حياتنا اليوم

البـــــدوي الملـثـــــــم
سأل عنه قرّاءُ القافلة سنين طويلة.. فمن هو؟

  • 67a
  • 66a

البدوي الملثم اسم مستعار حل توقيعاً لمقالات أدبية وفكرية عديدة عرفها قرّاء القافلة قديماً، ولكنهم لم يعرفوا الهوية الحقيقية لصاحب التوقيع. الكاتب هاني روحي الخطيب يميط اللثام عن وجه هذه الشخصية الفكرية المرموقة التي لعبت دوراً مميزاً في الأدب العربي المعاصر.

كنت في الثامنة من عمري عندما رأيت البدوي الملثم لأول مرة في منزلنا في القدس وكان هو والمرحوم قدري طوقان ضيفين على والدي. وأذكر أنني كرهته حينذاك لأنه حاول إقناع والدي بأن يجعلني أعود صفاً دراسياً إلى الوراء لكوني صغيراً جداً بين أقراني آنذاك. وتوالت زياراته لوالدي لأجد نفسي شيئاً فشيئاً أُعجب بهذا الرجل وبكلامه وسعة معلوماته، وأكثر ما رسّخ شعوري نحوه أنه كان يعاملني كرجل ويتكلم أمامي عن الأدب والأدباء والشعر والشعراء وعن مخالطته لأهل الأدب.

البدوي الملثم فخراً بعروبته
كان البدوي الملثم معجباً بالشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وبلغ إعجابه به أن كتب عنه ثلاثة كتب. كان والدي يدعوه بأبي خالد والبعض يعرفه بـ البدوي الملثم ولم أعرف أن اسمه الحقيقي هو يعقوب حنا العودات إلا بعد سنوات. وعائلة العودات هي فرع من فروع عائلة الهلسة المعروفة في الأردن وتتحدر من الغساسنة، وهو ما كان يفخر به دائماً. كان العودات يفخر بنسبه العربي الأصيل ويفخر بكل ما يمت إلى العربية بصلة. كما أنه لم يكن يعترف بالحدود بين العرب. وكانت قائمة أصدقائه وخلانه تضم أشخاصاً من كافة الدول العربية من المغرب إلى لبنان ومن مصر إلى الكويت. وكان ينشر مقالاته في العديد من المجلات الدورية الأدبية في كافة الدول العربية من مجلة الأديب في بيروت إلى الرسالة والهلال والمقتطف في مصر إلى قافلة الزيت في السعودية وغيرها من مجلات الكويت والبحرين وسورية وفلسطين والمغرب.

ولد يعقوب العودات في مدينة الكرك (جنوب الأردن) عام 1910م وانقطع عن الدراسة وهو في الثانية عشرة بسبب وفاة والده، واضطراره إلى تحمل مسؤولية إعالة العائلة. وفي هذا الصدد، تذكر السيدة حرمه -أم خالد وهي ابنة عائلة شحادة الفلسطينية العريقة- أنه في تلك السن المبكرة كان يشرف على بقالة صغيرة في الكرك. وكان يوماً راكباً على ظهر حمار قاصداً السوق حين رأى عن كثب شخصاً بدوياً ملثماً ذا طلعة مهيبة. وأعجب به إلى حد أنه حين بدأ الكتابة تذكّره وكنّى نفسه بـالبدوي الملثم. ظل أبو خالد يعمل ليعيل العائلة ولكنه واظب على الدراسة في الوقت نفسه في الكرك، ثم انتقل لإتمام دراسته الثانوية في مدرسة إربد الثانوية شمال الأردن.

البدوي الملثم مدرسّـاً
بعد حصوله على الثانوية، عمل مدرساً في إدارة المعارف بشرق الأردن ثم عين سكرتيراً لمجلس الوزراء الأردني فسكرتيراً معاراً للمجلس التشريعي، واقترن بعد ذلك بالآنسة نجلاء بولس شحادة ابنة صاحب جريدة مرآة الشرق المقدسية، وانتقل إلى القدس حيث عمل عام 1945م في قلم الترجمة في حكومة عموم فلسطين. وبعد نكبة عام 1948م، أعيد تعيينه موظفاً في وزارة المالية بعمان.

وفي عام 1950م، استقال من عمله، وذهب في رحلة علمية استغرقت ثلاثين شهراً إلى أمريكا الجنوبية وعاد منها بموسوعته الفريدة الناطقون بالضاد في أمريكا اللاتينية وهي عمل دقيق وضخم عن المهاجرين العرب هناك، والذين كان لهم نتاج فكري وأدبي ملموس في تلك الأصقاع. وكعادته في كل كتاباته، كان البدوي الملثم شديد الحرص على توخّي الحقيقة والدقة وهو ما التزم به طيلة حياته رغم الصعاب والعوائق. ولعل فلسفته في الحياة وحرصه على الالتزام بمكارم الأخلاق يبدوان جلياً في كتابه رسائل إلى ولدي خالد وهو كتاب ضخم يضم رسائل المؤلف الوجدانية إلى ولده خالد الذي كان يدرس الصيدلة في الجامعة الأمريكية ببيروت.

رسائله مرآة وجدانه
وتُظهر الرسائل عمق الإحساس الأبوي الذي يكنه الوالد المؤلف لولده خالد ومدى ما يشعر به من تفاؤل وثقة بالجيل الجديد من الشباب العربي الذي يمثله ولده والذي كان يرى فيه مستقبل هذه الأمة. وقد كان العودات معجباً أيّما إعجاب بالإمام الشافعي وكان يردد قصائده وخاصة بيتين كان يرددهما باستمرار:
يخاطبني السفيه بكل قبح
وأكره أن أكون له مجـــيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلماً
كعود زاده الإحــراق طيبــا

وكان البدوي الملثم أيضاً من المعجبين بالشاعر المأساوي ديك الجن الحمصي حيث ألـّف كتاباً مفصلاً عنه. وقد بدأ إعجابه به من خلال قراءته لكتابات الشاعر الكبير فوزي المعلوف عنه. وكان العودات من المحبين للأخوين فوزي وشفيق المعلوف أو المعالفة كما كان يسمّيهم. ومن الشعراء المعاصرين كان البدوي الملثم معجباً بعرار -مصطفى وهبي التل- شاعر الأردن حيث ألـّف عن سيرته كتاباً ضخماً. على أن العمل الذي استغرق منه خمسة عشر عاماً هو موسوعته القيّمة زمن أعلام الفكر والأدب في فلسطين وهو أول عمل يضم تراجم لسير الفلسطينيين، في القرنين التاسع عشر والعشرين. وترك أديبنا بصمة واضحة في عالم الفكر والأدب ورحل عام 1971م قبل طباعة موسوعته لضيق ذات اليد.

أصدقاؤه ينشرون موسوعته
وبعد وفاته تألفت لجنة من بعض أصدقائه الخلص تولت طباعة ونشر هذه الموسوعة المهمّة التي تتكلم عن سير ثلاثمائة من أعلام فلسطين. وهذه الموسوعة تظهر منهج العودات المعتمد على توخي الدقة والتوثيق. وقد شهد له الشاعر محمد عبدالغني حسن بقوله: إن الأستاذ الكبير يعقوب العودات بهذه الحشود الهائلة من أعلام فلسطين قد أغنانا عن كثير من الجهد في البحث عن تراجم الرجال حتى المتوفين منا والموجودين بيننا . وقال أيضاً: إن العوادت لا يُجرِّح ولا يُجامل وإذا جامل فبمقدار لا يطغى على الحقيقة .

العودات..رمزاً للوفاء والجود
كان العودات كثير النشاط، غزير الإنتاج، دائم الحركة في سعيه وراء الحقيقة. إلا أن أكثر ما كان يمّيزه وفاءه لأصدقائه وكرمه الشديد حتى ولو على حساب نفسه وعائلته التي عانت الأمرّين من شدة كرمه وانشغاله الدائم عنها بكتاباته وكثرة أسفاره. وقد أنجب العودات ثلاث بنات هن: مي وريما ورنده، وجميعهن متزوجات، وابناً واحداً هو الصيدلي خالد الذي كانت أمنية والده أن يحضر حفل زفافه وأن يرى أحفاده منه إلا أن القدر عاجله قبل تحقيق تلك الأمنية.

هذا هو البدوي الملثم ، يعقوب العودات، أبو خالد. الرجل الذي أثرى الثقافة العربية بكم وافر من المقالات والأبحاث والمؤلفات. وهو الذي أعطى كثيراً وقابلنا عطاءه بما يشبه النسيان.

أضف تعليق

التعليقات