علاقة الشرق بالغرب والأنا بالآخر والغرب كملاذ ملائم للهروب..
كل هذا في رواية «بروكلين هايتس» لميرال الطحاوي، التي تقرؤها هنا هويدا صالح.
هناك مدخلان مهمان يُطرحان بقوة عند الدخول لعالم «بروكلين هايتس» الرواية الصادرة حديثاً عن دار ميريت، والتي نالت جائزة «نجيب محفوظ» ورُشِّحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية: المدخل الأول هو علاقة الشرق بالغرب أو الأنا بالآخر، وهذا المدخل هو الأبرز في الرواية، «بروكلين هايتس» تعيد إنتاج هذه العلاقة التي نوقشت من قبل منذ أن طرحها توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، وطه حسين في «أديب»، ويحيى حقي في «قنديل أم هاشم»، ولويس عوض في «مذكرات طالب بعثة»، وعبدالرحمن بدوي في «هموم الشباب»، وعبدالحميد جودة السحار في «جسر الشيطان»، ويوسف إدريس في «السيدة ريفينا»، و«نيويورك 80»، والطيب صالح في «موسم الهجرة للشمال»، وبهاء طاهر في «بالأمس حلمت بك» و«الحب في المنفى»، وروايات أخرى اختلفت فيها نظرة الكاتب العربي إلى الغرب، ما بين نظرة تتعامل مع الغرب بوصفه المثال المتفوق ثقافياً على الشرق المتخلف، ونظرة ترى الشرق الأفضل صاحب الحضارة والثقافة في مقابل الغرب المستغل، موطن الفساد والشر.
إذاً ميرال الطحاوي تطرق باباً سبق طرقه، وتخوض عالماً كُتب عنه كثيراً، فما الذي ستقدمه للقارئ لكي يخرج عن هاتين النظرتين النمطيتين للأنا والآخر أو لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب؟
وقعت ميرال الطحاوي في النظرة النمطية نفسها لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب، فالبطلة «هند» التي هربت من عالمها التعس الشقي في محاولة لإيجاد ملاذ آخر تتحقق فيه آمالها بعد أن طلقها زوجها، تكتشف هناك تعاسة أخرى جديدة تعيش فيها، فقد عاشت هناك في حي الفقراء التعساء الذين لجؤوا إلى أمريكا «الحلم المنشود» لكل تعساء العالم الثالث، لكن أمريكا لم تكن رحيمة بهم، فتعود الذات الساردة عبر التذكر والاسترجاع إلى الوطن/ الشرق، ويغمرها الحنين، فتلجأ للذاكرة الانتقائية وتنتخب من لحظات ماضيها من الشرق ما يؤكد سبب هروبها حيناً، وما تتوق لتعود إليه في لحظات غربتها حيناً آخر.
إذاً لم يكن الغرب هو المكان الأفضل للذات الساردة، ولم يكن، أيضاً، هو الملاذ الأكثر ملاءمة للهروب. فهي تقر على لسان بطلتها التي جلست تشارك صغيرها الطعام وتفتح لفافة للحظ، فيربكها حظها الذي سطر على ورقة اللفافة تقول: «كانت تريد أن ترى حظها في أي شيء. أبراج البخت وأوراق الحظ المسماة «تاروت» والكوتشينة، وكف يدها أحياناً. حتى جبينها إذا كان هناك من يستطيع قراءته، لكنها لم تتوقع أن تجده في قطعة العجين المقددة، على ورقة صغيرة ملفوفة بطريقة حلزونية دقيقة، تفتحها بعناية من يخاف على قدره ومصيره الذي تحمله اللفافة، ثم تقرأ: «ما ينتظرك ليس أفضل مما تركته وراءك».
إذاً نبوءة حظها تظهر منذ البداية، منذ الصفحات الأولى للرواية.
تلك النظرة جعلتها تغرق في الحنين إلى الماضي، ما يجعلها تبحث عما يذكرها بأماكن الأنا/ الشرق أو الوطن: «كلما أرادت أن تعود لحي العرب تحت وقع الحنين أو المقت».
في حين أن الابن الذي لا يمتلك ذاكرتها ولا ذلك الميراث من الحنين يتحرر أكثر من رغبتها في الوجود في حي العرب.
هذه النظرة النمطية تجعلنا نتساءل: هل الغرب مقولة فكرية؟ أم تجربة وموقف؟ وبالتالي، فإن العلاقة بين الأنا والآخر لا يمكن صياغتها في شكل ثابت، وإنما هي علاقة تتغير باستمرار، مثلما تتغير علاقتنا بالأنا خلال مراحل العمر المختلفة، وهي مرتبطة بمجمل الظروف والتغيرات المختلفة التي نعيشها؟
المدخل الثاني للرواية هو المدخل النسوي، أو الكتابة التي تتناول عالم المرأة وخصوصيته، حيث تقدم لنا الرواية قصة «هند» التي تركت زوجها بعد أن طُلقت وهربت من عالم مترع بالتعاسة بسبب زوجها الذي اكتشفت خيانته، ترحل إلى عالمها الجديد في أمريكا حاملة معها حلماً بكتابة رواية تكون بطلتها امرأة تعيسة تشبه تعاستها أو هي ذاتها، لا يرافقها في رحلة البحث عن ذاتها سوى ابنها الصغير ابن الثامنة.
قدمت ميرال الطحاوي عالماً مليئاً بالشخصيات النسائية المأزومة والمقهورة، فالذات الساردة/ هند مصرية مقهورة، وجوجو المكسيكية التي تترك زوجها عبدالكريم، وليليت التي تترك زوجها في مصر بلا مبرر، وإيمليا الروسية التي تلقي محاضرات طويلة في نقد السياسة الأمريكية.
ورغم هروب البطلة من القهر في بلادها إلا أنها تواجه القهر نفسه حيث وصلت حين تتصادم مع صاحب الشقة التي تسكنها.
في السطور الأولى من الرواية تسرب للقارئ الافتراضي أن بطلتها ستعيش حاملة وحدتها وصغيرها في بلاد تشعرها بالغربة والمرارة، وتعطيها الفرصة لاجترار الألم: «ومن بين كل الشوارع تختار «فلات بوش» لأنه يصلح لها وهي تركض حاملة وحدتها وعدة حقائب وطفلاً يتساند عليها كلما تعب من المشي».
وتلك النظرة النسوية أو زاوية الرؤية النسوية نجدها منذ المفتتح الذي اقتبسته من الشاعرة «فروغ فرخازاد» حيث تقول:
«مضى الزمن ودقت الساعة أربع دقات
وهأنذا امرأة وحيدة على عتبات فصل البرد
ثمة ريح في الزقاق وأنا أفكر باقتران الزهور
والبراعم ذات السيقان الرفيعة على عتبات فصل البرد»
لا يخفى على القارئ دلالة المقطع الذي أوردته، وأنه يُعد عتبة مهمة من عتبات قراءة النص، وأنه يرشح بقوة أهمية المدخل النسوي في قراءة الرواية.
يحتل المكان في «بروكلين هايتس» أهمية خاصة، ليصير هو خامة الكاتبة لتوصف وتسرد حيوات شخوصها. المكان في الرواية لم يكن مجرد خلفية للأحداث أو مسرحاً لها، بقدر ما هو أداة سردية من خلالها تؤكد الكاتبة تعاسة هؤلاء النسوة اللاتي امتلأت بهن الرواية. تطل الكاتبة من خلال ذلك المكان على فضاء العالم المتنوع، الذي تمتاز به مدينة نيويورك، بما تحتضنه من عشرات الأعراق والأجناس واللغات. في مشهد الافتتاح تفيد الكاتبة من الوصف لتقدم لنا مكان روايتها: «فلات بوش تراه على خرائط «الإنترنت» وهي تبحث عن غرفة واحدة تصلح للإيجار في منطقة بروكلين، تراه في عدسة البحث حارة ضيقة مليئة بالالتواءات، يتعامد على «بروكلين بريدج»، ذاك الجسر الممتد الطويل الذي يربط الجزيرتين».
القسم الثالث والمعنون بـ«المقبرة الخضراء»، يضيء وصف الوضع النفسي لبطلة الرواية هند، عبر بهجة الموت وسكينة العجائز… فتتجلى في وصف الطحاوي تقنية التداعي الحر للأمكنة، ودلالاتها، بل وإيحاءاتها عبر تيار الوعي، فتذكرها المقبرة الخضراء بأمكنتها الحميمة التي احتضنت طفولتها وصباها وتعلقها بجدتها.. لافتة إلى تَوَثُّق الصلة بين هند وجدتها، والذي يظهر حين تنام هند بحجر الجدة، كلما أرهقتها الوسائد القاسية التي لا تعطي حنانها لأحد، لتنعس بعدها حالمة ببلاد لتتحقق خلال أحلامها النبوءة.
تهرب «هند» من ذاك الواقع الذي عايشته في الماضي ولم تطق تحمله، إلى واقع جديد كما أوضحنا، ولكن الواقع الجديد دفعها لأن تمارس عملية التداعي الحر استدعاء للأمكنة والأحداث التي تسكن الذاكرة، ولكن التداعي الحر جاء موفقاً في بعض الأحيان وغير موفق في أحيان أخرى كثيرة.
أجادت الراوية وصف الأحياء التي يسكن فيها المغتربون، وأجادت وصف أحوالهم سواء في الخارج أو في مضيفة الأب «مكان الأحلام المشتهاة»، ورغم ذلك الوصف الجيد، إلا أنها افتقدت لإحكام الخيط الدرامي للأحداث. فرغم أن الرواية لم تراهن كثيراً على التجريب في السرد، بل استخدمت آليات السرد الروائي الكلاسيكي، إلا أن عدم إحكام البناء الروائي جعل الرواية تقف في منطقة البين بين ما بين الكلاسيكية والتجريب.