قول في مقال

التراث
بين المخطوطات والمخلوقات

الأمة التي لا تستطيع أن تعطي اليوم، لا تستطيع أن تمتلك الأمس
نشرت صحيفة الحياة منذ فترة مقالاً للكاتب محمد عبدالوهاب جلال حول قضية التقدم العلمي العربي، ويستنتج منه أن التقدم العلمي العربي لا يقوم فقط على الأخذ بالعلوم الحاضرة التي يقدمها الغرب والانطلاق بها نحو نهضة عربية، بل يحتاج إلى صلة بالتراث تُوقظ فينا توجهنا الخاص في مقاربة العلوم. وهنا يتوسَّع كميل حوّا في تناول أشكال الاتصال بالتراث وشروطها لكي تصبح رافداً لكل عملية إبداعية حقيقية في حياتنا المعاصرة.

يقول الكاتب محمد جلال:
… العلم قبل أن يكون معلومات تُلقَّن وتجارب تُجرى ونتائج تُطبَّق، هو ظاهرة اجتماعية تولدها تفاعلات الاجتماع ومقتضيات العمران، ونتاج ثقافي تفرزه منظومات المعرفة والقيم. بمعنى أنه لا يتأتى لنهضة العلم أن تنطلق في مجتمع من دون جذور ثقافية ضاربة في تاريخه مهما بُذل من جهد .

يجدر بنا التوقف عند مثل هذا القول، فقلما تلمَّس أحد هذا الجانب الخاص في علاقة الإبداع بالتراث، سواء أكان هذا الإبداع علمياً أو في أي مجال آخر. ولا شك أن رسم ملامح أسلوب أمة من الأمم في الاختراع العلمي ليس مهمةً سهلة، بل هي من حيث المبدأ أشد صعوبة من رسم ملامح هذا الأسلوب في الآداب والفنون؛ لأن صلة الآداب باللغة، وصلة الفنون بالذوق تجعلان تلمس خصوصيتهما أقرب منالاً، ولو من بعض النواحي، إن لم يكن جميعها. غير أن تلمُّس هذه الملامح الخاصة ليس هدفاً بحد ذاته، وربما سوف يبقى مستعصياً علينا إن قصدناه عبر البحث التاريخي والأكاديمي وحسب. والحقيقة أنه ليس من سبيل أفضل لمعرفة الأسلوب العربي في الاختراع العلمي كما في الإبداع الفني من خوض غمارهما بالفعل، وممارستهما بصدق وثقة، اليوم بالذات. وربما يعطينا أول اختراع جديد، أو عمل فني صادق بعض تلك الملامح.

إن اكتشاف تراثنا لا يمكن أن يتحقق بالعمق والشمولية التي يتحقق بها إلا عبر اكتشافه في أنفسنا، من خلال ما تثمره أيدينا اليوم. أما إذا بقينا عاجزين عن ذلك الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني الذي يرقى إلى المستوى الذي يخوله أن يكون منظار الماضي (بقدر ما هو شق طريق للمستقبل) فهذا يعني أننا لن نستحق يوماً أن ندَّعي الانتماء إلى ذاك التراث، وفي المقابل سوف يبقى هذا التراث في منأى عن فهمنا الكامل له.

إن النظرة الوحيدة الثاقبة والأمينة إلى التراث، هي التي لا تتم إلا عبر إنسان اليوم. التراث هو أولاً نحن العرب الأحياء، والتراث الذي لا يكون له أثرٌ باقٍ في الناس رغم مرور زمن ما، يكون تراثاً اندثر أو كاد، وفقد أي حضور فاعل في الحضارة الإنسانية. وإذا كان التراث قوة حية، فلا بد أن يكون في المخلوقات، بقدر ما يكون في المخطوطات.

هناك أمم فقدت العلاقة بتراثها، وليس أدلّ على هذا الانقطاع أكثر من فقدانها القدرة على العطاء اليوم، فالأمة التي لا تستطيع أن تعطي اليوم، لا تستطيع أن تقيم صلة مع الأمس.. لا، بل لا تستطيع أن تمتلك الأمس، ولا أن تدعيه ملكاً، وتكون على درجة كافية من الإقناع في ادعائها.

وفكرة العودة إلى التراث طرحت للمرة الأولى في الأصل، مع بزوغ عصر النهضة، ولم تكن أوروبا لتطالب بهذا، إلا حين شعرت أنها امتلكت من أسباب النهوض من جديد ما يخولها ادعاء وراثة الحضارة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. إنها لم تقم صلة بالتراث كي تصنع عصر النهضة، بل صنعت عصر النهضة، فأقامت بذلك تلك الصلة بالتراث. والشيء بالشيء يُذكر، فقد تكون هناك مقارنة ذات دلالة حقيقية في موضوع علاقة الأمة بتراثها، هي المقارنة بين إيطاليا واليونان بتراثيهما. لقد كان لليونان في الفكر والفن بعض أغنى مظاهر العطاء في الحضارة الإنسانية، لكننا لم نشهد لهذا العطاء آثاراً كبيرة بعدما انقضت مرحلته المبكرة منذ آلاف السنين، على عكس إيطاليا التي استطاعت عبر مراحل نهضوية عديدة، وحتى يومنا هذا، أن تجدد العطاء، ويكون لعطائها بشكل أو بآخر سمة من سمات حضارتها الرومانية القديمة. وهذا لم يحدث مع أمم أخرى كثيرة كان لها مجد حضاري في يومٍ من الأيام. وربما من جملة ما نستطيع أن نعرّف به الفولكلور بأنه تراث انقطعت الصلة الحية والإبداعية به، فأصبح زينةً وتذكاراً لماضٍ اندثر، يستخدم في المناسبات والاحتفالات، من دون دلالة حاضرة.

وطلب التعرف على التراث الذي يصدر منا لا بد أن يكون شوقاً وشغفاً يبحث عن صدى عكسي لخلجات النفس الحاضرة في النفس السابقة. وحين تحركنا أبيات قصائد الفخر والحب الجامح والشهامة إنما تحركنا بما نحن عليه، وليس بما كنا عليه فقط. أنا أريد أن أقرأ أبا الطيب المتنبي ليس للاعتزاز بموهبة في الماضي، بل كمثال آخر لعبقرية حاضرة وحية ومستمرة. المتنبي حاضر اليوم، إذن المتنبي موجود في الأمس. قوله قولي كما قولي قوله، وإن اختلف الأسلوب.. وإلا فهو غير موجود بتاتاً، لا اليوم ولا الأمس، إلا كنقشٍ مندثر. إن اللجوء إلى المثل الشعري هو لجوء إلى المثال الأسهل بالطبع، خاصة اللجوء إلى المتنبي من بين الشعراء.

وإذا كان التراث مخزوناً نفسياً، فهو شبيه في حضوره لدى الذات الإنسانية بالمخزون الإبداعي فناً أو أدباً أو علماً، أو أي خيال خلاَّق من أي نوعٍ كان. فلا بد إذن أن يكون حاضراً كبنية حيّة متحركة ومتحولة في كل منا بشكل أو بآخر، بقدر أو بآخر. وإن كان التراث مخزوناً يشابه المخزون الإبداعي الفني لدى الشاعر أو الرسام أو غيرهما، فهذا يعني أن الاتصال به و استدراره من ذواتنا لا بد أن يتسم بصفات العملية الإبداعية الحقيقية نفسها، وشرطها الأول الصدق مع الإحساس، والصدق مع الإحساس سوف يكوّن اتصالاً مع التراث فينا، وهو أيضاً اتصال مع العصر فينا. فإذا كان التراث هو نحن العرب الأحياء، فإن العصر -بقدر ما نحن فيه- هو نحن العرب الأحياء أيضاً. وكل عملية إبداعية حقيقية لابد وأن تكتسب سماتها من الاثنين معاً، مع تلوينة إضافية تكتسبها من ذات المبدع كفرد له نشأته الخاصة. فأي إبداع صادق نقوم به اليوم، هو تراثٌ وعصر في آنٍ معاً.

أضف تعليق

التعليقات