم استولوا
على الأرض وزرعوها بالجزر والكرمب (ص 13)

هكذا يزكي الراوي فكرة انقراض الحياة الحقيقية في زرقانة، وبالتالي وقع الحياة الهجين الذى سار فيها بعد انقراض أهلها الأصليين، ومن ثم جاء إلى الأرض من ليسوا أهلاً. ويلاحظ القارئ جماليات اللغة الواصفة للوافدين على الأرض إذ لم يكن أمامهم سوى استخدام أسلوب رُعاة البقر في الاستيلاء على الأرض مُبرراً للإقامة فيها.

البطولة جوهر ولغة
وإذا تحدثنا عن البطولة في النص حيث نعتبرها مفهوماً اجتماعياً جوهره في الأصل جوهر اجتماعي؛ فإن الراوي يقدم لنا في النص صورة لشخصية الفقيه الزرقاني، والتي اعتبرها من أهم الشخصيات الموصوفة على مدار السرد، والسرد عنه لا يحمل نوعاً من البطولة فحسب بل يتعداه إلى حضور لغوي طاغ لوصف ذلك الفقيه الناسك، يقول الراوي:
يبغض الشيطان ويحب الرحمن، هكذا
يقول الناس في زرقانة، حانوته لا يبيع
شيئاً، فهو يتربع على لبدة خضراء من ملف
ويستقبل محبيه ومريديه أو بعض طالبي الفتوى
في أمور دينهم ودنياهم، ظل الفقيه يُبصِّر الناس
بأن الله هو الفاعل المختار وأن له في خلقه شؤوناً
وحكمته وحده من يدريها! . (ص 22)

ولأن البطولة ليست مجرد حضور في النص ولكنها حضور بالقياس إلى قبول المجتمع الذي يمنح وحده شرعية البطولة، مثل شخصية الفقيه المروي عنها في لغة قَدَرية غنية بالصور والمجازات دالة على هبة الله إلى مخلوق ولي يرشد العامة، تتأكد ضرورة وجود البطولة الاجتماعية لا للبطل فحسب، ولكن للمجتمع نفسه، فهو بحاجة إلى مُخلِّص أو نموذج يشبع رغباته المرتبطة بالحاجة إلى التنسك و القوة و التفوق والتمرد وإن كانت البطولة اجتماعية أي أن البطل في الرواية قد تحمل مسؤولية التعبير عن وضع المدينة الصغيرة المغلق انطلاقاً من المركز الذي أبرزه كشخصية وبطولة روائية من جهتين: جهة بطولة مع السرد المترامي للوقائع الاجتماعية الدائرة في زرقانة. وجهة بطولة متمردة على ذلك المجتمع الذي تحوي جنباته أعطابه الداخلية؛ أي أن البطل كان بطلاً رافضاً لتخلف المجتمع ويعمل من أجل التغيير، ولو تسبب في إحداث قطيعة نفسية وسلوكية مع هذا المجتمع وعناصره.

إن رواية كائنات محتملة نصٌ المكان هو بطله الأساسي حيث القرية المقفرة التي تضطر معظم أهلها إلى الهجرة بعيداً عنها، ولا يبقى فيها إلا من يتعاملون بمنطق القوة، لذلك فهي رواية عن الهجرة، هجرة الذات نحو المجهول بمغامرة مقصودة أو غير مقصودة، كى تخرج تجربة واقع الحياة من مكان وتدخل إلى مكان آخر.

مقتطفات
الدخول إلى زرقانة
ترتيب ما لا يرتب
كون صغير.
مدينة الظلام والظمأ والغلواء، أناسها يحيون بين الأبهاء والخرائب، والحدائق والحرائق.
عالم…، متأخر في زمانه راجع في أفول، وأولئك الناس في زرقانة يحيون أحلام ذلك الماضي، أو بعضهم على الأقل. فبعضهم الآخر لا ماضي لهم ولا ذكرى، يعيشون على انتظار ما سوف يحدث في الغد من مفاجآت تأتي بحفن من المال أو تأخذ إلى السجن. وأما من يحيون في الماضي فهم يعيشون على الذكرى، يوم كانت زرقانة مستعمرة صغيرة تهب عليها رياح الغرب، يقيم فيها بعض الفنانين، ومتقاعدي الحرب من الإسبان وهم يختلطون بالناس ويتكلمون بعض الكلمات بالعربية. يقضون معظم أوقاتهم في المقاهي والمطاعم الخاصة بهم، والتي ما كان يرتادها معهم سوى زرقانيين قليلين من أبناء تلك الأسر الثلاث أو الأربع التي كانت تعد زرقانية بحق. وإذا ما استنفد أولئك الإسبان جلساتهم في المقهى أو المطعم فقد كانوا يتجولون على الشاطئ مرفوقين بنسائهم وبأطفالهم الذين ولدوا في زرقانة ربما. فكانت كلابهم الغريبة الأشكال والطباع تغري الأهالي بالتفرج عليها وهي تتسابق أو تمتثل لأوامر أصحابها أو تلاعب الصبيان.

الزرقانيون ما كانوا عمياناً، بل كان لهم نظرهم، كما كان لهم فضولهم الذي ظل يتتبع كل خطوات (الإصبنيول) أينما راحوا وارتحلوا، وما كان ذلك إلا بدافع إعجاب وطلب للتقرب بمحاولة إسداء خدمات إذا ما توجب الأمر ذلك، كتشذيب حديقة أو حراسة دار في أوقات سفر السنيور وإيناس السنيورة، حتى مع وجود الكلاب التي تقوم بالحراسة.

والحق أن الزرقانيين الذين بقي لهم وميض من ذاكرة من ذلك الماضي هم على وشك أن يكفوا تماماً عن رواية ما كان يحدث في زرقانة، وذلك بسبب الشيخوخة والهرم، واتجاه ما تبقى في الذاكرة نحو التاريخ الشخصي والطفولة التي لها جهاتها البعيدة عن زرقانة، وعلى أطرافها ومراميها. وقد صار هؤلاء الشيوخ، وحتى الكهول، ينشغلون عن زرقانة بآلام الظهر والمفاصل، فلا تتحرر الألسنة إلا إذا كانت هناك شائعات تغذيها أحاديث المقاهي وكتابات بعض الجرائد المحلية، وهي شائعات تثير شهوة الكلام وتحرك الأخيلة لبعض الوقت، فيعود الفتور والكسل والتناوم، ريثما تشاع شائعات أخرى عن واحد من الشبان الذين يبيتون ليلتهم على الطوى ثم يصبحون وهم يتمرغون في أوراق النقد بعد نجاح عملية تهريب، أو عن فضائح رئيس المجلس البلدي. وقد تمتد الشائعات إلى التعرف على واحدة من تلك الجثث التي طرحها البحر، بعد أن بثت قنوات التلفزة الإسبانية صوراً لجثث منتفخة مشوهة الوجوه، فلا يدري أحد أين كانت تلك الكاميرات التي التقطت الصور، هل جاءت فيما بعد أم أنها قد اعتادت على أن تنتظر أن يطرح البحر تلك الجثث ليشهر بها.

كل هذا لم يجعل زرقانة تشتهر بين المدن بشيء يخصها. النهر الذي كان يمر عبر كثير من القرى ليشق طريقه نحو البحر، أغلق مكان مصبه في البحر بالنفايات والأتربة وبقايا البناء، فتحول إلى مستنقع آسن، بينما الأرشيفات القديمة لا تزال تزخر بصور لنشاط الملاحة في النهر، وعبور تلك المراكب المحملة بالقمح والذرة والدجاج والبط وفراخ الحمام والخس والبصل والطماطم، وهي آتية للرسو في ميناء زرقانة، أو وهي ذاهبة نحو محطات صغيرة على بعض القرى، محملة بالسكر والزيت والشموع ومواد البناء وما كان من منجزات التقدم في ذلك الوقت، كمواقد الطبخ الغازية وأجهزة الراديو وأغطية من صنع المعامل. وقد بقي لتلك الصور بهاء لا تحتاج عيون الزرقانيين لأن تراه، فما كانوا عمياناً، ولكن ذاكرة الشيوخ قد خرفت. وأما الشباب فما عادوا يذكرون غير الـ….. ومحلات البوكاديو والمراقص والمطاعم إذا ما كانوا قد قاموا بعملية تهريب وجنوا منها أموالاً كبيرة، وأما إذا كانوا يحيون على الفراغ والإملاق فلا أماكن يذكرونها. وحيث تصير زرقانة بغير ملامح لشارع أو زقاق فهم يسكنون في الظل وأعز ما يطلب هو قارورة ….. تهدئ الوجع في البداية ثم تجعل الوجع يتحول إلى تشنج أو صراخ أو رغبة في القتل.

في زرقانة لا أحد يعطي شيئاً لأحد إلا ما ندر. فالناس تعودوا على أن يأخذوا أي شيء ودون أن يبذلوا أي شيء. يأخذون الكرم مقابل الصمت، والابتسام مقابل العبوس، ويأخذون الكذب والشائعات والثرثرات مقابل توجس وأسئلة تحفز الآخر على الكلام ولا تبادله الكلام بالكلام. والناس مع كل هذا ليسوا كراماً ولا لئاماً ولكنهم يفضلون الأخذ على العطاء في كل شيء.

ما عشته في زرقانة جعلني أنظر إلى عبدالصادق والغرناطي كاستثناء يشذ عن هذه القاعدة. فكلاهما طوقني بفضائل كثيرة سوف تلمسونها من حكايتي مع زرقانة، أنا الغريب، والغرباء عادة، لا شأن لهم في زرقانة بل إنهم محفوفون بفضول ومتابعة دائمين، وبذم شديد حتى مع حسن معاشرتهم. ولنتصور أن واحداً من شخصيات هذه الرواية ولا حاجة لذكر اسمه حتى لا يغضب مني، كان قد تعرف في الدار البيضاء على البهجاوي فأخذه إلى بيته وأكرمه هو وزوجته وأولاده. والرجل كان يحكي عن نزوله ضيفاً في بيت البهجاوي بحبور وهو يصف أنواع الأطعمة وتفاني زوجة البهجاوي في إعداد الطعام للفطور والغداء والعشاء، وهي مآدب. ثم يغتم خاطره وهو يتحدث عن البهجاوي الذي جاء إلى زرقانة وفاجأه في عنوان بيته وكان البهجاوي هو الأكول مع أولاده الأكولين وزوجته التي تستحوذ على المائدة وهي توزع قطع اللحم وتضع صحوناً بعد أخرى. ويعترف الرجل بأنه قد ارتبك أمام هذه الزيارة المفاجئة، فأخرج من جيبه ورقة مائة درهم وأعطاها لولده طالباً منه أن يذهب عند الجزَّار لشراء اللحم، وقال أنا خرجت لمحادثة الولد ولكني لم أقل له عد لنا لتقول إن محل الجزارة مغلق، كما أنني لم أطلب من زوجتي أن تأتي لتخبرني بنفاد غاز القنينة، فأرسلته لإحضارها لكنه عاد وأخبرني بأن محل الجزارة مغلق، وأن قناني الغاز لا توجد في أي محل. وماذا سوف أفعل؟ يقولون عن الزرقانيين إنهم بخلاء، ولكن في الدارالبيضاء أو الرباط يوجد كل شيء وفي أي وقت، وهنا لا يوجد شيء في الوقت الذي تريده، فهل هذا بخل؟ ثم يبتهج ويقول إن زوجته هي التي فرجت كربته، فقد دعت عائلة البهجاوي للغذاء في مطعم، وتزينت بزينتها هي وزوجة البهجاوي، استعداداً للخروج، لكني لم أطمئن إلى أكل المطاعم، فكيف تستضيف ضيفك في مطعم لا تضمن فيه أن قيمة ما ستتناوله فيه من طعام تساوي ما سوف تدفع، وكيف تضمن صحة الأطفال؟ هذه مشكلة، لكن زوجتي حلت كل المشكلات بذكائها وبمعرفتها بالأمور. فقد افتعلت معي نزاعاً حول مطعم هي اقترحته وأنا اقترحت مطعماً آخر، وفض البهجاوي النزاع بأن يرضي كل واحد منا أنا وزوجتي بتناول الغداء في المطعم الذي اقترحته هي، والعشاء في المطعم الذي اقترحته أنا، لنرى الفرق، وعلى حسابه. ولقد فرجت، لكننا أنا وزوجتي بقينا على خلاف لثلاثة أيام حول ما تناولناه في المطعمين معاً. والحقيقة أننا تناوبنا في الغداء والعشاء على المطعمين معاً، لثلاثة أيام، وكان البهجاوي هو الذي يدفع. حتى وأنا أحلف على الدفع. لكنه هو الذي خرج من البيت وعاد يحمل قنينة الغاز، وهو من كان يستيقظ باكراً فيأتي بالفطور، وحتى ما اشتراه من جبن وزبدة وأرز، فقد ترك نصفه لنا قبل أن يسافر، وما كنت أنا من طلب منه أن يفعل ذلك.

وأما عبدالصادق، فقد حكى حكاية غريبة عن زبون جاء إلى مطعم الزهراء ليحجز مائدة لغداء يوم الأحد، وهو يعرف أن المطعم لا يمتلئ عن آخره، لكنه في يوم الأحد جاء محملاً بطناجير وصحون بها سمك مقلي وطلب من عبدالصادق، وهو المسؤول عن المطعم أن يسخِّن الأطعمة ويقدمها في صحون جميلة وأن يضع الورد والشموع على المائدة، فستأتي صديقة أجنبية. قال لي عبدالصادق وماذا سوف نفعل نحن في المطعم بالأطعمة التي نعدها؟ قال طلب منه ذلك السيد السلاطة وزجاجتي كوكاكولا ليدفع ثمنهما، ولم يقل لي هل قبل عرض ذلك السيد أم أنه لم يقبله، ولكنه ظل يسخر من طعام البيت الذي يتناول في المطعم، لتغيير الأجواء.

الزرقانيون يحبون الفضائح، ليمارسوها أو ليتفرجوا عليها أو ليكونوا شهوداً عليها. فضائح من كل الأنواع. حتى إذا مرَّ وقت ولم تقع فيه فضائح، فهم يسعون لارتكابها. فأحدهم صعد بناية ذات طابقين، وأخذ يصرخ مهدداً بالانتحار، ويشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، ويهم بالارتماء من سطح المنزل إلى الأرض ثم يطوف بالحيطان وينظر إلى تجمع الناس على ناصية الطريق، ويطلب حقه في الإرث الذي يجب أن يناله الآن قبل أن يلقي بنفسه إلى أسفل. ويتجمع أفراد عائلته، ويأتي البوليس، ويساوم على مقدار الإرث، وهم يحدثونه من تحت وهو يطلب مبلغاً محدداً من فوق، ثم لا ينتحر، ولا ينال درهماً واحداً من الإرث المزعوم، فقد كان محششاً، وهذا هو حاله يكرره مرات كلما تحشش. (….)

قد يكون موضوع هذه الرواية هو مكابدات الهجرة، ولكن موضوعها الأمثل هو زرقة عيون الزرقانيين، وليس هذا من قبيل العبث، بل لأن تسمية مدينة ليست بالأمر الهين.

والمعلِّم نفسه كان يعتبر واحداً من الأشخاص النادرين في زرقانة، فهو لا يكف عن الضحك وهجاء الناس والتندر بأحوال الوقت والسخرية من أعضاء المجلس البلدي، الأميين في غالبيتهم، والذين يتزاحمون على الجرائد وأخبارها تتشابه كل يوم، ومع ذلك يشتري جريدته التي يطل على عناوينها ثم يتركها لعبدالصادق.

هو شارع واحد يتجول فيه كل الناس في الصباح والمساء، ومن حواليه يوجد البنك ومقر البلدية ومركز الشرطة وإدارة الجمارك، تصطف على جانبيه حوانيت لبيع الموارد الغذائية والأحذية المستعملة وملابس الخردة من منامات ومعاطف وقبعات وجوارب وحوانيت أخرى لبيع البوكاديو والهمبوركيسا وأنواع العصير. فشباب زرقانة يتناولون أول وجبة في يومهم في هذه المحلات بين الرابعة والسادسة مساء وبعد النهوض من نوم ثقيل، بينما يتعشون قبيل الفجر في محلات البوكاديو إذا لم تواتيهم المناسبة للعشاء مع أناس كبار في مطعم من المطاعم المنتشرة على الساحل.

الوقت منفلت في زرقانة،
ولكل زمنه الذي يحيا فيه، ولربما هي أزمنة يحياها الزرقانيون في وقت واحد. ولكل زمنه الذي لا يلتقي مع أزمنة الآخرين. وسيكون لذلك تأثير على زمن الرواية، أو أزمنتها التي هي أزمنة أناس عاشرتهم أو سمعت عنهم.
وكأنه زمن لاعب سيرك، يلاعبه وهو بين حد السقوط وبين خط الوصول.

ثلاث أسر عريقة هي التي بقيت في المدينة محافظة على رونق العيش في مساكنها وتجارتها الصغيرة وعاداتها في الأعياد والمناسبات. فالأسر الأخرى هاجرت إلى إسبانيا ولم يبق في زرقانة سوى الأغراب الذين جاءوا من القبائل المجاورة، وبعضهم استولوا على الأراضي وزرعوها بالدوالي والجزر والكرمب والجلبان، كما هيأوا الحقول والجنان والغرسات المزروعة بأشجار اللوز والتفاح والإجاص والسفرجل، منافسين بعض المعمرين الألمان الذين كانت لهم حقول واسعة لزراعة البطاطا وتصديرها إلى ألمانيا. لكن تلك الحقول قد تحولت إلى تجزئات سكنية أو منشآت سياحية تحت مضاربات العقار وتبييض الأموال فمات الاخضرار وحل محله الأسمنت.

مدينة ظاهرها ليس كباطنها،
وهي تشبه مجرى من مجاري التيارات البحرية يبتلع من يأتي للسباحة وهو لا يدري بمكان التيار.

هذا ما حدث لي. فزرقانة ابتلعتني، وما بقي لي من حياتي السابقة قبل أن آتي إليها سوى الأخاييل والذكريات. ستعرفون أنني دخلت زرقانة ولم أخرج منها، وأن ما أكتبه في هذه الرواية هو محاولة للخروج، أو للقبض على زمن من تلك الأزمنة الضائعة، ولكن مع ذلك فثمة أشياء شيقة، وحوادث تستحق أن تعاش. أنا لست مؤرخاً للمدينة لأنها تقع في حدود ما عشته بين الوهم والحلم، كما أن الهجرة التي هاجرها المرواني أو الغرناطي أو سعدالدين قد صادفتني في طريقي. وأنا أحيا في زرقانة بين الفراغ والموت، فلست أنا من أزم أوضاع البلد إلى حد أن صارت المحن تجارب شاقة في حياة الناس.

ولعلي أمام مدينة أسطورية،
ويكون الداخل إليها مفقوداً والخارج منها مفقوداً أيضاً،
فكأن هذا الفقدان جعلني أفقد البوصلة التي ترشدني إلى دروب السرد في هذ الرواية التي هي إنشاء وتدمير لزرقانة.
كما أنها ليست سيرة لي وإن تضمنت بعض النتف، فأخي مولاي إبراهيم، وتجاربي مع نساء ورجال سوف تتعرفون عليهم، وقصتي مع ترميم البرج، كلها تفاصيل صغيرة تضاءلت معها حياتي الخاصة أمام أسرار زرقانة وتاريخها المزيف، ودموية أوقاتها الليلية والنهارية. فأنا أحيا في قلق يومي، يجد نفسه في قلق هذه الرواية.

أضف تعليق

التعليقات