الثقافة والأدب

الحمار الذهبي
أول رواية وصلتنا كاملة في التاريخ

  • 82a
  • 80a
  • 81a

يعتبر المؤرخون أن رواية «ساثيريكون» الرومانية، التي تعود إلى منتصف القرن الأول الميلادي، هي أول رواية في التاريخ. وإن صحّ الأمر، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الرواية وصلتنا ناقصة، واشتهر منها القسم المعروف باسم «مأدبة تريمالخيو». أما أول رواية وصلتنا كاملة فهي «الحمار الذهبي» التي كتبها لوكيوس أبوليوس في القرن الثاني. فيما يلي نبذة عن المؤلف والرواية وصفحات منها.

يعتبر لوكيوس أبوليوس واحداً من أبناء شمال إفريقيا الذين برزوا في ميدان الأدب اللاتيني على زمن الإمبراطورية الرومانية. ولد عام 124 أو 125م، وتوفي حوالي عام 180م. واتسمت كتاباته بالتنوع فشملت الفلسفة والتاريخ والموسيقى والشعر والنحو والحساب وعلم الفلك، وعلم وظائف الأعضاء، والعلوم الطبيعية، والفلاحة وعلم الأسماك وغير ذلك.

ولكن لم يصلنا من خطبه ورسائله وأشعاره وكتاباته الفنية والعلمية الكثيرة إلا القليل نسبياً، ومن ضمنه «أحد عشر كتاباً في التحولات» الذي صار يعرف لاحقاً باسم «الحمار الذهبي»، وشكل نوعاً أدبياً جديداً، هو ما يعرف اليوم بالرواية الإطارية التي تضم مجموعة من القصص من جهة، وبالرواية «الأنوية» التي يرويها المؤلف نفسه بضمير المتكلم من جهة أخرى.

الرواية موضوعاً وشكلاً
تقع هذه الرواية كما يدل عليها اسمها اللاتيني الأصلي في أحد عشر فصلاً (كتاباً). وهي ليست مبتكرة بالكامل، بل قامت على أصل يوناني مفقود، ولكنها أبعد ما تكون عن اعتبارها ترجمة للأصل اليوناني، الذي بقي مجرد إطار أضاف إليه المؤلف الكثير من الحكايات وحمّلها أقصى ما يمكن أن تحمله من آرائه في شتى أوجه الحياة.

أما موضوعها العام فيدور حول شاب يدعى أبوليوس (مثل اسم المؤلف) كان يحلم بأن يتحول إلى طير عن طريق السحر، ولكن خطأً في اختيار المرهم السحري أدى إلى تحوله إلى حمار! لتبدأ بذلك رحلة شقائه ومغامراته التي تنتهي بعودته إلى صورته الآدمية. ولكن ما بين التحولين لا يكون هذا الحمار مجرد دابة تعامل بقسوة من قبل الإنسان، بل أيضاً كان شاهداً على سلوك هذا الإنسان وقيمه وعاداته وتقاليده. ومن خلال هذا الإطار يرسم لنا المؤلف على لسان الحمار وذكرياته صورة يجتمع فيها الجد بالهزل عن عالم الحضارة الرومانية بدءاً بعصابات اللصوص ودناءة الرهبان الوثنيين وانتهاءً بقسوة السادة على العبيد في عصر مريض ومضطرب.

وقد ظهرت الترجمة العربية لهذه الرواية لأول مرة على يد الدكتور فهمي خشيم عام 1980م، غير أنها تضمنت بعض الحذف والصياغة والتصرف. حتى أن عنوانها كان «الجحش الذهبي». أما الدكتور أبو العيد دودو الذي أعاد ترجمتها عام 1992م، فقد كان على ما يبدو أكثر التزاماً بالنص اللاتيني، ويقول إن حماراً يتمتع بالحكمة والفحولة والرقة الإنسانية ليس جحشاً، ولذلك يفضل استعمال كلمة «الحمار الذهبي». وقد صدرت الترجمة الثانية في ثلاث طبعات خلال السنوات الخمس الأخيرة، اثنتان في الجزائر، ومؤخراً عن الدار العربية للعلوم في بيروت.

من رواية الحمار الذهبي
الحمار يروي شقاءه
وما أن وصلنا إلى المدينة، حتى نزل أهلها إلى الشارع لمشاهدة المنظر الذي ترقبوه، وتراكضوا كلهم، الأبوان، والأقارب، والأتباع، والمكفولون والخدم، وقد علا البشر وجوههم وأسكرتهم الفرحة، فكوَّنوا موكباً من كل جنس ومن كل عمر، ومشهداً جديداً معتبراً: فتاة يافعة تمتطي حماراً في موكب النصر! وتبعاً لذلك أظهرت أنا أيضاً متعتي، وبكل قواي، حتى لا أبدو بوصفي غير مشارك في هذه اللحظة المثيرة، فمددت أذني، ونفخت منخري ورحت أنهق، بل أرسل دوياً كالرعد! وأخذ الوالدان ابنتهما إلى غرفتها وعُنيا بها في اهتمام بالغ. أما أنا فقد أعادني تليبو ليموس مع عدد كبير من دواب الحمل ومجموعة من شبّان المدينة بسرعة إلى مغارة اللصوص، وقد أطعته بسرور، فقد كنت أتطلع بفضول إلى أن أرى الآن أيضاً كيف يتم أسر اللصوص. فوجدناهم لا يزالون مكبلين بالخمر الرديئة أكثر مما هم مكبلون بالقيود التي وضعت لهم. وبعد أن طلب منهم الكشف عن كنوزهم، وأخرجت هذه الكنوز، وحملنا الذهب والفضة وما أشبه ذلك، دُحرج اللصوص الأشرار، وبعضهم لا يزال موثوقاً كما كان، وألقي بهم على رؤوسهم من فوق الصخور القريبة، بينما قطعت رؤوس بعضهم الآخر بسيوفهم وتركوا هنالك.

وعدنا إلى المدينة ونحن مسرورون راضون عن إقامة العدل كما ينبغي، وسلمنا الغنائم إلى الخزنة المدنية. أما تليبو ليموس فقد سلمت إليه الفتاة، التي استرجعها بنفسه، وتزوجها بشكل رسمي.

وأخذت السيدة منذ ذلك الحين تحيطني برعايتها الكاملة وتغدق عليَّ بسخاء، وأمرت في يوم عرسها بأن يُملأ معلفي بالشعير ويُقدم لي تبن يكفي لإشباع جمل بلخي. ولكن أي نوع من اللعنات الرهيبة، أستطيع أن أصبه على رقبة فوتيس، التي لم تحولني إلى كلب، وإنما حولتني إلى حمار! فقد رأيت الكلاب كلها تتلقى نصيباً من الأطعمة الفاخرة أو تأخذها بنفسها وتأكل منها فوق كفايتها.

وبعد الليلة الفريدة ودرس الحب الأول لم تكف الزوجة الجديدة عن الإشادة بما تدين لي به إلى أن وعدها أبواها وزوجها بأنهم سيقدمون لي أكبر مكافأة ممكنة. وعندما استدعى بعدئذ الأصدقاء المقربون، أخذوا يتشاورون في الطريقة التي يتم بها تكريمي بما يليق بي. واقترح أحدهم أن أترك لأنعم بالراحة بين جدران اصطبلي الأربعة ويقدم لي علف من الشعير الممتاز والفاصولية والبسلة الجبلية مكافأة لي. على أن شخصاً آخر، كان يفكر في حريتي، غلبه على رأيه واقترح أن أقتاد إلى المروج وأطلق هناك لأسرح بين قطعان الخيول وأتوثب وأملأ، بصفتي معشراً أصيلاً لإناث الأفراس، حظائر أصحابها بأمهر البغال!

ونُفذ الأمر في الحين، فدعي المشرف على حظيرة الخيل، وسلمت إليه بعد حديث طويل ليذهب بي. فسرت أمامه منشرح الصدر مسروراً، وفي ذهني أنني سأودع قريباً الأحمال وغيرها من الأثقال، وأنعم بحريتي وأتطلع إلى بداية الربيع، الذي سأعثر فيه بالمروج الخضراء على بعض الورود بهذه الطريقة أو تلك. وفي تلك الأثناء خطرت بذهني فكرة أخرى، وهي أنني إذا كنت قد أنعم عليَّ كل هذا الإنعام وأكرمت كل هذا الكرم بصفتي حماراً، فلا بد أن يكون الإنعام عليَّ، حين أستعيد صورتي الإنسانية، أكثر من ذلك بكثير.

المكافأة:
شقاء من جديد

على أنني لم أشعر، بعد أن قادني
المشرف على حظيرة الخيل إلى المكان المقصود خارج المدينة، بالمسرة ولا بأي أثر للحرية. فقد شدتني زوجته، وهي امرأة نفعية بخيلة، إلى نير الطاحونة، وراحت تضربني ضرباً شديداً بهراوة من فروع الشجر، لأطحن لها ولأسرتها دقيقاً بعرق جلدي تطبخ منه خبزاً، ولم يكفها أن تنهكني في إطعام أسرتها، وإنما طحنتُ القمح بدوراتي للجيران أيضاً في مقابل مبلغ من المال. وحرمتني أنا الحقير التافه حتى من نصيبي المقرر من الشعير! فقد جففته وطحنته من نفس الطاحونة التي أديرها وباعته بصورة منتظمة للفلاحين المجاورين -أما أنا، الذي كنت أقضي اليوم كله مشدوداً إلى الطاحونة، فكانت تقدم لي قبل هبوط الليل نخالة غير مغربلة قذرة وتصر فيها الحجارة.

ثمن الحرية

وبعد أن استسلمت صاغراً لمثل هذه العذابات، سلَّط عليَّ الحظ القاسي آلاماً جديدة، وذلك لكي أستطيع، كما قيل، أن أفخر بأعمالي البطولية في البيت وفي الجبهة! فقد تذكر الراعي الفاضل مؤخراً ما كان قد أوصاه به السادة وأخرجني إلى الحقل لأرافق قطعان الخيل. فأصبحت أخيراً حماراً حراً! فأخذت أرقص وأثب جذلان فرحاً وأبحث عن إناث الأفراس، اللواتي يصلحن أن يكن ضجيعاتي، إلا أن هذا الأمل الجميل تحول إلى خطر يهدد حياتي. ذلك أن الأحصنة، التي كانت بحكم عادة السفاد القديمة تأكل وتملأ بطونها منذ زمن طويل، وكانت على أية حال مرعبة بالنسبة إلى أي حمار وأقوى منه ببساطة، لم تتوقع مني شيئاً يروق لها، فهاجمتني، منعاً للخيانة الزوجية المخلة بعراقة النسب، بشراسة، وبدون مراعاة لقوانين الضيافة، بوصفي منافساً لها في فُحولتها. فرفع أحدها مقدمته الضخمة، وأقام رأسه بشكل مستقيم، وأخذ يلاكمني بحافريه الأماميين، وأدار الثاني ظهره المكتنز وناوشني بحافريه الخلفيين، بينما راح آخر يتوعدني بحمحمته الخبيثة، ونصب أذنيه إلى الخلف، وكشف عن أسنانه البيضاء الشبيهة بالسكين وعضني بقوة! هكذا كنت قد قرأت في التاريخ عن ملك عراقي، كان يقدم ضيوفه المساكين إلى أحصنته المتوحشة لتمزيقهم وأكلهم. لقد كان هذا الطاغية المتباهي يضن عليها بالشعير إلى درجة أنه كان يطعمها من جوع بما يضعه أمامها بسخاء من أطباق لحوم البشر. وعلى هذا المنوال مزقتني هجمات الأحصنة بحيث رغبت في العودة إلى عربة الطاحونة.

العودة إلى
العبودية

ولكن الحظ لم يشبع من تعذيبي وحفر لي حفرة أخرى. ذلك أنني انتدبت لنقل الحطب من الجبل، وعين رئيساً لي شابٌ شرير من جميع نواحيه، فلم يكف أن يتعبني الجبل بعلوه ووعورته، ولم يكفه أن تجرح الحجارة المسننة حوافري، وإنما راح فوق ذلك يضربني بهراوة دون انقطاع حتى أن ألم ضرباته كان يخترق جسمي حتى النخاع. وبما أنه كان يلهب بضرباته جانبي الأيمن على الدوام وينزلها في الموضع نفسه فقد فتق جلدي وأحدث فيه خرقاً بل ثقباً أو قرحة واسعة، ولم يكن يتوقف عن ضرب الجرح الذي كان يقطر دماً. وكان يُحملني عندها حملاً من الحطب، يخيل للمرء أن كتلة رزمة قد أُعدت ليحملها فيل لا ليحملها حمار. وما أن يفقد الحمل توازنه ويميل إلى جانب، حتى يلتقط الحجارة. بدل أن ينزع من الحمل المنزلق بعض الأعواد ويريحني من ضغطه لأسترد أنفاسي أو يضعها فوق الجهة الأخرى لإحداث التوازن -على الأقل- ويثقل بها الحمل من الجانب الآخر. ولم يرضه هذا الخطب الذي ألمّ بي، وجعلني أحمل ما تجاوز الحد من الحطب، وإنما جلس، حين وصلنا إلى مجرى مائي، يسيل بمحاذاة الطريق في اتجاه الوادي، كان علينا أن نقطعه، فوق ظهري ليحفظ نعليه من البلل، وكان وزناً خفيفاً بالنسبة إلى ما كنت أحمله بطبيعة الحال! وإذا حدث مرة حقاً وعجزت، لأن الطين الموحل يجعل صفحة المجرى زلجة، عن مسك الحمل وزلقت أو وقعت وكان في وسع الحمار في هذه الحالة أن يسرع إلى مساعدتي، فيجرني من اللجام أو من ذيلي لأقف، أو يخفف من حملي على الأقل إلى أن أنهض ثانية من كبوتي- فإنه لم يساعدني على ما أنا فيه من عناء، بل كان ينهال علي بهراوة كبيرة ويضربني فوق رأسي، بل فوق أذني بصورة خاصة، إلى أن تنهضني هذه الضربات بدل أن ينهضني التخفيف عني!

لقد فكر الوغد في المكر بي على الوجه التالي أيضاً: كان يأخذ حزمة من الأشواك الحادة، التي تنطوي على السموم، ويربطها بخيط معقود، ويثبتها في ذيلي بوصفها آلة تعذيب معلقة. فإن أنا مشيت، تحركت وترنحت وجرحتني بإبرها القاتلة بشكل مرعب! وهكذا كان عليَّ أن أختار بين شرين: عندما أخب لأتجنب هجماته الرهيبة، تتأرجح الأشواك وتخزني بشدة أكثر، وعندما أتوقف قليلاً لأخفف من ألمي، ترغمني ضرباته على الجري. وكان يبدو أن هذا الوغد الحقير لا يفكر في شيء آخر غير كيف يتم له القضاء عليَّ على هذا النحو أو ذاك! وقد أقسم على ذلك وهددني أكثر من مرة.

وقد حدث بالفعل ما كان سبباً في عودته إلى خبثه الشنيع بشكل أسوأ. فقد فقدت ذات يوم صبري على وقاحته المسرفة، فرفعت حافري الخلفيين وركلته. ففكر في هذه الفعلة الشيطانية! لقد حملني رزقة كبيرة من القنب وربطني بالحبال بمهارة، وأخرجني إلى الطريق، ثم سرق فحمة ملتهبة من منزل ريفي قريب ووضعها وسط الحبل بالضبط، فاشتعلت النار في الهشيم حالاً، واتسعت وارتفعت لهباً، وعمني الوهج المميت، فلم أر لي من نجاة من هذا الخطب الأسوأ ولا أمل في الخلاص منه، ولم يكن هذا الإحراق ليسمح لي أيضاً بالتفكير في أمر أفضل. إلا أن هناك بصيصاً من الحظ التمع في هذه اللحظة اليائسة، فقد لحظت مصادفة على مقربة مني غديراً في الماء الموحل، كان قد تجمع من أمطار اليوم السابق، فرميت بنفسي فيه بوثبة واحدة كيفما اتفق بحيث انطفأت النار تماماً، وتخلصت أخيراً، عندما خرجت، منه ومن الحمل ومن الموت. ولكن الغلام الخبيث الوقح نسب هذه المخزاة إلي، وأكد للرعاة جميعهم أنني تعثرت على قدمي المترنحتين عندما مررت بكانون الجيران، فاشتعلت فيَّ النار من دون مساعدة منه وابتسم وأضاف يقول:
– حتى متى نستمر في تقديم العلف لهذا الحيوان المحروق من غير فائدة ترجى منه؟

مؤامرة بني البشر

وبعد مضي أيام قليلة أراد أن يعاملني معاملة أسوأ إلى حد بعيد، فعندما باع في الكوخ القريب ما كنت أحمله من حطب وساقني من غير حمل، أخذ يصيح بأنه لم يعد يتحكم في حقارتي، وأنه أصبح غير قادر على القيام بدور المشرف، وأرسل شكاة من هذا النوع:
– ألا ترون إلى هذا الكسول الممل، إلى حمار الحمار؟ فبعد مخازيه الأخرى ها هو الآن يخيفني بمزعجات جديدة! فما أن يلمح ماراً، سواء أكان امرأة لطيفة أو عذراء في سن الزواج أو حتى غلاماً ناعماً، حتى يلقي حمله، وفي بعض الأحيان يلقي أحلاسه أيضاً، وينطلق كالمجنون ويداهم الناس في هيام، ويسقطهم ويتهالك عليهم، ويظهر نزوات مجرمة لا مثيل لها وملذات فظيعة، ويجعل من نفسه خاطباً يعافه الجَمال، حتى إنه ليوزع ما يشبه القبل ويندفع ويعض بفمه الوقح. إن هذه الواقعة ستسبب لنا مجادلات ومشاجرات خطيرة، بل ربما ترفع دعوى ضدنا. لقد شاهد قبل لحظة فتاة بهية، فألقى الحطب، الذي كان يحمله إلى الوادي، في الحين وبعثره، واندفع نحوها كالمسعور قُدماً وطرحها دون محاباة فوق الأرض القذرة، وهَمَّ باعتلائها أمام الناس جميعاً في عين المكان، إلا أن نحيبها وصراخها نبّهَا المارة إليها فأسرعوا إلى نجدتها. ولو لم ينزعوها من حافريه مباشرة ويحرروها منه لداسها وحطمها تحطيماً، يعرضها هي لعذاب إليم، ويعرضنا نحن لعقاب شديد!.

ومن خلال هذه الأكاذيب وأمثالها، التي زاد صمتي الخجول من شدة وطأتها عليَّ، حرض الرعاة على الوقوف ضدي. فقال عندئذ أحدهم:

– فلنذبح الآن عريس الجميع هذا المدنس العام للحرمات، كما يليق بممارسته المنافية للطبيعة، ونقدمه قرباناً! ثم أضاف:
– هيا ياغلام! اقطع رأسه حالاً، وارم أحشاءه لكلابنا، واحتفظ باللحم لنقدمه وجبة للعمال! أما الجلد فنذر فيه الرماد للمحافظة عليه وحمله إلى السادة. ومن السهل أن ندعي بعدئذ أن الذئب هو الذي قتله.

وبدأ فهمي -وهو الجدير بالعقاب- ومنفذ حكم الرعاة فيّ يشحذ مباشرة السيف في حجر الجلخ، وقد امتلأت نفسه مرحاً وسخرية من وضعي ومن تذكر ضربة الحافر تلك، التي أتأسف بالغ الأسف لقلة فعاليتها.

وعندئذ قال أحد الحاضرين من الأهالي:
– من الإثم أن يقتل حمار جميل من هذا النوع وأن يستغنى عن أعماله وخدماته الجليلة لمجرد أنه متهم بالشهوانية والمغامرات الماجنة! فإذا ما أنتم قطعتم خصيتيه، فلن يستطيع المباشرة بعد ذلك بأية حال من الأحوال، ولن يعود لكم ما تخشونه من متاعب ومضايقات، ثم إنه سيكون لكم فوق ذلك أسمن وأكثر اكتنازاً. وإني لأعرف أن الكثير من الأحمرة الكسولة وحتى من الجياد الجامحة، التي عانت من الرغبة العارمة في التعشير وأصابها الجنون والشرود، تصبح أكثر طواعية وهدوءاً، بعد مثل هذا الإخصاء، وأكثر قدرة على الحمل والقيام بما يشبه ذلك من الأعمال في صبر. وبناءً على هذا أستطيع، إذا لم يكن لكم رأي آخر غير هذا الذي أقترحه عليكم، أن أذهب إلى البيت، بعد أن أنتهي من عمل أقوم به في السوق المجاور خلال فترة قصيرة، لأحضر الأدوات اللازمة لمثل هذه العملية، ثم أعود إليكم بسرعة وأفتح فخذي هذا الماجن الكريه وأخصيه وأجعله أكثر وداعة من أي خروف!

لقد أنقذني هذا الحديث الجميل من بين ذراعي الموت، واحتفظ بي لعقاب لا عقاب أنكر منه. فأحنيت رأسي، ورحت أنحب في صمت. لأن أمري سينتهي، ما دام الدور قد وصل إلى أكثر أجزائي الجسمية تطرفاً. ومن ثم عزمت على وضع حد لحياتي عن طريق إضرابي المتواصل عن العلف أو بإلقاء نفسي من مكان عال، لأموت طبعاً على هذا المنوال، ولكني أموت محتفظاً بأعضائي الكاملة. وبينما كنت أفكر هكذا في الطريقة التي أختارها لانتحاري، قادني في الصباح من جديد ذلك الغلام، جلادي، إلى الطريق الجبلي المعهود، وربطني في الحين إلى فرع معلق في سنديانة ضخمة، وصعد هو نفسه الطريق قليلاً وأخذ يقطع الحطب ببلطته، وكان يريد أن ينزل به، وإذا برأس دب رهيب يخرج من مغارة قريبة! وما كاد نظري يقع عليه، حتى جعلني ظهوره المفاجئ أهتز رعباً وأضع ثقل جسمي كله في باطني ركبتي الخلفيتين، وأنصب رقبتي، وأقطع السير الذي يحيط بعنقي، وأفر بسرعة فائقة. لم أكن أركض برجلي فقط، وإنما كنت أركض بجسمي كله، أتدحرج فوق المنحدرات وأسير مسرعاً في المراعي المكشوفة، لا أفكر إلا في الخلاص من الدب الرهيب ومنه، من ذلك الغلام الذي كان أسوأ من الدب.

مقتل السيد الشرير

وعندما لمحني أحد السفر، جاء إليَّ وركبني بسرعة، وأخذ يضربني بعصاه، وقادني إلى طريق جانبي غير معروف. ورحت أخب في سرور بعيداً عن مجزرة الخصي ولم أهتم بالمناسبة بضرباته، فقد تعودت أن أضرب ضرباً رادعاً.

على أن الحظ أقبل بسرعة كبيرة ليحول بيني وبين اغتنام الفرصة المناسبة للاختفاء، ونصب لي فخاً جديداً. ذلك أن رعاتنا كانوا قد خرجو للبحث عن بقرة سخيفة، كانت قد فقدت، وأخذوا يطوفون في اتجاهات مختلفة، فقابلونا مصادفة، وعرفوني في الحين، فمسكوا بزمامي ليجروني، إلا أن الآخر قاومهم بصورة عنيفة وتساءل عما إذا كان يقبل مثل هذا أمام الله وعباده وقال:
– لماذا تجرونني بالقوة؟ لم تهاجمونني؟
– أهكذا! أنُسيء معاملتك، وأنت الذي سرقت حمارنا وأخذته؟ الأفضل لك أن تعترف حالاً. أين أخفيت الغلام -لا شك أنك قد قتلته- الذي كان يقود هذا الحمار!

وطرح أرضاً في الحين، وانهالت عليه الضربات بالأيدي والأرجل إلى أن أخذ يقول ويقسم أنه لم ير سائق الحمار، وإنما وجد الحمار وحده طليقاً، ولم يأخذه في الحقيقة إلا طمعاً في المكافأة، وسيعيده إلى صاحبه في هذه الأثناء. وقال:
– لو أن الحمار، الذي أتمنى حقاً لو أنني ما كنت قد رأيته قط، ينطق لاستطاع أن يشهد على براءتي! وعندئذ ستندمون على دناءتكم هذه.

ولم يفد تأكيده لهم في شيء، فقد وضع الرعاة المزعجون حبلاً حول عنقه، وعادوا به إلى غابة ذلك الجبل، الذي اعتاد الغلام جلب الحطب منه. ولكنهم لم يجدوا له أثراً في أي مكان -ورأوا أن جثته قد مزقت عضواً عضواً ونثرت في كل مكان هنا وهناك! لقد لاحظت بوضوح أن ذلك كان من عمل الدب وأسنانه، وكنت حقاً سأبوح بما أعرفه لو أنني كنت قادراً على الكلام، إلا أنني قدرت على شيء واحد على الأقل، دون كلمات طبعاً، وهو أن أهنئ نفسي على الانتقام منه ولو هو جاء متأخراً! وتم في النهاية العثور على الجثة بكامل أجزائها المتناثرة، وجمعت لمقتضى الضرورة ودفنت في المكان نفسه، أما راكبي بيلليفرون البريء فقد اتهموه بالسرقة والقتل الدموي، وحملوه مقيداً إلى أكواخهم، إلى أن يمضوا به -حسب قولهم- في صبيحة الغد إلى الشرطة ليسلم إلى العدالة.

وعندما كان والداه ينحبان ويبكيان صغيرهما، جاء ذلك الفلاح، الذي لم يخلف وعده إطلاقاً، وطالب بخصائي كما تم الاتفاق على ذلك. قال أحدهم:
– لم تأت خسارتنا الراهنة من هذا. ولكننا لا نريد يقيناً أن نقطع لهذا الحمار الدنيء جزءه المخصب فقط، وإنما نحب أن نقطع رأسه أيضاً في صبيحة الغد وستجد هؤلاء الناس تحت تصرفك.

وانتقام أم الولد

وهكذا أجل شقائي إلى اليوم الموالي، وقد كنت عندئذ ممتناً شاكراً للغلام، الذي منحني بموته يوماً آخر أحياه حتى لحظة إعدامي، إلا أن الوقت لم يتح لا بفرحتي ولا براحتي، فقد دخلت أم الغلام، التي كانت تبكي ميتة ابنها الرهيبة، إلى حظيرتي، والدموع تنهمر من عينيها، وقد ارتدت السواد وراحت تقطع شعرها الأشيب، الذي حثت الرماد فوقه وقالت، وهي تنتحب وترتعد وتضرب صدرها بقوة:
– ها هو الوغد يهجم الآن على معلفه في هدوء، يطاوع نهمه ويوسع كرشه، العديم القعر بحشوه بالعلف، لا يشفق عليَّ فيما أعانيه من حزن أو يفكر في الخطب الفادح الذي ألمّ بصاحبه! وليس له طبعاً إلا أن يسخر من عجوز ضعيفة مثلي ويحتقرها ويتصور أنه سينجو من العقاب على جريمة من هذا النوع. أتراه يعتقد أيضاً أنه بريء؟ إنه من أولئك الأوغاد الذين لا يتوقعون أن يصابوا بأذى رغماً عن عذاب الضمير. بحق الآلهة، يا وغداً يمشي على أربع. لو أنك نطقت بشكل عابر فأي مأفون يمكنك أن تقنعه بأن هذه الفعلة الشنيعة قد تمت دون أن يكون لك ذنب فيها، وقد كان في وسعك أن تدافع بحوافرك عن الغلام الشقي وترد الشر عن نفسك بأسنانك؟ كيف، أكنت تستطيع مهاجمته هو نفسه في أغلب الأحيان وتعجز، عندما كان عليه أن يموت، عن الدفاع عنه بالحيوية نفسها؟ لقد كان في مقدورك أن تأخذه فوق ظهرك على الأقل، وتحمله بعيداً منتزعاً إياه من أيدي قطّاع الطريق القتلة، وألا تتركه في آخر الأمر -وهو زميلك وصاحبك ومرافقك وراعيك- وتتخلى عنه وتنجو بنفسك. أم تراك لا تعرف أن من يرفض عادة تقديم النجدة والمساعدة في وقت الخطر ويسيء بذلك إلى الأخلاق الحميدة، يصله العقاب أيضاً؟ على أنك لن تفرح طويلاً بما أنا فيه من شقاء، أيها السفاح! لا بد أن تشعر أن الطبيعة تمدنا بالقوة في لحظات الحزن والأمل!

وبعد هذه الكلمات ربطت رجلي بخيوط اثنتين اثنتين، وقاربت فيما بين كل منهما بشدة، وهذا حتى لا أستطيع بطبيعة الحال الدفاع عن نفسي عند تنفيذ العملية، ثم تناولت قضيباً يُسدّ به باب الحظيرة عادة، وراحت تضربني بدون انقطاع إلى أن تعبت ووهنت قواها وسقط القضيب من يدها تحت ثقل حمله. وشكت بعدئذ من أن ذراعيها قد أصابهما التعب بسرعة، وأسرعت إلى البيت وعادت بحطبة مشتعلة ودفعت بها في خاصرتي إلى أن ألجأتني إلى السلاح الوحيد الذي بقي لي، فأطلقت سيلاً من الروث ولوثت وجهها وعينيها، فأبعد العمى والنتن عني الهلاك.

أضف تعليق

التعليقات