بيئة وعلوم

الإنسان والحيوان
أوبئة العلاقة المضطربة بين

  • 37a
  • 33a
  • 35a
  • 36a

ارتفعت وتيرة القلق من تفشي وباء إنفلونزا الطيور خلال الأشهر القليلة الماضية, بعد ظهور إصابات بشرية في مزيد من دول العالم وصولاً إلى تركيا ومصر.
وفي مقاربة لظاهرة الأوبئة الحديثة التي تتفشى بين البشر انطلاقاً من الحيوان، ينطلق هنا الطبيب والكاتب الدكتور أحمد مغربي من تقصي الاهتزاز الحاصل في العلاقة ما بين الإنسان والحيوان (وحدوث المزيد من التداخل بين صحتيهما أيضاً) والتي تمثل جزءاً من الأثر السلبي الذي يحدثه الإنسان لبيئة الأرض عموماً.

يجوب كوكب الأرض شبح خفي مقلق راهناً. اسم هذا الشبح وباء إنفلونزا الطيور . وتسود خشية عميمة منه، إلى حد أن رجال السياسة في العالم تحدثوا عنه بلسان واحد. ولربما عبّر عن شدة ذلك القلق أن البيت الأبيض أجرى تدريباً على التصرف في حال ضربت تلك الإنفلونزا الوبيلة الشعب الأمريكي!

والمفارقة أن الوباء أحدث وفيات قليلة نسبياً ما بين عامي 2003 و2005م (ما زال الرقم أقل من المئتين)، لكنها كانت كافية لاستثارة ذعر حوله كما لو كان طاعون القرون الوسطى، الذي حصد أرواح ربع قاطني القارة الأوروبية. وفي المقابل، تموت الطيور بسببه أرتالاً وأسراباً. يقضي بعضها بأثر من فيروسه الفتّاك (يحمل اسم اتش1 ان5 H1N5)، ويباد أكثرها بيد البشر في مجازر جماعية حصدت مئات الملايين من الدواجن. وتُبرر تلك الأمور بالخوف من أن يقفز ذلك الفيروس المميت من عالم الحيوان إلى العالم الإنساني، بمعنى أن يتحول فيروساً مُعدياً يتنقل بين البشر، مثل فيروس الإنفلونزا العادية. وإذا حدث ذلك، فإنه قد ينتشر في أصقاع الكرة الأرضية، فلا يستثني بلداً، ويحصد أرواح مئات الملايين من الناس. إذا انتقل فيروس من الحيوان إلى الإنسان تحدث كارثة: ذلك ملخص الخوف الذي يتسربل العالم بثوبه المضطرب. ويستند الخوف إلى أساس علمي متين، إذ يُسبب الفيروس الذي ينتقل من الحيوان إلى الإنسان وباءً فتّاكاً لأن أجسام البشر لم تواجهه من قبل, وبالتالي لا يملك جهاز المناعة فيها أية خبرة في التعامل معه.

وبالألفاظ العلمية المحضة، فإن الفيروس المنتقل تواً من الحيوان إلى البشر، يلاقي مجتمعات لا مناعة في أجسام مجموعاتها ضده. وتُسمى تلك الظاهرة انخفاض مناعة القطيع (Herd Immunity)، مع التنبيه إلى أن المقصود هنا هو القطيع الإنساني. وثمة سوابق تدعم الرأي العلمي. ففي مطلع القرن العشرين، أي عند التبلور الأول للمجتمعات الصناعية الحديثة، قفز فيروس من عالم الحيوان (من الطيور أيضاً) إلى عالم البشر. وحينها، حدثت موجة الإنفلونزا الإسبانية الشهيرة التي قتلت ما بين 25 و50 مليوناً بين عامي 1917 و1918م. إذاً، مع بدء تاريخ المجتمعات الصناعية، اضطربت العلاقة بين عالمي البشر والحيوان إلى حد إطلاق وباء مميت وكاسح. وقبيل نهاية القرن عينه، وتحديداً في ثمانينيات القرن العشرين، حدث أمر مشابه. فمع انطلاقة العولمة المعاصرة، على يد الرئيس رونالد ريغان، شهدت العلاقة الطبيعية الوطيدة بين عالمي الإنسان والحيوان اهتزازاً هائلاً تمثل في تفشي وباء الإيدز بفيروس اتش آي في (HIV)، الذي قفز من القردة إلى البشر، حسب ما يميل إليه رأي العلماء راهناً.

إذاً، ففي ختام القرن الماضي، مع الدخول إلى طور مجتمعات ما بعد الصناعة (وما بعد الحداثة) والنمط الأمريكي من العولمة، اخترق فيروس الحدود التي تفصل بين الجسمين الإنساني والحيواني، فأحدث وباءً يعتبر الأسوأ في التاريخ البشري المعروف.

فيروسات لعبور الحواجز
بين الإنسان والحيوان
مع الإيدز، بدا وكأن تطوّر المجتمعات البشرية بات مُهدداً للعلاقات التي ربطت الإنسان بالطبيعة على مدار آلاف (وربما ملايين) السنين. فمع وضوح صورة هذا الوباء، أطلق المتخصصون في الأمراض البشرية مفهوم الأوبئة الراجعة (Re-Emerging Infections). ويشير التعبير إلى عودة مجموعة من الأمراض المُعدية إلى التفشي في صفوف البشر، بعد أن ظن العلم طويلاً أنها انقرضت أو أوشكت على الانقراض. وغالباً ما عادت لتظهر بعيداً من المناطق التي اعتادت الانتشار فيها. يدخل في إطار الأوبئة الراجعة، تفشي فيروس حمى غربي النيل (West Nile Virus)، الذي شرع بالانتشار في الولايات المتحدة، للمرة الأولى في تاريخ البشر والفيروسات، بعد أن استقر طويلاً في إفريقيا، كما يشير اسمه. وعلى غرار ذلك، انتشر فيروس الحمى النزفية إيبولا (Ebola) في كثير من دول القارة الإفريقية، وخصوصاً الدول التي تعاني من ظاهرة التصحر السريع في وسط تلك القارة وجنوبها، مُهاجراً من موطنه (الكونغو) للمرة الأولى في تاريخه. وصدّرت القارة الإفريقية، بفعل التجارة بالحيوانات الإفريقية فيروس جدري القردة (Monkey Pox)، إلى الولايات المتحدة. لم يُحدث هذا الفيروس وفيات، لكنه نشر مرضاً جلدياً غير مألوفٍ أمريكياً، تصاحبه بعض الأعراض في الجهاز التنفسي. وترددت أصداء الذعر منه في خيالات أفلام هوليوودية عدة، مثل فيلم انطلاقة وباء (OutBreak).

ويورد تقرير حديث مشترك بين وزارة الزراعة والثروة الحيوانية ووزارة الصحة في أمريكا أن 60 بالمئة من أصل 1415 مرضاً وبائياً معروفاً، يمكنها أن تُصيب البشر والحيوانات. وتنقسم هذه الأمراض إلى فئتين. وتشمل الفئة الأولى (والأقل أهمية بالنسبة لمسألة العبور من الحيوان إلى الإنسان) فيروسات قادرة على إصابة البشر والحيوان معاً، مثل الهربس والسل والحصبة. ولقد ألفها البشر نظراً لإصابتهم بها منذ أزمان بعيدة. وتتميز الثانية (مثل حمى وادي الصدع والإنثراكس وجدري القردة ومرض الهزال وغيرها) بأنها أوبئة حيوانية أصلاً، لكنها تخطت الحاجز الطبيعي بين الأنواع، لتصبح أوبئة تُصيب البشر أيضاً.

تُعطي الملاريا مثالاً من نوع آخر. لقد تفشت في أعالي جبل كليمنجارو (في إفريقيا) لسبب واضح: انحسار الثلج عن ذلك الجبل بفعل ارتفاع حرارة الأرض الذي يسببه التلوث بعوادم الوقود المستخدم في الصناعة والمواصلات. لعله مثال جدير بالتأمل، فقد أخلّت يد الإنسان بالتوازن البيئي؛ فأدى التلوث إلى ارتفاع حرارة الأرض تدريجياً مما أذاب الثلج عن جبل اشتهر طوال التاريخ بأن الثلوج لا تزول عنه. ومع الدفء، وجدت البعوضة الناقلة لمرض الملاريا، ظروفاً مناسبة لتكاثرها في الأعالي، الأمر الذي لم يحصل طوال التاريخ الطبيعي. والنتيجة؟ انتشار وباء في مناطق جغرافية غير مألوفة. يعطي كليمنجاور والملاريا مثالاً واضحاً عن اهتزاز العلاقة بين الإنسان والبيئة وأثرها على الإنسان. وشهدت مناطق عدة في أوروبا انتشاراً غير مألوف للملاريا لسبب آخر: المهاجرون القادمون من إفريقيا، وخصوصاً البلاد العربية في الشمال الإفريقي، وحركتهم ذهاباً وإياباً من وإلى مواطنهم الأصلية.

ورُصد أمر مُشابه في أمريكا الشمالية أيضاً. فمع تكاثر انتقال البشر والبضائع، عبر السفن والطائرات والقطارات والشاحنات، انتقل بعوض الملاريا بسرعة غير مألوفة، وكذلك وصل إلى مناطق لم يكن باستطاعته الوصول إليها طبيعياً. ويُجمع العلماء على الربط بين الأوبئة الراجعة والعولمة المعاصرة التي سمحت بتنقلات ضخمة وكثيفة للبشر (كما للبضائع ومستوعباتها الضخمة) بين الدول المختلفة. إذاً، يمكن القول من دون مجازفة علمية، إن الأوبئة الراجعة مرتبطة بالعولمة.

العبث بمآكل الحيوان يُهدد الجنس البشري
قبل أن يختتم القرن العشرون، شهدت بريطانيا ظاهرة لم تكن مألوفة أبداً: وباء جنون البقر. لم ينتشر هذا الوباء بصورة غير مألوفة بين المواشي فقط، بل إنه عبر (أيضاً وأيضاً) تلك الحدود التي صارت هشّة بين جسميّ الحيوان والإنسان.

لعبت يد العولمة دوراً أساساً في تفشي جنون البقر، الذي يرتبط مع عنصر ذي تركيب فيروسي يُدعى بريون (Prion)، في الحيوان والإنسان على حد سواء. فقد أدى التدجين المُكثف للحيوانات في الغرب، مع استخدام مكثّف للوسائل التكنولوجية، إلى إخراج المواشي من تاريخ تطورها الطبيعي. والحال أن التدجين ابتدأ مع استقرار المجتمعات البشرية الأولى وممارستها الزراعة والرعي، قبل نحو اثني عشرة ألف سنة. مثّلت الأبقار والأغنام والخراف طليعة الحيوانات التي نجح الإنسان في تدجينها. وعلى رغم عيشها في المزارع، إلا أنها كانت قريبة من بيئتها ومصادر غذائها الطبيعيين. ومثّلت الثورة الصناعية، ثم الانتشار العميم للكهرباء، نقطة تحوّل في هذه العلاقة. وباتت القطعان تعيش حياتها في المزارع، من دون اتصال حقيقي مع الطبيعة. إلى ذلك، حملت العولمة عنصراً جديداً: لقد بات من الممكن الحصول على أرباح أكثر، شرط أن تُنتج المزارع نفسها، ضمن المساحة عينها، أعداداً أكبر من مواشٍ أكبر وزناً، لتذبح في عمر أصغر، وذلك للتصرف في لحومها وبقية منتجاتها.

ثمة متغيّر ديموغرافي مهم: المدن المليونية، التي يُطلق عليها اسم المدن الكبرى أو الميغاسيتي Megacity. فقد بات البشر أكثر ميلاً لسكنى المدن بأكثر مما فعلوا في تاريخهم المعروف كله. تُعبّر المولات (الأسواق المُعلبّة في مبانٍ مدنية ضخمة) عن المدينة الكبيرة وعيشها. وتتولى المولات إطعام سكان المدن الكبرى بلحوم مثلجة ومعلبة من أنواع مختلفة، شرط أن تتوافر كميات كبيرة منها دوماً. لنذكر هنا أيضاً أن ثورة الفاست فود (المآكل السريعة). رافقت تلك الظواهر المترافقة أيضاً مع العولمة ذات الطابع الأمريكي. وانفتحت شهية مربي المواشي على الربح الموعود. وهكذا، ظهر العلف الحيواني، الذي لم تعرفه الحيوانات في تاريخها وتطورها. وفي بريطانيا مارغريت تاتشر، الصنو الإنجليزي للرئيس ريغان وعولمته، خُلطت الأعلاف العادية مع بقايا الهياكل العظمية، التي تنتجها المسالخ الضخمة في المدن الكبرى، إضافة إلى المخلفات الأخرى للحيوانات المذبوحة، مثل الجلد والأحشاء الداخلية والدم وغيرها. واستخدم هذا العلف على نطاق واسع، خصوصاً في بريطانيا؛ لأنه يرفع وزن الماشية بسرعة هائلة.

لم ينتبه منطق العولمة وأرباحها إلى أن للحيوان جسماً يتفاعل مع الطبيعية، ويتطور معها منذ مئات آلاف السنين.

لقد هزّت يد الإنسان حياة المواشي وعيشها (كما في حال تلوث الهواء وارتفاع حرارة الأرض) بطريقة لم تُدرك أبعادها بصورة كافية حتى الآن. النتيجة؟ انتشر مرض جنون البقر بصورة كبيرة بين المواشي البريطانية، بعد أن كان مرضاً محدوداً جداً ونادراً. وعلى غرار الجسم الحيواني، تأثر الجسم الإنساني أيضاً، وبصورة مشابهة إلى حد كبير. فقد سبب بريون جنون البقر انتشاراً غير مسبوق تاريخياً لمرض كروتزفيلد جاكوب ، ليصبح الشكل الإنساني من مرض جنون البقر. ولعله درس واضح على أحد أهم مقولات علم البيئة: لا يمكن فصل جسم الإنسان عن الظاهرة الشاملة للحياة على الأرض، التي تشمل كل الأشياء الحيّة فيها، وخصوصاً الحيوان. وفي فترة انتشار الموجة الأولى من جنون البقر، عانت فرنسا من أمر مُشابه.

لقد حفزت عقلية الربح المعولم، واستناداً إلى ظاهرة المدن الكبرى ومولاتها أيضاً، أرباب صناعة الدواجن على خلط أعلافها مع بقايا الصناعة، مثل الزيوت والشحوم الثقيلة. لم تأكل الدواجن شيئاً مشابهاً في تاريخها أيضاً. وأدى الأمر إلى أسراب هائلة من الدجاج الثقيل الوزن، الذي يحدث استهلاكه أضراراً بعيدة المدى في الإنسان. وعاشت فرنسا، والكثير من الدول الأوروبية، موجات ذعر من الدواجن المُسمنة بالشحوم الصناعية، منذ أواخر التسعينيات وحتى اليوم.

أوبئة القرن الـ 21
في بداية القرن الـ 21، شهد العالم مذبحة هائلة: إنها الحمى القلاعية، الوباء الذي انطلقت موجته من بريطانيا. وهذه المرة، لم يُمارِ أحد في العلاقة بين التدجين المُكثّف للدواجن وبين الانتشار الصاروخي للمرض. وسرت الحمى القلاعية بسرعة البرق، في دول عدة. وعبرت حدود القارات بسهولة ويُسر. وسهّلت العولمة ذلك الانتقال، خصوصاً مع الحركة الكثيفة لتصدير المواشي واستيرادها في العالم. فمع تحوّل الحيوانات إلى مجرد بضائع، صار انتقال الأوبئة الفيروسية أسهل بكثير من ذي قبل. وفي موجة الحمى القلاعية في العام 2002م، أُحرقت ملايين الحيوانات، بعد قتلها، لأن بقاياها يمكن أن تنقل فيروس هذه الحمى.

حمل ذلك الوباء معلماً آخر. لقد أظهر أهمية الحدود الجغرافية (لنلاحظ أن معظم إجراءات الوقاية تركزت على الحدود، حيث عُقّم الناس ووسائل المواصلات وحتى البضائع). وفي المقابل، برهنت الحمى القلاعية أيضاً على هشاشة الحدود أيضاً.

لم تُمثل الحمى القلاعية تهديداً مباشراً للصحة البشرية، إذ لا يُحدث الفيروس سوى مرض طفيف في الإنسان. وفي المقابل، فإن التخلّص المُفاجئ، والمُكلف، للمواشي يتضمن كلفة إنسانية عالية، إذ يفقد المربون مصدر رزقهم، ويُحرم مئات الملايين من قاطني المدن الكبرى في العالم من مصدر مهم (ورخيص نسبياً) للحوم. وبالنظر إلى قرب المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تلك الأزمات المتتالية في العلاقة بين الإنسان والحيوان، فإن الأبعاد الكاملة لها لم تتوضح بعد. فما الأثر الاجتماعي والإنساني الذي خلّفه إفلاس أعداد كبيرة من مربي الأبقار في بريطانيا؟ وما هو الأثر البعيد للتقلبات المفاجئة في دورات التغذية لسكان المدن في العالم؟

سرعان ما تضاءلت أهمية تلك الأسئلة عندما واجه القرن الـ 21 أول وباء بشري فيه: فيروس سارس (SARS)، المصطلح الذي يختصر عبارة (Severe Acute Respiratory Syndrome)، وترجمتها متزامنة الالتهاب الرئوي الحاد . وقبل استعادته، تجدر الملاحظة أنه بدأ في النطاق الجغرافي الذي انطلقت منه لاحقاً موجة فيروس إنفلونزا الطيور .

انطلق سارس من مقاطعة غواندونغ الصينية، التي تشتهر بتجارتها بأنواع الحيوانات التي تعيش في الغابات المحيطة ببحيرتها الكبيرة. ثبت أن فيروس سارس انطلق من احتكاك إنساني غير مألوف مع أنواع من السنانير (وأنواع حيوانية أخرى تشمل الوطاويط) التي اعتادت العيش تقليدياً، ولحقب سحيقة في الغابات. ومع الانفتاح الاقتصادي في الصين بفعل العولمة، عمد كثير من التجار إلى تكثيف صيد أنواع من الحيوانات باتت مطلوبة في المدن، (التي شرعت ثرواتها في التزايد) وأيضاً لتصديرها إلى الخارج. وتشمل القائمة كثيراً من القطط والكلاب والسناجب والسنانير وغيرها. ولعب الاحتطاب المتزايد للغابات دوره أيضاً. وهيأت تلك الأمور الظروف لكي يقفز فيروس من تلك الحيوانات إلى الإنسان.

وانتشر هلع عالمي، أثّر على حركة السفر والتجارة العالميين. كلف سارس ، قبل احتوائه، 500 بليون دولار. وقضى على حياة 813 شخصاً، أغلبيتهم من ذوي الأصول الصينية. ولا تزال كثير من نواحي ذلك الوباء غامضة راهناً. ولكن الدور الذي لعبه اهتزاز العلاقة بين الإنسان والحيوان (والطبيعة) بات شبه مؤكد.

الطب البيطري والبشري يتقاربان
في العام 2003م، وانطلاقاً من مقاطعة غواندونغ الصينية أيضاً، انفلت فيروس اتش1 ان5 الفتّاك ليُسبّب الموجة الراهنة من إنفلونزا الطيور . تُصاب الطيور بالإنفلونزا كثيراً، لكن الفيروس الراهن يتميز بقدرته على الفتك بالطير. ويعرف العلماء أن فيروس اتش1 ان5 يسبب مرضاً قاتلاً، في حال إصابة الإنسان به. وفي العام 1997م، عبر ذلك الفيروس الحاجز الإنساني-الحيواني، فقتل طفلاً في هونغ كونغ. وأُمكن السيطرة عليه، حينها، بذبح سريع لملايين الدواجن. ولم يمثل ذلك سوى حل مؤقت. وانفلت الفيروس مُجدداً قبل سنتين.

وعبر الحدود بين القارات والدول، إضافة إلى عبوره الحدود المتواهنة باستمرار بين الإنسان والحيوان. وسادت خشية هائلة: ماذا لو حدث تغيير مُفاجئ في التركيب الجيني لفيروس اتش1 ان5 ، فأصبح قادراً على الانتقال مباشرة من إنسان إلى آخر؟ الجواب معروف: ستحدث حينها موجة وباء تقضي على أضعاف ما قتلته موجة الإنفلونزا الإسبانية ، وخصوصاً أن البشر باتوا أكثر تجمعاً في المدن المليونية الكبرى، التي يصعب ضبط مثل تلك الأوبئة فيها! أُدينت الطيور المهاجرة في نقل الفيروس، لكنها لم تكن العنصر الوحيد. ظهر أثر العنصر الاقتصادي بوضوح في القرارات التي اجتاحت العالم بوقف تجارة الطيور على أنواعها. ثمة كميات هائلة من الطيور تتناقل بين الدول لأغراض تتراوح بين استهلاك اللحوم والبيض والريش، واستعمالها في الزينة وفي تربية أسراب أُخرى. وكذلك بدا أن ما يفصل بين الجسمين الإنساني والحيواني بات أكثر ضعفاً، ربما بأثر من الضربات المتوالية. وقتل الفيروس، حتى اليوم، نحو 200 شخص في العالم، من جنسيات مختلفة. وفي الحقل العلمي، أطلق فيروس اتش1 ان5 سلسلة من المؤتمرات العلمية التي تميزت بأنها جمعت بين أطباء البشر والمتخصصين في الطب البيطري.

وتتوالى تلك المؤتمرات، التي تنقلت في الأشهر الأخيرة بين بريطانيا وكندا وهونغ كونغ وغيرها، برعاية مُشتركة من منظمة الصحة العالمية ، الهيئة الدولية التي ترعى الجسم الإنساني، و المنظمة العالمية لصحة الحيوان ، الهيئة الدولية التي تعنى بالجسم الحيواني. وبين سطور إنفلونزا الطيور واحتمال تحوّلها وباءً ضارياً يفتك بالجنس الإنساني، نقرأ أن الجسمين الإنساني والحيواني باتا أكثر تداخلاً مما كانا في تاريخهما كله. ونقرأ أن الطبين البشري والبيطري صارا أشد تقارباً.

نقرأ أيضاً، وبهلع، أن هذا التداخل يحدث في وقت أخلّ فيه البشر بالبيئة، التي تحتضن البشر والحيوانات والنباتات وغيرها، إلى حد يُهدد ظاهرة الحياة على الكوكب الأزرق!

اقرأ عن الأوبئة
الأمراض المشتركة
مرجع صغير ومركز للمختصين والمهتمين عموماً، صدر عن دائرة النشر العلمي في جامعة الملك سعود، وهو من تأليف الدكتور ربيع السيد صالح الحسين.

يعرّف الكتاب الأمراض المشتركة بأنها تلك التي تنتقل بين الحيوانات والإنسان عن طريق الاتصال المباشر أو غير المباشر، أي عبر المخلفات والمنتجات.

ويقسّم المؤلف مجموع هذه الأمراض إلى تقسيمات عديدة، حسب العائل -أي حامل المرض- وطرق انتقالها، وتأثيراتها المختلفة على الإنسان والحيوان. كما يعرض في نهاية الفصل الأول لأهم المصطلحات المستخدمة في الأمراض المشتركة.

وفي الفصول التالية وهي ستة، يتحدث الكاتب عن أهم الأمراض البكتيرية والأمراض المهمة التي تنتقل إلى الإنسان من الحيوانات، وأبرز الأمراض الفطرية والفيروسية، وتلك التي تسببها الريكسيا ، وهي متعضيات مجهرية شبيهة بالبكتيريا، وكذلك أهم الأمراض الفطرية.

ويبحث المؤلف عند تناوله لكل مرض على حدة وبائيته من خلال النظر إلى العامل المعل ومستودعات العدوى وطرق انتقالها. بعد ذلك يبحث في أشكال المرض الإكلينيكية وكيفية تشخيصه، وصولاً إلى طرق الوقاية والتحكم به والسيطرة عليه.

أضف تعليق

التعليقات