على عكس ما هو متوقع مبدئياً من العلم، لجهة القدرة على الجزم والإثبات وتبديد التكهنات، فإن الأبحاث الجارية في أي مكان بالعالم حول فوائد بعض الأغذية ومضار بعضها الآخر، تأتي كل يوم بنتيجة لا تختلف فقط عن نتائج أبحاث الأمس، بل أحياناً تنقضها تماماً. وما التساؤل الذي طرح مؤخراً حول الحليب و ما إذا كان سُماً كما جاء في عنوان مجلة لونوفيل أوبسيرفاتور الفرنسية، إلا واحد من عشرات الدراسات المدهشة في ارتباكها ونقضها لمفاهيمنا الشائعة التي دعمتها في وقت من الأوقات دراسات أخرى.
وبالعودة إلى مراجع طبية وعلمية مختلفة، أعدت ليلى أمل هذا التقرير حول العناصر المؤثرة على نتائج الأبحاث الغذائية، وتناقض نتائجها.
هل أنت من عشاق القهوة؟ هل اعتدت أن تتناول إفطاراً تتغير مفرداته من يوم لآخر، ما عدا شيئاً واحداً تحرص على تواجده دوماً.. هو القهوة؟ ثم.. هل قررت ذات يوم أن تقلع تماماً عن تناول القهوة، بعد خبر قرأته في صحيفتك يتحدث عن مضارها، وتأثيرها السلبي على صحتك؟ وماذا تفعل إذن إذا جلست ذات صباح، تتناول إفطاراً لم تعد القهوة العزيزة إحدى مفرداته، ثم وجدت في الصحيفة نفسها بعد أشهر قليلة، خبراً يتحدث عن فوائدها العديدة، والأخطار التي يمكن للقهوة أن تحميك منها؟
ليست القهوة وحدها هي بطلة هذا السيناريو، الذي أصبح مألوفاً بشدة هذه الأيام. فهناك قائمة طويلة لأغذية، يتكرر معها التضارب نفسه فيما نقرأ أو نسمع حول تأثيرها على صحتنا، وتتكرر معها كذلك حيرتنا!
هل تمثل القهوة خطراً حقيقياً على صحتنا؛ لأنها تعرضنا للإصابة بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، وترقق العظام؟ أم أنها، على العكس من ذلك، تقلل من احتمالات الإصابة بمرض السكري، ومرض باركنسون، وتمثل عامل حماية مهم ضد العديد من الأمراض، وعلى رأسها مرض السرطان، لاحتوائها على نسبة عالية من مضادات الأكسدة؟
هل الصويا هي الغذاء السحري القادم من دول شرق آسيا، فلم يكتفِ بكونه حلاً فعالاً لمشكلات الجوع، ونقص البروتين الحيواني لدى كثير من شعوب العالم الثالث، ولكنه أضاف إلى ذلك قدرة على الحماية من أمراض القلب، والذبحة الصدرية، وتصلب الشرايين، وسرطان الثدي والبروستاتا؟ أم أن الرأي الذي يتحدث بنبرة تحذيرية عن أخطار الصويا ومنتجاتها هو الرأي الصحيح.. ذلك الرأي الذي لا ينفي فقط تلك الفوائد التي عرفت بها لسنوات، ولكنه يتحدث كذلك عن أنها تسبب اضطرابات شديدة في أداء الغدة الدرقية، وتضعف جهاز المناعة، وتؤثر سلباً على الصحة الإنجابية؟
هل تحمي الشوكولاتة من مرض السرطان، أم أنها تحمل لنا خطر الإصابة بالسمنة، ومرض السكري، واضطرابات الهضم، وفقدان الشهية؟ هل يمثل اللبن ومنتجاته عنصراً غذائياً مهماً، وبخاصة لصحة العظام والأسنان، أم أنه أحد المصادر الأساسية للكوليسترول الضار في طعامنا؟ هل يسبب الشاي الإصابة بفقر الدم، أم أنه يحافظ على صحة القلب والشرايين؟
لماذا هذا التضارب المثير للدهشة، في الأخبار التي تصلنا حول تأثير مفردات غذائنا على صحتنا؟
لماذا يبدو الأمر وكأن العلم يتخلى فجأة عن حسمه المعتاد، ويصاب بالتخبط، حين يتعلق الأمر بالحقائق حول الغذاء؟
أين تكمن المشكلة.. في الخبر، أم في ما وراء الخبر؟ فيهما معاً؟ أم في أشياء أخرى غيرهما؟
الصحافة العلمية.. من المختبر إلى الميديا
في صباح الثالث من مايو للعام 1998م، حملت صحيفة النيويورك تايمز عنواناً مثيراً على صفحتها الأولى، لمقال تتحدث فيه محررته العلمية الشهيرة واللامعة جينا كولاتا، عن أننا خلال عامٍ واحدٍ، سنرى أول مريض للسرطان يتناول دواءً فعالاً، يستطيع أن يعالج أي نوع من أنواع هذا المرض، ومن دون أية آثار جانبية!
أظن أننا الآن -في العام 2006م- نعرف تماماً مدى دقة الخبر. لكن الأمر لم يكن كذلك في اليوم الذي تصدر فيه واجهة صحيفة معروفة بموضوعيتها. فخلال ساعات من نشر الخبر، أصبح موضوع الحديث في كل مكان في أمريكا.. في الراديو، والتلفزيون، وعلى الإنترنت. أجهزة الإعلام تتسابق لتحقق نصيباً أكبر في متابعة الحدث، تؤكد به تفوقها.. والمرضى راودهم الأمل في الشفاء من المرض القاتل. ولم يكن الاقتصاد بعيداً عن دائرة التأثير.. فقد ارتفعت أسهم شركة إنتر مِد ، الشركة الصغيرة التي تنتج ذلك الدواء على نطاق ضيق بغرض الاستخدام البحثي له، من 12 دولاراً فقط للسهم إلى 83 دولاراً بعد يوم واحد من تاريخ النشر!
بعد أسبوع حافل بالحديث والتحليل، تجمعت خيوط القصة الأكثر موضوعية أمام الرأي العام. فالخبر الذي استحوذ على كل ذلك الاهتمام، كانت تقف وراءه قصة أبسط، عن الدراسات التي يجريها فريق بحثي من مستشفى بوسطن للأطفال، على أحد البروتينات التي يُرَجّح أنها تلعب دوراً ما في عملية تثبيط نمو الأورام السرطانية. كانت تلك الدراسات ناجحة على الجانب المعملي، وأدت إلى الوصول إلى عقارين مستخلصين من ذلك البروتين حققا نتائج مشجعة عند اختبارهما على فئران التجارب. ولكن، يقول المختصون إن الطريق طويل للغاية بين تلك التجارب، وبين الوصول إلى علاج فعال لمرض السرطان.. فنجاحه مع حيوانات التجارب، لا يعني مطلقاً نجاحه مع الإنسان. وفي هذا الإطار يقول د. يودا فولكمان رئيس الفريق البحثي، الذي بَنَت النيويورك تايمز قصتها على أساس تجاربه، تعليقاً على الخبر: أشعر بالزهو لتلك النتائج، لكنها تخص الفئران.. فقط الفئران.. لو كنتَ فأراً وأصبت بمرض السرطان، فإننا نستطيع أن نعتني بك جيداً !
الفارق كبير إذن بين القصة الحقيقية، والخبر الإعلامي المثير .. حتى لو كانت الجهة التي تنشر الخبر على مستوى النيويورك تايمز ، وحتى لو كان المحرر بشهرة ومكانة جينا كولاتا، التي كان قد مضى على عملها مع النيويورك تايمز وقت نشر ذلك الخبر، أحد عشر عاماً، كتبت خلالها ستمئة مقال، احتل الكثير منها مكاناً بارزاً في الصفحة الأولى. لم يكن الأمر تلاعباً مقصوداً بحقائق العلم، أو تضليلاً للرأي العام (رغم أنه يكون كذلك في حالات أخرى). ولكنها طبيعة العمل الإعلامي، التي تفرض توازناً بين المصداقية في التناول، وبين قوة الخبر وتأثيرة على متلقيه.. ذلك التوازن الذي يجنح أحياناً للطرف الثاني، خاصة حين يكون الموضوع الذي يتم تناوله موضوعاً علمياً يتسم بالجدية، ويشوبه الكثير من الجفاف.
وإن كان هذا هو الحال مع الأخبار العلمية عامة، فإن الأمر يزداد بعداً عن الموضوعية حين يتعلق بدراسات وأبحاث الغذاء. فالحديث هنا يتناول شيئاً مهماً شديد الالتصاق بحياتنا اليومية، ويمس حبنا للحياة وخوفنا من المرض.
فتحت تأثير الرغبة في صنع مادة إعلامية جذابة ومميزة، تقع الصحافة العلمية في خطأ القفز إلى الاستنتاجات، وتعلّق على النتيجة التي خرج بها بحث ما، آمالاً، أو تحملها أخطاراً، أكبر مما قد تم التوصل إليه بالفعل. أو تتجه إلى إطلاق التعميمات، فتصنع من حقيقة بسيطة كخطورة الإفراط في استهلاك بعض أنواع الأحماض الدهنية على صحة القلب مثلاً، دعوة ملحة إلى مقاطعة جميع أشكال الدهون في طعامنا، بالرغم من أهميتها.
حين يتعرض الإعلام لأبحاث الغذاء، فإنه غالباً ما يلغي نظرية الاحتمالات، فيتحول الغذاء الذي ربما يكون أحد أسباب الإصابة بمرض معين، إلى غذاء يصيب بهذا المرض. ويتحول آخر ربما يسهم في الحماية منه، إلى غذاء يقي من الإصابة به. الصحافة العلمية مطالبة إذن بالمزيد من الدقة في تناولها لهذا الأمر، لكننا بالرغم من ذلك نتساءل لماذا تظهر تلك الـ ربما في أبحاث الغذاء بالذات؟ لماذا يبدو الأمر حافلاً بالمساحات الرمادية، مع شيء تعودنا منه دوماً على الحسم؟
ما وراء الخبر
هناك ثلاثة أسباب رئيسة تقف وراء تلك الـ ربما .. الطبيعة المعقدة لما نأكل، والاختلاف الذي تتفاعل على أساسه أجسامنا مع طعامنا، ثم الإطار الذي يدرس من خلاله هذا التفاعل.
فكل طعام نتاوله يحتوي على مواد تمثل المجموعات الغذائية الرئيسة.. الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون، مع كميات أقل من الفيتامينات، والمعادن، بالإضافة إلى النواتج الثانوية لعمليات التمثيل الغذائي. وهي مركبات كيميائية يكوّنها النبات ليس بغرض استخدامها كمصدر لغذائه، ولكن لأن لها وظائف أخرى.. فبعضها مواد صبغية يحتاجها النبات لتكتسب ثماره ألوانها المميزة، وبعضها تمثل حماية للنباتات من الإصابة بالأمراض. هذه المركبات هي حلقة وصل بين الغذاء والدواء، لما لها من تأثيرات مهمة على وظائف كثيرة في الجسم البشري.
إذن.. حين نتعامل مع الغذاء، فإننا لا نتعامل مع مادة كيميائية واحدة ذات تأثير واحد محدد، وإنما مع مجموعة ضخمة ومتنوعة من المواد. كل مادة منها، أو مجموعة مواد متشابهة، تسلك سلوكها الخاص، ويكون تأثير الغذاء الذي يضمها معاً، هو مجموع كل هذه التأثيرات.
تحتوي القهوة على نسبة عالية من مادة الكافيين، التي تشير دراسات عديدة إلى كونها أحد أسباب ارتفاع ضغط الدم، وزيادة مستوى الكوليسترول الضار في الجسم. لكن احتواء القهوة على مواد أخرى يجعلها مشروباً صحياً ربما ينصح بتناوله! فقد ربطت الدراسات بين تناول القهوة بانتظام، وبين انخفاض معدل الإصابة بمرض السكري بسبب احتوائها على عنصري البوتاسيوم والمغنسيوم، اللذين يرفعان حساسية الجسم تجاه هرمون الإنسولين، وبالتالي يتمكن من ممارسة دوره بكفاءة محافظاً على مستوى السكر في الدم في معدله الطبيعي. كذلك تعتبر القهوة أحد المصادر الرئيسة لمضادات الأكسدة، التي تربط دراسات كثيرة بينها وبين الحماية من مرض السرطان.
ولأن الجسم البشري هو الآخر منظومة على درجة عالية من التعقيد، فإن أجهزته المختلفة تستجيب بطرق مختلفة للمادة الواحدة. فصحة القلب تتضرر بتأثير الكافيين، بينما يحصل المخ على فوائد عديدة. فالكافيين يرفع مستوى الأداء الذهني، ويحسن الذاكرة. بل إن بعض الدراسات الحديثة أشارت إلى دوره المحتمل في علاج مرض باركنسون، حيث إنه يزيد من تركيز الدوبامين في المخ، وهي المادة التي يتسبب نقصها في الإصابة بهذا المرض.
الجينات والغذاء.. قرار مشترك
–
ما الذي يحمي مواطني جنوب شرق آسيا من الإصابة بسرطان البروستاتا؟
– تناولهم للصويا بكثرة.
–
لماذا الهنود هم أقل الشعوب تعرضاً للإصابة بمرض الزهايمر؟
– لأنهم يضيفون الكثير من الكركم إلى طعامهم.
تبدو تلك الإجابات مقنعة ومنطقية، وتدعمها دراسات إحصائية دقيقة، ثم تجرى دراسة معتمدة على تلك الحقائق في أوروبا أو أمريكا، فتخرج نتائجها مخيبة للآمال، ومثيرة للحيرة. فلا الصويا قللت من معدلات الإصابة بسرطان البروستاتا، ولا الكركم أثبت حماية فعّالة من مرض الزهايمر.
ما السبب وراء هذا الاختلاف؟ الإجابة هي الكلمة السحرية التي اكتسبت مكانة هائلة، ودوراً مؤثراً، خلال العقدين الماضيين: الجينات. فالدراسات الحديثة تؤكد وجود تفاعل مستمر بين الغذاء والجينات، حيث تقوم أطعمة معينة بتحفيز أو تثبيط جينات تلعب دوراً في الحماية من مرض معين، أو زيادة احتمالات الإصابة به. وإذا لم توجد لديك الصورة المحددة من الجين التي يستطيع الغذاء أن يمارس تأثيره من خلالها، فلن تحظى بالفائدة التي يقدمها لك وأيضاً لن تتعرض للضرر الذي قد يحمله.
إحدى المواد الضارة التي تتعامل معها أجسامنا هي الأمينات ، حيث يتم التخلص منها على مرحلتين.. تقوم إنزيمات المرحلة الأولى بتحويلها إلى مادة أخرى لها تأثير ضار بالخلايا، ثم تقوم إنزيمات المرحلة الثانية باستكمال العمل على تلك المادة وتخلص الجسم منها. إذن تكون الأمينات مواد مسرطنة ضارة بالجسم فقط عندما تعمل عليها إنزيمات المرحلة الأولى. وهناك توازن دقيق بين إنزيمات المرحلتين، يقي من ضرر تلك المركبات. لكن البعض يملك أحد الجينات التي تزيد نشاط وسرعة أداء إنزيمات المرحلة الأولى، وبالتالي تتكون تلك المركبات الضارة في أجسامهم بسرعة أكبر من قدرة إنزيمات المرحلة الثانية على استيعابها. يوجد هذا الجين بمعدلات عالية لدى مواطني جنوب شرق آسيا، وربما يكون ذلك أحد أسباب ارتفاع نسبة الإصابة بسرطان المعدة في هذه المنطقة. ويمثل الثوم والخضراوات الورقية وسائل فعالة للحفاظ على ذلك التوازن. فالأول يكبح إنزيمات المرحلة الأولى، بينما تزيد مادة السلفورافين الموجودة في الخضراوات الورقية من سرعة أداء إنزيمات المرحلة الثانية. هل يقي الثوم والخضراوات الورقية من الإصابة بسرطان المعدة؟ الإجابة صحيحة في حالة محددة فقط.. أن تكون أحد مواطني جنوب شرق آسيا!
يقول الدكتور أوردوفاز إن: عصر التوصيات الغذائية العامة، الموجهة للجميع، ربما يكون قد أوشك على الانتهاء . ويتوقع الأطباء أنه خلال العقد القادم سيصبح أمراً عادياً أن يكون لدى كل مريض سجل جيني ، يفحصه الطبيب ليتعرف على الأمراض التي يزيد احتمال إصابته بها، ومن ثم يقدم لمريضه النظام الغذائي الواجب اتباعه للحفاظ على صحته.
أبحاث الغذاء.. العلم في مهمة صعبة
هل تمثل أبحاث الغذاء ثغرة، ينفذ منها هذا التضارب؟
تسير أبحاث الغذاء في مسارين.. يعتمد الأول على الملاحظة، بينما يعتمد الثاني على التجريب. يتميز المسار الأول بأنه الأكثر سهولة من حيث توافر أدواته، بينما يتميز المسار الثاني بأنه الأدق، رغم صعوبته.
ما الفارق بين العادات الغذائية التي تؤدي إلى الإصابة بمرض القلب، وتلك التي تحمي منه؟ عادة ما تبدأ دراسات الملاحظة بسؤال كهذا، وللإجابة عنه، يقوم الباحثون بتقديم استطلاع رأي دقيق يتناول أسئلة عن العادات الغذائية، لمجموعة من مرضى القلب، ومجموعة من الأصحاء.. هل تتناول اللحوم الحمراء؟ وما طريقة الطهو التي تعدها بها؟ هل تدخِّن؟ هل تتناول كميات كبيرة من منتجات الألبان عالية الدسم؟ وكلما تعددت الأسئلة، وكلما زاد عدد أفراد المجموعتين، كلما زادت دقة النتائج التي تصل إليها الدراسة. وبعد الحصول على الإجابات، تتم دراستها وتحليلها إحصائياً، لمعرفة أكثر العوامل ارتباطاً بالمرض. وقد تسير دراسات الملاحظة في الاتجاه المقابل.. من الحاضر إلى المستقبل، وليس إلى الماضي. وذلك عن طريق تتبع مجموعة كبيرة من الأصحاء، وطرح أسئلة دقيقة على فترات زمنية محددة حول طبيعة عاداتهم الغذائية، وتقييم حالاتهم الصحية. بعد مرور 10 سنوات أو أكثر، يتم فحص النتائج، والربط بين ظهور المرض في أفراد المجموعة، وبين اتباع نمط غذائي معين.
ويواجه ذلك النوع من الدراسات مشكلة في أهمية دلالته.. إذ إن وجود ارتباط بين غذاء معين وبين أحد الأمراض، لا يعني بالضرورة أنه سبب مؤكد للإصابة بذلك المرض. ففي دراسة شهيرة بحثت في تأثير القهوة على صحة القلب والشرايين، أوضحت النتائج أن مرض القلب مرتبط بالإفراط في تناول القهوة. لكن من يتناولون القهوة بكميات كبيرة، كانوا أيضاً ممن يدخنون التبغ، ويتناولون أطعمة غنية بالدهون، ويمارسون قدراً ضئيلاً من النشاط البدني. فالعادات الغذائية الضارة، وكذلك الصحية، غالباً ما تصاحب بعضها، ويصعب الفصل بينها لمعرفة تأثير أحدها بمفرده.
تقدم لنا الدراسات التجريبية إجابات أكثر دقة. حيث يتم العمل على مجموعتين، تتناول إحداها الغذاء محل الدراسة، بينما تظل الأخرى -المجموعة الضابطة- على النمط الغذائي نفسه الذي اعتاده أفرادها. بعد مضي فترة زمنية محددة، تتم مقارنة المجموعتين عن طريق مؤشرات تعتبر أساساً للحكم على كفاءة أجهزة الجسم المختلفة.. كضغط الدم، أو نسبة الكوليسترول، أو وجود بروتينات معينة يعتبر إنتاجها علامة على احتمال الإصابة بالمرض. وبمقارنة نتائج المجموعتين، نستطيع أن نقيّم مدى الارتباط بين ذلك الغذاء، والمرض الذي نتوقع وجود علاقة تجمعه به.
على الرغم من قدرة هذا النوع من الدراسات على إعطائنا إجابات أكثر حسماً ، إلا أن مشكلتها تكمن في صعوبة تطبيقها وتكلفتها الباهظة. كما أنها تفشل أحياناً في الإجابة عن بعض الأسئلة، وتترك علامات استفهام كثيرة معلقة. ما الذي يحدث بعد المدى الزمني الذي غطته التجربة؟ أحد الأمثلة الشهيرة على علامة الاستفهام تلك، دراسة بدأت في العام 1966م لقياس قدرة فيتامين B على خفض مستوى الكوليسترول في الدم، مقارنة بمواد أخرى لها هذا التأثير. وخرجت النتائج بعد انتهاء التجربة في العام 1975م، تنفي وجود فارق لصالح فيتامين B. لكن عندما استمر الباحثون في تتبع المتطوعين أنفسهم حتى العام 1984م، أظهرت النتائج وجود فارق لصالحه.. فمن تناولوا الفيتامين B، يتمتعون بصحة أفضل، وبمعدل وفيات منخفض مقارنة بمن تناولوا الأدوية الأخرى التي شملتها الدراسة.
ما بعد العلم.. المال، والدعاية
في هذا العصر، أصبح كل مجال من مجالات حياتنا، جزءاً من الدائرة الواسعة التي تخضع لتأثير العاملين الأكثر أهمية: المال، والدعاية الإعلامية. والغذاء هو سلعة تخضع لقوانين السوق، وعليها أن تجني ربحاً، وربحها يزداد بزيادة الدعاية المروّجة لها.
في الوقت الذي كانت تجري فيه المناقشات بين المسؤولين في هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، أعلى سلطة صحية في الولايات المتحدة، حول إمكانية إصدار توصية معتمدة من الهيئة، تشير إلى أن جرعة يومية من بروتين الصويا تقدر بـ 25 جراماً، يمكنها أن تقلل من احتمالات الإصابة بأمراض القلب، اهتزت الأوساط العلمية بسبب خطاب احتجاج رسمي وجهه اثنان من خبراء الهيئة نفسها هما: د. دانييل شيان، و د. دانييل دورج، يطالبان فيه المسؤولين بعدم الموافقة على هذا القرار، مستندين إلى مجموعة من الدراسات العلمية التي تربط بين تناول الصويا، والتعرض لمشكلات صحية على درجة عالية من الخطورة، في حين أن الكثير من حسناتها لا يزال فرضيات لم يتم التأكد من صحتها بشكل نهائي. وعلى الرغم من أن تلك الاحتجاجات لم تؤتِ ثمارها، وصدرت التوصية بشكل رسمي في أكتوبر من العام 1999م، وأصبح نصها عبارة مطبوعة على أغلفة منتجات الصويا المنتشرة بكثرة في السوق الأمريكية، فإن الضجة التي صاحبت تلك الاحتجاجات فتحت الباب لظهور جانب جديد من أسطورة الصويا .
كشف الجانب المظلم من الأسطورة، عن حقيقة الدور القوي الذي لعبه الاقتصاد، في الترويج لها. تقول خبيرة التغذية د. ماري إينيج إن: الأمر بدأ عندما أصبح استخراج زيت الصويا، صناعة ذات شأن في الاقتصاد الأمريكي، وتنبه القائمون عليها إلى الجزء الآخر المتبقي من النبات، وهو الجزء الغني بالبروتين، وإمكانية الاستفادة منه . لم تنجح فكرة استخدام الصويا كغذاء للحيوان، وبالتالي اتجه التفكير إلى فتح سوق جديد غير تقليدي، يمكنه أن يستقبل تلك السلعة، ويجني من ورائها ربحاً. لم يقتصر السوق الجديد على استخدام الصويا بصورتها النباتية، بل تعددت المنتجات التي تعتمد عليها كأحد مكوناتها الرئيسة، بدءاً من لبن الصويا، ولحم الصويا، وبرجر الصويا، وانتهاء بالآيس كريم! يحتاج السوق الجديد لدعائم علمية يرتكز عليها، ولهذا ينفق منتجو الصويا ملايين الدولارات بهدف تمويل برامج بحثية ودعائية، تهدف إلى تأكيد فائدة الصويا، وتعزيز مركزها في سوق الغذاء.
لا ينكر العلم أن للصويا فوائد صحية. فهناك دراسات تؤكد تأثيرها في خفض مستوى الكوليسترول في الدم. لكن الأمر لا يبتعد كثيراً بعد هذا الحد. كما أن تلك الدراسات تتحدث عن تناول الصويا بصورتها الطبيعية، وليس كأطعمة مصنعة، وبكميات عادية كالتي نتناول بها طعامنا المعتاد، وليس بجرعات مكثفة. هذا هو حديث العلم، لكن صوت الاقتصاد القوي، أقوى من حكمة العلم، وتوازنه. هذه الحقيقة هي ما جعل الحكومة البرازيلية تخطط لإعداد فيلم تسجيلي دعائي يتحدث عن القهوة وفوائدها، ويتناول كيفية زراعة البن والرحلة التي يقطعها قبل أن يصبح منتجاً تجارياً يصل إلى أيدي عشاقه. هذا الفيلم هو جزء من خطة الحكومة للحد من تراجع مبيعات القهوة بالأسواق العالمية نتيجة لتزايد الحديث عن مضار القهوة، وتأثيراتها السلبية على الصحة.
إن العلم يقوم بدوره، ويبحث في تأثير الغذاء على صحتنا. ويقوم الإعلام بدوره فيقدم لنا الحقائق التي وصل إليها العلم، حتى وإن جنحت طريقته صوب المبالغة في أحيان. ويبقى علينا أن نصنع من تلك الأخبار، المتضاربة أحياناً، ثقافة صحية واعية، تهدينا بتطبيقها حياة أفضل.. وأن نقرأها قراءة صحيحة، ونقيّم مصداقيتها، ونتعامل معها بموضوعية. فلا نسير معها لأقصى اليمين، فنصاب بالحيرة كل يوم لثلاث مرات -على الأقل!- ونترك خيارات لذيذة آمنة، بل وأحياناً خيارات مفيدة وضرورية لصحتنا. ولا نسير معها إلى أقصى اليسار، ونتجاهل أصوات تحذيراتها، فنلحق بصحتنا الضرر.
الأورتوريكسيا بعد الأنوريكسيا
بعدما أدى الهوس بالرشاقة إلى ظهور المرض النفسي المعروف باسم أنوريكسيا الذي يعاني المصاب به (أو عادة المصابات به) من النحول غير الطبيعي وفقدان القدرة على تناول الطعام اللازم، أدى الاهتمام المفرط بنوعية الغذاء السليم إلى ظهور مرض جديد سماه الأطباء أورتوريكسيا . و الأورتوريكسيا حالة تصيب أولئك الذين ينتابهم قلق شديد حيال الأطعمة الضارة والمفيدة, فيتقيدون حرفياً بكل ما يقرأونه في هذا المجال. وتكبر لائحة الأطعمة التي يرفضونها بشكل غير طبيعي، فيمتنعون عن تناول معظم ما تقدمة المطاعم, وأيضاً ما يقدم لهم في الولائم. وإضافة إلى أن الأمر قد يؤدي بهم إلى وضع لائحة أطعمة مقبولة لا تخلو من الأخطاء، فإن حالتهم تؤدي بهم إلى اضطرابات نفسية تتراوح ما بين الشعور بالعزلة، والاكتئاب الدائم, وفقدان الرغبة في الحياة.