حياتنا اليوم

السيدة سلطانة علي رضا

  • painting

وسط الشعور بالحزن والألم، وعندما تتحوَّل المعاناة الشخصية إلى رسالة سامية تتلخص في تقديم خدمات رائدة للحفاظ على أهم القدرات التي أنعم الله بها على البشر وهي النطق والسمع ومهارات التخاطب.. تتشكَّل لدينا صورة عن سيرة السيدة سلطانة علي رضا، مديرة مركز جدة للنطق والسمع جش ، كما تحدثنا عنها ابتسام رياض.

ولدت سلطانة في جدة عام 1955م في بيت كبير يعج بالأطفال، هو عبارة عن مجمع تسكن فيه عائلة علي رضا التي تتكون من الجد والجدة، وأولادهما وأحفادهما، وكأن المنزل قرية قائمة بحد ذاتها.

عندما كانت سلطانة في التاسعة من العمر ولد لأخيها طفل خديج. وعندما أصبح هذا الطفل في الثالثة من العمر اكتشف والداه أنه يعاني ضعفاً شديداً في السمع, فما كان منهما إلا أن ذهبا إلى بريطانيا ثم أمريكا لعلاجه. وهناك تدربت والدته على التعامل معه وكيفية تعليمه نطق الكلمات. وعادت الأسرة إلى المملكة وأول أطفالها يرتدي سماعة كبيرة بأسلاك متدلية مربوطة إلى صدره.

توضيح الأمور لجميع أفراد الأسرة كان أول ما فعلته والدة الطفل. أما سلطانة فقد تعلمت منها كيف تنطق الأصوات، وراحت تتبع زوجة أخيها في كل ما تفعله خطوة بخطوة، مع أنها لم تتجاوز آنذاك الحادية عشرة من العمر. تقول سلطانة: كأن الله سبحانه وتعالى قد هيأني منذ الصغر لتقبل فكرة ضعف السمع والتعامل معها كأمر واقع، والتعلم من ابنة عمي كيف تتعامل مع ابنها والاستفادة من خبرتها لاحقاً .

ومضت السنون..
بعد حصولها على شهادة الثانوية من فرنسا، وذلك بحكم عمل والدها في وزارة الخارجية عادت إلى المملكة وتزوجت الأستاذ وليد زاهد وهي في التاسعة عشرة من العمر، أنجبت طفلها الأول ثم الثاني ولكنه توفي بسبب ولادته مبكراً، ثم أنجبت طفلها الثالث الذي اكتشفت لاحقاً أنه مصاب بضعف شديد في السمع.

في البداية، لم تلاحظ شيئاً بل كانت متأكدة من سلامة سمعه، ولكنها لاحظت عندما بلغ الثانية من العمر أنه لم يكن ينطق بشكل صحيح, ولكنها لم تكن تدرك وقتها ما المشكلة بالضبط لأنها كانت تظن أن السمع إما أن يكون قوياً وإما معدوماً ولم تعلم بوجود درجات للسمع.

في الإجازة الصيفية سافرت الأسرة إلى بريطانيا ووضعت هناك طفلاً آخر وعلمت لاحقاً أن مستوى السمع لدى طفلها الأكبر كان ضعيفاً جداً مع احتمال أن سمعه كان عادياً عند ولادته ثم بدأ يخفت تدريجياً. وبدأت رحلة العلاج من تركيب السماعات، إلى جلسات التخاطب والنطق، ومهارات السمع.

قيل لها إنه من الممكن أن يدخل المدرسة مثله مثل أي طفل عادي إذا كانت هناك متابعة واهتمام من المعلمين، مع تطبيق استراتيجيات معينة حتى يستطيع الطفل المشاركة والتواصل كزملائه. وعادت الأسرة إلى المملكة عام 1983م ولم يكن يوجد فيها أخصائيي تخاطب في ذلك الوقت. تقول لم أفكر وقتها بأخذ الأولاد للعيش خارج المملكة، فافتراق العائلة قد يكون له أثر سلبي أكبر على الأطفال، لذا سنجرب هنا أولاً .

قصة كفاح.. ونجاح
قبلت المدرسة الطفل بصعوبة، بعد الاتفاق مع والدته سلطانة على أن مرحلة الحضانة ستكون تجربة. وبدأت والدته التركيز عليه في المنزل، وعلمته القراءة البسيطة وفك الحرف، إضافةً إلى تطبيق ما تعلمته في أمريكا لتنشيط مهارات السمع لديه. فأتم مرحلة التمهيدي بنجاح والانتقال للصف الأول ثم الثاني إلى أن تخرج من الصف السادس بامتياز. ثم اكتشفت والدته أن أخاه وأخته من بعده يعانون هم أيضاً إعاقة سمعية.

عند كل إجازة صيف كانت العائلة تسافر إلى أمريكا لحضور جلسات التخاطب التي تتم باللغة الإنجليزية طبعاً. فالمهم هو فتح الطرق في المخ للتخاطب خاصة إنهم أطفال عاديون ولا يعانون أية إعاقة ذهنية .. وكانت متفائلة بوصولهم إلى الجامعات والحصول على شهادات عليا من خارج المملكة.. لأنه وإلى اليوم لا توجد برامج في المملكة لمن يعانون إعاقات سمعية.. لذا تم إرسالهم إلى مدارس داخلية ببريطانيا، وبعد إتمام الثانوية التحقوا بالجامعة بأمريكا، وهم الآن يحملون شهادات البكالوريوس من هناك.

فكرة وهدف: مركز جش
في غمرة الشعور بالألم والقهر واليأس فكرت سلطانة في أن كل هذه المعاناة ما هي إلا امتحان, وربما اقتضت إرادة الله ذلك لتومض فكرة تأسيس مركز على غرار المركز الذي قدَّم لهم العلاج والجلسات في أمريكا.

تأسس مركز جش بعد التعاقد مع الدكتورة فريدا ويلسون وزوجها الدكتور جوني ويلسون وهما أخصائيا تخاطب كانا يعملان بجامعة الملك سعود في الرياض. كانت د. فريدا هي المديرة الفعلية للمركز ولمدة ست سنوات تعلمت منها السيدة سلطانة أساليب الإدارة وكل ما يتعلق بالمركز، الذي أدرج فيه صندوق لإعانة المرضى غير القادرين على دفع رسوم العلاج, وبعد بحث حالة المريض الاقتصادية يعفى من دفع نسبة من الرسوم ويتكفل هو بما تسمح به حالته المادية. وبالإضافة إلى حالات ضعف السمع يعالج المركز حالات أخرى كانخفاض نسبة التركيز وفرط الحركة وضعف اللغة والقراءة عند الأطفال, وعدد آخر من الاضطرابات المشابهة. وتفخر السيدة سلطانة بحصولها على شهادة الجمعية الأمريكية للنطق والسمع ASHA لجهودها المتميزة في هذا المجال إضافة إلى شهادات أخرى على المستوى المحلي.

ألا ليت الشباب..
عندما بلغت السيدة سلطانة الـ 41 ذهبت لحضور اجتماع للأهالي بالجامعة التي سيلتحق ابنها بها، وتمنت في ذلك الوقت أن يعود الزمن إلى الوراء لتكمل هي دراستها الجامعية.. وعند حضور الاجتماع علم مدير الجامعة بظروف عملها ومسؤولياتها وأنها لم تحصل على الشهادة الجامعية، فعرض عليها الالتحاق بالجامعة بنظام الانتساب. وفعلاً التحقت بالجامعة وحصلت على البكالوريوس في علوم السلوكيات وكان موضوع البحث عن الإعاقة السمعية بالمملكة العربية السعودية عند الأطفال واحتياجاتهم من الرضع وحتى سن 12 سنة، وتم اجراء البحث بمدارس الأمل.

لا ماشي.. ولا عادي!
السيدة حميدة علي رضا ابنة عم السيدة سلطانة وأرملة أخيها كانت من أكثر الأشخاص الذين أثروا في حياتها.. فقد توفي زوجها وهي ما زالت في الرابعة والعشرين من العمر تاركاً لها ثلاثة أطفال أكبرهم لم يتجاوز السادسة من العمر وأحدهم معاق سمعياً.. وكانت هي المسؤولة عن كل ما يخصهم، لذا كانت أمنية سلطانة أن تصبح ربة منزل، لا مديرة مركز ولا أي شيء من هذا القبيل، ويكون لديها ثمانية أطفال مسؤولة عنهم وتعتني بهم. أما بعد افتتاح المركز فقد تأثرت بطريقة زوجها في العمل، كما تعلمت منه هو والدكتورة ويلسون وضع مستوى أداء عالٍ جداً وعدم القبول بأقل منه. (أما كلمة ماشي و عادي فهي غير مقبولة أبداً ويجب أن تمسح من القاموس العربي فبها لن يصبح الأداء لا ماشي ولاعادي وإنما أسوأ ما يمكن) مثلما تقول.. وهي تعتبر نفسها إنسانة كانت بلا طموح ولم تكن متفوقة في المدرسة بسبب الكسل وعدم بذل الجهد, أما الآن فقد تغيرت حياتها كثيراً بعد اتباعها هذا الأسلوب، فإن لم تكن متأكدة من أنها ستؤدي العمل كاملاً فتفضل ألا تقوم به مطلقاً.

بدون اعتراض..
الشيء الوحيد الذي تتمناه السيدة سلطانة هو فتح برامج بكالوريوس وماجستير ودكتوراة في مختلف مناطق المملكة. فمستوى الإعاقة هنا يماثل مستوى الإعاقات في الخارج، ومن دون هذه البرامج لا يمكن عمل الأبحاث اللازمة للوقاية ولتفادي هذه المشكلات بالإضافة إلى احتياج المجتمع لوسائل علاجية وتشخيصية باللغة العربية.. ومن ناحية أخرى تتمنى فتح المجال لعمل المرأة المهيأة أصلاً للعمل في هذا المجال الذي يتطلب العطف والحنان والإحساس بالأمومة ويتلاءم مع ديننا وطبيعة مجتمعنا من دون اعتراض من أحد.

وقد بدأت السيدة سلطانة محادثاتها مع الجامعات وهي تعرض عليها المساهمة في إنشاء هذه البرامج والتعاون مع الجمعيات المتخصصة في كندا وأمريكا للاستفادة من خبرتها لتستكمل بذلك المشوار الذي خدمت به شريحة كبيرة من المجتمع والذي بدأته في لحظة تفكُّـــر.

أضف تعليق

التعليقات

زامل محمد باغر

نحتاج لمثل هذه النماذج في حياتنا لكي نحافظ على مجتمع متعلم مثقف ومتطور ومهذب وهذا الأهم فهي مثال راقٍ جداً للمرأة الراقيه في كل جوانب حياتها .