لا يرى الكثيرون أن السيارة مجرد وسيلة انتقال، بل هي في رأيهم وسيلة للتعبير عن الشخصية، لأن اختيار السيارة لا يرتبط بالمبلغ المتوافر فحسب، بل بميول الشخص، هل يريد أن يكون مختلفاً أو متميزاً عمن حوله؟ هل هو إنسان مستعجل دوماً، يريد سيارة قادرة على تلبية طموحاته في أن يسبق غيره؟ هل هو شخص يحب التقاليد العريقة، ويختار سيارة تعيده إلى (أيام زمان)؟ هل هو إنسان يضع الأولوية لحماية البيئة، ويبحث عن سيارة تلبي ذلك المطلب؟
أسامة أمين يقرأ هذه الظاهرة ويشرح انعكاس الشخصية على اختيار المركبة وطريقة قيادتها.
عموماً، عندما تشتري سيارة جديدة، وتختار بنفسك لون الطلاء الخارجي، ونوع قماش المقاعد، والكماليات التي تهمك، والإطارات التي تعجبك، تشعر أنك تشارك في صنعها، حتى إذا ما ذهبت إلى المصنع لاستلامها، وأخذك مندوب الشركة في رحلة داخل المصنع، لتشاهد كيفية تركيب أجزاء السيارة، وتنظر بذهول إلى الإنسان الآلي الذي يصنع الكثير من أجزائها أمام عينيك، ويضيف لكل سيارة مواصفات مختلفة، حسب المعلومات المخزنة في البرنامج، تبعاً لطلبات العميل، عند هذه اللحظة تشعر بالفرق الكبير، بين سيارة جاهزة تحصل عليها من معرض السيارات، وبين (طفلك) الذي يحمل الكثير من صفاتك وجيناتك.
الإنسان والسيارة قديماً
عندما اخترع كارل بنز أول سيارة قبل أكثر من 125 عاماً، كان حلمه هو تحرير الإنسان من القضبان الحديدية التي يسير عليها القطار، وتوفير إمكانية لتسهيل انتقال الإنسان بصورة فردية، للمكان الذي يريده، وكانت البداية متواضعة، لأن سرعة السيارة الأولى كانت تبلغ 18 كيلو متراً في الساعة، وكانت تسير على ثلاث عجلات فقط، وعندما شاهد الناس السيارة في مدينة مانهيام، أطلقوا عليها اسم (عربة بدون حصان)، وكانوا يقصدون السخرية منها.
كان الرأي السائد آنذاك أن السفر بسرعة عالية يتسبب في فقدان العقل، ويؤدي إلى الاختناق، ولعل النصف الأول من هذا القول صحيح، إذا شاهدنا من يمارس (التفحيط)، أو بعض من يمارس القيادة على الطرق السريعة في ألمانيا، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح بالقيادة في كثير من الطرق بدون حد أقصى للسرعة، ولذلك فإن بعض السيارات تسير بسرعة تفوق 200 كم في الساعة وأكثر، دون أن تتعرَّض لأي مخالفة أو عقوبة.
وقد أسهم في انتشار هذه الآراء السلبية عن السيارات، أن بعض أصحابها لم يكونوا أشخاصاً سذجاً، بل كان منهم الطبيب الخاص لجورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان يؤكد أن أي رحلة بسيارة تتحرَّك بسرعة تفوق 25 كيلو متراً في الساعة، تؤدي إلى مخاطر طبية لا يستهان بها.
وتوقَّع المتشائمون آنذاك أن يؤدي اختراع السيارة إلى انتشار البطالة بين أصحاب العربات التي تجرها الجياد، وصناع الجلود التي تستخدم في عمل السروج، وصُنَّاع عربات (الحنطور)، كما حذر المهندسون المعماريون من أن كثرة هذه السيارات، سيؤثر سلباً على المباني القائمة على جانبي الطريق، بسبب الاهتزاز الناجم عن محركات السيارات، والفلاحون من جانبهم أعربوا عن خوفهم على حياة الدجاج والأوز والأبقار والخنازير، التي ستلقى حتفها لا محالة على الطرق التي تسرع فيها السيارات، (علما بأننا نتحدث عن سرعة هادرة تبلغ 18 كيلو متراً في الساعة، وهي سرعة تتراوح بين السلحفاة والبطة –ملحوظة من الكاتب بدون مصادر علمية موثوق فيها-)، وليس من المستبعد أن يكون علماء الاجتماع قد نبهوا آنذاك إلى الانعكاسات الكارثية على أنماط معيشة المجتمع، لأن الأطفال لن يستطيعوا أن يلعبوا في الشوارع، وسيضطرون للبقاء داخل المنازل، ويلعبون الكرة هناك، ولنا أن نتخيل الأوضاع عندما يتحوَّل البيت إلى شارع للعب الأطفال.
الطريف في الأمر أن القيصر الألماني فيلهلم الثاني نفسه، لم يخف شكوكه تجاه هذا الاختراع الجديد، وعبّر عن رأيه بوضوح قائلاً: «إنني أرى أن السيارة ما هي إلا ظاهرة مؤقتة، لذلك فإنني أراهن على الحصان»، والعجيب أن نفس هذه الشكوك كانت تتردد من قبل، عندما بدأ شق الطرق للسكك الحديدية في جميع أنحاء العالم، حتى أن أحد المحافظين الأمريكيين أرسل للرئيس أندرو جاكسون في عام 1829م، خطاباً رسمياً يشكو فيه من عواقب القطارات، مؤكدا أن السرعة البالغة 15 ميلاً في الساعة، أي ما يعادل 24 كم/س، تشكِّل خطراً كبيراً على الروح والبدن، واحتمال أن تؤدي إلى احتراق المزارع.
جدير بالذكر أن قطارات ألمانيا تسير بسرعة تفوق 350 كم/س، وأجرت الصين في العام الماضي تجارب ناجحة بقطار وصلت سرعته إلى 500 كم/س.
كراهية للسيارات وركابها
ولم يتوقَّف الأمر عند الانتقادات والإشاعات والسخرية، بل كانت السيارات الأولى في التاريخ تتعرَّض لهجمات من الأطفال والشباب، بإلقاء الحجارة عليها وعلى من فيها، وكانوا يضعون المسامير وقطع الزجاج المكسور في عرض الطريق، وكان أصحاب عربات الخيل، يتعمدون إغلاق الطريق عليهم، ولا يسمحون لهم بتجاوزهم، ليثبتوا فشل السيارات، ولم يكن دافعهم في ذلك الخوف على مصدر رزقهم فحسب، بل كانوا يشعرون بالغيرة والحقد على هؤلاء الأغنياء، الذين يقدرون على دفع الأسعار الباهظة لهذا الاختراع الجديد، وهو شعور لم يكن عند البسطاء وحدهم، فقد كتب المؤرخ أوفه فراونهولتس عن السيارات في كتاب له، نشرت صحيفة مقتطفات منه في عام 1902م، إن السيارات هي عبارة عن «تسلية للمليونيرات، لكن لا فائدة حقيقية ترجى منها».
ولقد أثارت حادثة اغتيال شنيعة في يوم 2 مارس 1913م الرأي العام، حين علَّق مجهولون حبلان معدنيان سميكان في طريق سيارة تسير بسرعة 40 كم/س، وكان الوالدان في مقدمة السيارة، ففقدا رأسيهما، ونجت الابنتان الجالستان في الخلف، اللتان كانتا تبلغان 17 و19 عاماً، من الموت، ولم يمكن العثور على مرتكبي الجريمة، ولم تستبعد السلطات أن يكون الدافع هو كراهية السيارات، لأن الحادثة وقعت في حي كثير من سكانه يعملون في السكك الحديدية، وكان الشعور سائداً بينهم، أن انتشار السيارات، سيؤدي إلى تراجع أهمية القطارات، واحتمال فقد وظائفهم، إذا قل عدد المسافرين بالسكك الحديدية.
وكانت الصحف اليومية تحرص على نشر حوادث السيارات، وتقود حملة على «سائقي السيارات المتهورين، الذين لا يراعون المشاة في الطريق»، وفي المقابل كانت مجلات السيارات، مصرّة على اتهام المشاة بأنهم هم المتهورون والمستهترون.
وفي أول معجم يكتب عن السيارات في عام 1898م، ورد أن «السيارات تسير في الطريق الذي يحدده السائق من خلال توجيه السيارة بعجلة القيادة، على عكس سيارة الخيل، التي تتميز بأن هناك من يصحح للسائق الطريق، إذا أخطأ، لأن الجياد لديها حاسة دقيقة، ولذلك تشارك السائق في تحديد الطريق الصحيح.»
وشارك المثقفون في حملات التشنيع على السيارات، ولذلك صرح مثلاً ميشائيل فرايهر فون بيدول في العاصمة النمساوية فيينا في عام 1912م، بأن هذه السيارات إنما هي مصدر لإزعاج الأذن بهجمات ضوضاء لم يسبق لها مثيل، وزعم أن «سائق السيارة يستخدم في المتوسط آلة التنبيه بمعدل 50 مرة كل 10 دقائق»، – ويبدو أن فيينا سبقت مصر ببناء كوبري 6 أكتوبر الشهير، في مطلع القرن الماضي، الذي يشهد كل يوم مهرجانات موسيقية بمقطوعات فريدة من آلات التنبيه-.
ورغم أن الإحصاءات تشير إلى أن مدينة نيويورك الأمريكية كانت تتخلص يومياً من 1100 طن من روث الأحصنة، و270000 لتر من بولها، فإن الكثيرين كانوا يشكون من العوادم، ومن الغبار الذي تثيره السيارات في الشوارع، الأمر الذي كان يضطر ركاب السيارة لتغطية رؤوسهم، ووضع نظارات على عيونهم، وفشلت محاولات سائقي السيارات في التخفيف من حدة النقد، برش الشوارع بالمياه حتى لا ينتشر الغبار، لكن الطريف ما قامت به الدوقة هينجل موللر في الولايات المتحدة، حين استخدمت معطراً، ليخرج من ماسورة عادم السيارة، ويغطي على رائحة العادم.
وكانت بعض الكانتونات السويسرية قد قررت منع السيارات في شوارعها، وفي أماكن أخرى من أوروبا انتشرت مطالبات بأن تقوم المصانع بإنتاج محركات ضعيفة للسيارات، بحيث لا تستطيع أن تسير بسرعة تزيد على سيارات الجياد، وهو اقتراح لم يجد آذاناً صاغية.
الإنسان والسيارة حديثاً
في ألمانيا بلاد المرسيدس والبورشه والفولكسفاجن والأودي، تحتل السيارة مكانة عالية عند الكثيرين، فلا تستعجب إذا صرخ عليك شخص، لأنك استندت بكفك على سيارته، فهو يخشى أن تتسبب أظافرك في خدش أو على الأصح «جرح» طلاء السيارة. والألماني المعروف بالحرص في التعامل مع المال، يدفع عن طيب خاطر كل مرة 15 يورو لتنظيف السيارة من الخارج، وإذا أراد تنظيف سيارته من الداخل دفع فوقها حوالي 20 يورو، وهناك قول شائع بأن الألماني يهتم بغسيل سيارته أكثر من الاستحمام، وأنه يغضب إذا لمست سيارته أكثر من غضبه إذا لمست زوجته، وهي أقوال فيها الكثير من المبالغة، لكنها توضح مكانة السيارة عنده.
وقد جمعت مجلة (دير شبيجل) آراء بعض قرائها عن قيادة السيارة، فقال أحدهم إن كل سائقي سيارات الجولف، التي تنتجها شركة فولكس واجن، يحبون السرعة، ويضايقون من يسير أمامهم، بالالتصاق به من الخلف، حتى يفسح الطريق، وهم عدوانيون، ويضعون رؤوسهم في وسط السيارة، تحت المرآة الداخلية بالضبط، ويحرصون على لبس نظارة شمسية حتى في الصباح الباكر وفي ظلام الليل، ويمسكون عجلة القيادة من أعلى نقطة فيها باليد اليسرى، وغالباً هم من حملة رخصة القيادة حديثاً، وينظرون بوجه جاد للغاية، كما لو كانوا يجلسون على إبر.
ويقول آخر عندما تشاهد سيارة تسير خلفك مباشرة، وتطالبك بأن تفسح لها الطريق فوراً، فإنها في الغالب الأعم من نوع (بي إم دبليو)، ويضيف ثالث إنه كلما كانت السيارة أكبر أي من نوع مرسيدس أو بي إم دبليو أو أودي، كلما قلَّ استخدام الإشارة الجانبية، التي تدل على مغادرة الطريق الرئيس، والدخول إلى اليمين أو إلى اليسار، لأن سائقي هذه السيارات لا يجدون حاجة لتنبيه الآخرين إلى تغيير اتجاه السير، ويقترح القارئ أن تجد شركات إنتاج هذه السيارات، حلاً لهذه المشكلة بحيث تعمل هذه الإشارات تلقائياً، كما هو الحال مع المجسات التي تجعل مسَّاحات المطر تتحرك تلقائياً فور نزول المطر، أو مجسات الإضاءة التي تجعل أنوار السيارة تعمل ذاتياً، فور حلول الظلام أو عند نزول السيارة إلى نفق قليل الإضاءة.
هناك أحكام مسبقة كثيرة على أسلوب النساء في القيادة، بأنهن لا يستطعن ركن السيارة بسرعة، بل يحتجن إلى وقت طويل ومحاولات كثيرة، حتى يقفن في المكان الصحيح، داخل العلامات المرسومة، وفي أغلب الأحيان يكتشفن بعد ذلك أنهن لم يفكرن في كيفية الخروج من السيارة، فيكون باب السيارة غير قابل للفتح، بسبب القرب الشديد من السيارة المجاورة، وهو كلام ليس عليه دليل.
الحقيقة التي يلمسها الرجال أن غالبية النساء أشد حرصاً في القيادة، فهن لا يتجاوزن السيارة التي أمامهن، حتى ولو كانت تسير بسرعة منخفضة للغاية، وحتى لو استمر الأمر لساعات طوال، فإنهن لا يفقدن أعصابهن، بشرط ألا يكون من يقود السيارة التي أمامهن، رجلاً.
لكن المرأة الوديعة الهادئة الحريصة في القيادة، لا تقبل أن يقطع رجل عليها الطريق الرئيس الذي تسير فيه، فتزيد سرعتها حتى لا يفعل ذلك، ولا تعطيه المجال أن يتجاوزها، مادامت تسير بالسرعة المسموح بها، والمرأة تستخدم الفرامل أكثر من أي دواسة أخرى، وتتوقف إذا أراد طفل أو عجوز أو حتى رجل أن يعبر الطريق، ولا تتضجر مهما استغرق ذلك من وقت.
طبعاً كل تلك الأقوال أحكام مسبقة، ولذلك فليس هناك حاجة لأن يثبت القائل صحتها، ولا يتوقف الناس عن تكرارها حتى لو أثبتت إحصاءات المرور عكس ذلك، وهو الأمر الذي نراه منذ ظهور (ساهر) في الوجود، فرغم إثبات الإحصاءات أن الحوادث المرورية تراجعت، وأن له آثاراً إيجابية على سلوك السائقين، فإن غالبية الشباب تُعده عقدتها في الحياة، لأنه يتسبب لهم في غرامات باهظة التكاليف، رغم علمهم أنهم هم من يخالف السرعة المسموح بها، وأن الحل بأيديهم، وهو أن يلتزموا بالقوانين، فيحافظون على أموالهم، أو أن ينتظروا أن يقرر مجلس الشورى إلغاء ساهر، وهو ما لم يحدث طبعاً، لكن ألم نقل إن الأمر هنا عبارة عن إشاعات وأحكام مسبقة بدون حاجة لإثبات.