من الطاقة تولد الطاقات.. وهذا هو بالضبط ما عنيت به أرامكو السعودية في نشاطاتها ذات الاتصال المباشر وغير المباشر بالمجتمع. مسابقة رسوم الأطفال التي تنظمها الشركة، والتي بلغت هذا العام 25 سنة من عمرها، أفرزت الكثير من المواهب الفنية التشكيلية، وما زالت تسير بنفس القدر من الاهتمام والحماس. الزميل عبود عطية ينقل في هذا الموضوع حكاية كنوز الصغار الفنية القابعة تحت مظلة أرامكو السعودية.
لا نعرف مدى التفاؤل الذي تطلّع به المعنيون إلى مسابقة رسوم الأطفال عندما أطلقتها أرامكو السعودية قبل ربع قرن. ولا نعرف ما الذي دار في أذهانهم آنذاك من توقعات حول النتائج المحتملة لهذه المسابقة واحتمالات استمراريتها وإلى متى؟ أما اليوم فصرنا نعرف الحصيلة المباشرة لجهود آلاف الأطفال على مدى خمس وعشرين سنة والمتمثلة في عشرات الآلاف من اللوحات الجميلة المحفوظة في الشركة.
إنها ليست مسابقة لرسوم الأطفال فحسب، بل محطة مهمة لا بدّ من التوقف أمامها في مسيرة الفن التشكيلي في المملكة، كما أنها أيضاً “حكاية كنز” يتساءل من يكتشفه عن طريقة التصرف فيه.
فأول ما يستوقف المرء في هذه المسابقة هو استمراريتها. إذ أن النشاطات الثقافية العربية عموماً تعاني من قصر أعمارها. وفي الفن التشكيلي تصبح مشاريع النشاطات الدورية في مهب الرياح الموسمية. فتقام المعارض والمسابقات هنا وهناك ترافقها الوعود بأنها ستكون سنوية أو كل سنتين.. ثم، وفجأة بعد بضع محاولات، ينتهي كل شيء ببيان اعتذار حيناً، ومن دون بيان في معظم الأحيان. وعندما تتعلق هذه النشاطات الفنية بالأطفال يصل الأمر ببعضها إلى حدود عدم المبالاة، طالما أن هؤلاء لا صوت لهم. وهذا ما يجعل من استمرارية مسابقة أرامكو السعودية لرسوم الأطفال على مدى ربع قرن، وسعيها في السنوات الأخيرة إلى تجديد شبابها أمراً نادراً، ليس فقط على صعيد النشاطات الخاصة بالأطفال في المملكة، بل أيضاً ضمن خريطة النشاطات الفنية في الوطن العربي عموماً.
فكيف قامت هذه المسابقة؟ ولماذا؟ وما الذي أمّن لها هذا العمر المديد؟ وما هي حصيلتها؟
البداية والنضوج
كانت أرامكو السعودية أول شركة في المملكة تقيم مثل هذا النشاط الخاص بالأطفال، وتتحمل تكلفته ومتابعته والسهر عليه. وأهدافه ثلاثة متداخلة ببعضها كما يقول بعض المسؤولين الذين أشرفوا على المسابقة:
أولاً:
تحقيق إضافة قيّمة على الدور التربوي الذي تقوم به الشركة، وما بناء المدارس مثلاً إلا حلقة من حلقاته.
ثانياً:
تأصيل اتصال الشركة بالمجتمع من خلال شريحة الأطفال وأسرهم.
ثالثاً:
تشجيع المواهب الفنية عند الأطفال في المملكة سواء أكانوا سعوديين أم مقيمين.
وفي حين لا يرى الكثيرون في ممارسة الأطفال للرسم أكثر من ملء وقت الفراغ بنشاط “غير ضار”.. رفع المسؤولون عن هذه المسابقة سقف الجدية في التعامل معها حتى أقصى حد ممكن.
الفنانة التشكيلية المعروفة منيرة الموصلي التي رافقت هذه المسابقة منذ بداياتها، وكانت ضمن لجنة الفرز التحكيمية لمدة خمس سنوات، ومن ثم ترأست هذه اللجنة لمدة ست سنوات تروي الكثير مما يؤكد هذه الجدية في التعامل مع المسابقة. فتقول إن الأسس التي قامت عليها هذه المسابقة هي نفسها التي تقوم عليها المسابقات العالمية مثل تلك التي تنظمها اليونيسكو مثلاً. وفي كل عام تتألف لجنة تحكيمية من الفنانين، يجب أن يكون عدد أعضائها مفرداً لاعتماد التصويت في حال حصول خلاف (كان هذا العدد في السنوات الأولى ثلاثة ثم رفع إلى خمسة) ويرأس اللجنة شخص تكمن مهمته في إطلاع الأعضاء على الشروط الواجب اتباعها في الفرز ويراقب سير العمل من دون تدخل في التحكيم.
ولتلافي تأثر أعضاء لجنة التحكيم بعلاقاتهم الشخصية، تتم تغطية أسماء الأطفال أصحاب الرسوم. كما يتم استبعاد كل رسم يبدو عليه أنه ليس فعلاً من رسم الأطفال بل من ذويهم أو أساتذتهم. وتوضح موصلي أنه في إحدى السنوات أُلغيت عملية الفرز برمتها، وأعيدت من أولها مرة ثانية لأن بعض الرسوم لم يكن فعلاً من صنع الأطفال.
والواقع أن الجدية في التعامل مع هذه المسابقة أشبه بكرة يتقاذفها المشرفون على المسابقة من جهة والمدارس وذوي الأطفال من جهة أخرى فيرتفع مستوى أداء الطرفين لترتفع بذلك قيمة المسابقة ككل.
وتفيد مراجع المسابقة أن المدارس صارت تنتظر الإعلان عنها وتتهيأ لها سلفاً. وتتصل بالشركة للاستفسار عن سبب التأخير عندما يحصل. وبعضها يرسل رسوم الأطفال المشاركين موضبة بعناية في صناديق خشبية وكأنها لوحات لكبار الفنانين. كما أن الكثير من الأطفال الذين لم يحالفهم الحظ في سنة معينة، يعاودون الاشتراك في المسابقة في السنة التالية، وما بعدها.. فقد صار هناك اعتراف واضح بأهمية هذه المسابقة، وسعي حثيث إلى الفوز بها.
وهكذا، بعدما تراوح عدد الأطفال المشاركين في المسابقة خلال سنواتها الأولى بين الألف والألف وخمسمائة، راح هذا العدد يرتفع بسرعة حتى وصل في بعض السنوات إلى ما يزيد على السبعة آلاف..!! وفي المقابل، بعد ما كان عدد الجوائز خمساً وثلاثين جائزة في السنوات الأولى، راح يرتفع بدوره حتى وصل حالياً إلى مائتين وخمسين جائزة إضافة إلى خمسين جائزة خاصة بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، بعدما كبرت مشاركتهم في الآونة الأخيرة، وبعد تَنَبُّه لجنة التحكيم إلى وجوب أخذ أوضاعهم الخاصة بعين الاعتبار.
إلى ذلك، لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن الأعمال المشاركة في المسابقة تقسّم إلى ثلاث فئات عمرية هي: من 5 إلى 8 سنوات، من 9 إلى 11 سنة، ومن 12 إلى 14 سنة، ويراعي أيضاً التوزّع ضمن كل شريحة عمرية إلى المناطق الخمس: الشرقية، الغربية، الوسطى، الجنوبية، الشمالية، بحيث تتوزع الجوائز على كافة أرجاء المملكة. والغاية من ذلك الحث على أكبر قدر من المشاركة في المناطق البعيدة عن موقع الشركة فلا تكون المسافات عامل فتور أو إحباط.
شهادة شاهد
لا يمكن لمسابقة أو أي نشاط تشجيعي آخر أن يدفع بالأطفال إلى احتراف الرسم لاحقاً، فللأمر شروطه الكثيرة التي يعرفها الجميع، وأهمها امتلاك الموهبة والشخصية الضرورية لذلك. ولكن الدور الذي لعبته المسابقة في التأثير الإيجابي على الموهوبين منهم يبدو واضحاً في حديث الفنانة التشكيلية حميدة سنان التي تقول: “بفضل تشجيع والدتي ومدرستي بدأت رحلتي مع اللون والريشة عندما أرسلت لوحتين للاشتراك في مسابقة أرامكو السعودية لرسوم الأطفال في سنتها الأولى أي سنة 1399هـ. فحصلت على الجائزة. وكان للأمر وقعاً كبيراً على الطفلة التي كنتها آنذاك، وهذا ما دفعني إلى المتابعة والانطلاق بثقة إلى ممارسة الرسم والحضور كفنانة مشاركة في النشاطات المحلية. ثم تطورت الأمور إلى مستوى المعارض الشخصية، ثم المعارض الخليجية والعربية عموماً.. كما كان للجائزة التي حصلت عليها آنذاك أثر واضح على علاقتي بأهلي وأقاربي ومعارفي، إذ بدا عليهم جميعاً الاعتزاز بموهبتي وأدى ذلك إلى مزيد من تشجيعي للمضي قدماً”.
وتضيف الفنانة سنان التي حازت لاحقاً على عدة جوائز وطنية وعربية: “على الرغم من كثرة الجوائز التي أعتز بها، تبقى جائزة مسابقة الأطفال تلك مفخرتي لأنها أول الفرح”. واللافت أنه بمرور السنوات، ونضوج الموهبة واستمرارية المسابقة، تحولت حميدة سنان من طفلة فائزة إلى واحدة من أعضاء لجنة التحكيم.
رسوم فائزة وأخرى.. فائزة
تصبح الرسوم الفائزة في المسابقة ملكاً للشركة، أو قل من أغلى مقتنياتها، بدليل تعاملها مع هذه الرسوم وكأنها تحف فنية حقيقية. يراها المرء تزيّن أروقة بعض أهم المباني. وبعضها تحوّل إلى بطاقات معايدة اعتمدها كبار المسؤولين في الشركة. كما أن صور هذه الرسوم معروضة على شبكة “الإنترانت” لمن يشاء من الموظفين استخدامها كبطاقة معايدة أو ما شابه.. ولا تخرج هذه اللوحات من مقرها الدائم إلا للمشاركة المؤقتة في معارض لرسوم الأطفال هنا أو هناك وبعض هذه المعارض عالمي الطابع..
ليس في الأمر ما يدعو إلى الاستغراب، كما أنه ليس مستغرباً أن تحتفظ الشركة، وبالإصرار والعناية نفسيهما تقريباً، بالرسوم غير الفائزة.
الفارق الوحيد بين الفئتين هو أن بعض الأعمال غير الفائزة يمكنه أن يخرج من المستودع إلى جهة أخرى شرط أن يكون هناك تأكيد على أنه سيعامل باحترام. ولهذا خرجت بعض الرسوم فعلاً من هذه الفئة لتزين جدران بعض المؤسسات والمباني الحكومية أو العامة ومن ضمنها سفارتي المملكة في لندن وواشنطن وأجنحة الأطفال في بعض المستشفيات.
ولكن، ألا يعني هذا أن من بين الرسوم غير الفائزة ما يمكن اعتباره في حكم الفائز؟
توافق الفنانة موصلي على الملاحظة القائلة إن هناك رسوماً جميلة جداً لم تفز بجوائز.. وربما كان بعضها لا يقلّ جمالاً وأهمية عن الأعمال الفائزة. وتفسر الأمر قائلة: “إن محدودية عدد الجوائز (حتى ولو كان مرتفعاً كرقم مطلق) مقارنة بأعداد الرسوم المشتركة في المسابقة يحتم حصر الفائزين بعدد معين. كما أن أعضاء لجنة التحكيم قد يميلون إلى موضوع أو أسلوب معين أكثر من غيره.. ولكن هذا لا يعني أبداً أن هناك ظلماً متعمداً أو استهتاراً في اختيار الأعمال الفائزة”. وتضيف: “أعتقد أن الجوائز في الماضي كانت منصفة أكثر من اليوم، لأن عدد الأعمال المشاركة كان أقل، والفروقات ما بين الرسوم المختلفة كانت أكبر وأوضح. أما مع ازدياد عدد المشاركين، وارتفاع المستوى عموماً فقد أصبحت مهمة التحكيم أصعب من السابق”.
حكاية كنز
عندما طلبنا من المسؤول عن أحد مستودعات الشركة أن يدلنا على موضع الرسوم القديمة المشاركة في المسابقة، توجه بنا إلى مستودع كبير رُصّت فيه عشرات وعشرات الحقائب البلاستيكية الكبيرة. وعلى كل حقيبة ملصق يُشير إلى تاريخ المسابقة وعبارة “فائزة” أو “غير فائزة”.. الكم وحده مثير. والعد بدقة شبه مستحيل. علينا أن نقدّر الكمية تقديراً. فإذا كان متوسط عدد الأطفال المشاركين في كل سنة حوالي الأربعة آلاف.. يصبح مجموع المتراكم أمامنا من رسوم – وهو حصيلة 25 عاماً – حوالي المئة ألف رسمة!!
نفتح بعض هذه الحقائب عشوائياً. نتفحص بعض الرسوم بسرعة، فتزداد الدهشة.. لم يعد يهمنا إن كانت هذه الرسوم فائزة أم لا.. فالكثير منها يستحق فعلاً أن يوضع في إطار ليزين جداراً مضاءً ويمتّع العين..
نختار عينة عشوائية من مختلف السنوات، فائزة أم غير فائزة لا فرق ونقلب المئات منها بشيء من التأني والتأمل..
ماذا يرسم الأطفال؟
قبل الدخول في تفاصيل العيِّنة التي أمامنا لا بدّ من الإشارة العامة إلى ما هية فن الأطفال وخصوصيته.
فن الأطفال هو فن مرحلي يبدأ ببداية إدراك الطفل للعالم المحيط به، وينتهي ببداية نضوج عقله. أي ما بين سن الخامسة والرابعة عشرة تقريباً. في هذه الفترة يرسم الطفل المواضيع المختلفة بما يعرفه عنها، لا كما تبدو للعين أو لآلة التصوير. فهو عندما يرسم البحر مثلاً نراه يرسم الأسماك التي في أعماقه أيضاً، ولا يكتفي برسم صفحة الماء.. وفن الأطفال يتحلى بجرأة لا حدّ لها، وبصدق في التعبير؛ طالما أنه لا يشعر بوجوب مراعاة أي مؤثر أو عامل ضغط خارجي.. وبالتالي فإنه فائق الأهمية في الكشف عن إدراك الطفل لعالمه وما يحبه فيه.
حتى سنوات قليلة خلت، كانت المسابقة من دون موضوع محدد، فالأطفال كانوا أحراراً في رسم ما يشاءون مما يعتقدونه يستحق الرسم. وللوهلة الأولى، يبدو أنه لا يمكن حصر المواضيع التي رسمها هؤلاء. فهي تشمل كل شيء يتشكّل منه محيطهم الذي يعرفونه أو يرونه أو يحبونه أو حتى سمعوا عنه وترك في نفوسهم انطباعاً قوياً. ولكن بتقليب المئات والمئات من هذه الرسوم يبدو واضحاً أن بعض المواضيع يطغى على غيره، تارة في فترة معينة، وتارة على امتداد عدة سنوات..
هناك تفسير صحيح لهذا التشابه في المواضيع يقول أن بعض أساتذة الرسم في المدارس كانوا يوحدّون الموضوع لتلاميذهم فيدعونهم إلى رسم كذا أو كذا والتركيز عليه؛ كي يتمكنوا هم من المقارنة والاختيار الأولي. ولكن هذا التفسير يبقى جزئياً. إذ أن واحدة من أكثر المسابقات التي حملت بشكل عفوي شبه توحيد للموضوع كانت تلك العائدة إلى سنة 1991م، إذ اصطبغت وللأسف الشديد، بطغيان موضوع الحرب والعنف والحزن بسبب حرب الخليج الثانية التي دارت رحاها آنذاك. ومثل هذا الموضوع هو حتماً اختيار غير مدرسي، بل من اختيار الأطفال أنفسهم الذين عرفوا ما هو “الأهم” وما يجب أن يرسموه آنذاك، وعلى الأرجح ليقولوا ما عندهم من خلال الرسم الذي جاء عموماً غاضباً، حزيناً، ومباشراً جداً.
هذه الومضة المحزنة هي لحسن الحظ الوحيدة من نوعها في تاريخ المسابقة. ولكنها تؤكد وجود وعي مشترك عند الأطفال في المملكة، وتؤكد صدقيته في اختيار الموضوع وقيمة هذا الموضوع بالنسبة إليه، وما يمكن أن يكشف عنه.
رسم الأطفال أنفسهم، ورسموا أيضاً ذويهم، ومحيطهم المباشر، والمدن والحدائق، والحياة الاجتماعية، والبيئة والتراث.. ومهما كان المستوى الجمالي للرسم فإن التمعن فيه يسمح لخيال المشاهد أن يلتحم بخيال الطفل ويدفعه إلى التكهن في ما كان يدور في ذهن هذا الأخير عندما أمسك بأقلام التلوين وراح يرسم هذا الشيء المهم في حياته.
المؤرخون الصغار
قد يكون الشيء المهم عند هذا غيره عند ذاك. ولكن تحالف الصدق في التعبير والمجال الرحب الذي يفسحه تكرار المسابقة سنوياً أدى إلى تراكم مجموعة عملاقة من الأعمال الفنية التي سجلت ما تتشكل منه الحياة الاجتماعية في المملكة خلال ربع قرن، بما فيها من قيم وتقاليد ومعالم مادية ملموسة ومتغيرات ومنجزات نهضوية.
فقد رسم الأطفال تراثهم الثقافي والروحي، من خلال ما يرونه منه. ويتراوح ما بين المساجد القديمة في القرى، والمبخرة التي تزيّن منازلهم، مروراً بالحياة في البادية وخيامها.. عبّروا بصدق عن هويتهم الروحية فرسموا المصلّين في المساجد، وأصرّ الكثيرون منهم على كتابة اسم الجلالة حتى في لوحات من ذوات المواضيع غير الدينية. رسموا الكثير من ملاعب كرة القدم التي يحبونها. كما رسموا الاحتفالات الاجتماعية، والمدارس، وباقات الورد ومناظر البيئة الطبيعية، وخاصة البحرية منها والتي تجذب خيالهم أكثر من غيرها..
ولأن الأمور من حولهم في عالم الكبار كانت تتغير وتتطور وتصل هذه المتغيرات إلى مسامعهم نراهم يسجلون هذه المتغيرات بالألوان.
توسعة الحرمين الشريفين، بناء جسر البحرين، المصانع، ناطحات السحاب في المدن.. أصبحت كلها مواضيع رسوم.
معظم هذه المواضيع رسم من قبل أطفال شاهدوا الموضوع بالعين المجردة. وهذا أمر يمكن للناقد أن يتأكد منه أمام كل رسم على حدة. ولكن هناك رسوماً كثيرة أنجزها الأطفال بناءً على السمع وللأهمية فقط، مثل الرحلة الفضائية التي قام بها الأمير سلطان بن سلمان إلى الفضاء. وصولاً إلى القضايا القومية كقضية فلسطين وانتفاضة أهلها، فنرى المسجد الأقصى موضوعاً في العشرات منها.
ولعل أكبر مجموعتين تقدمان “جردة” شبه شاملة لتاريخ المملكة المعاصر كما “يرسمه” الصغار هما المجموعتان اللتان رسمتا لمناسبتي ذكرى مرور مئة سنة على تأسيس المملكة، وذكرى مرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مقاليد الحكم، والمجموعة الثانية كانت قد صدرت في كتاب أنيق ضمّ مجموعة الرسوم الفائزة، والتي تكشف مختلف الزوايا التي يتطلع منها الأطفال إلى بلدهم، ولكنها تشكل في النهاية سجلاً واحداً لموضوع واحد.
وماذا بعد؟
التحديات الجديدة
على مدى ربع قرن، سارت أمور المسابقة على ما يرام. ولكن مسيرة أي نشاط ثقافي لربع قرن تحمل في طياتها مخاطر الترهّل وفقدان البريق. القيّمون على المسابقة يبدون واعين إلى هذه المسألة. فظهرت في السنوات الأخيرة بعض محاولات تطوير معطيات المسابقة ونظامها.
فقد انفتحت المسابقة في سنتها الخامسة والعشرين على الرسم الإلكتروني المنفذ على شاشة الكومبيوتر. الأمر الذي سيأتي لاحقاً بأعداد متزايدة من رسوم مختلفة، ويفتح المجال أمام الأطفال لاستخدام أدوات تعبير جديدة.
كما أن الذكرى المئوية لتأسيس المملكة كانت المناسبة الأولى التي تحدد فيها موضوع المسابقة. ومنذ ذلك الحين اعتمد القيّمون على المسابقة مواضيع توعوية مثل ترشيد استهلاك المياه والطاقة، والعشرينية، أما شعار المسابقة الخامسة والعشرين فقد كان “إملأوا مملكتنا بالألوان”، ولكن ماذا عن مستقبل المسابقة؟
في شهر يوليو من هذا العام اجتمع أعضاء لجنة التحكيم في ندوة أعقبت انتهاء أعمالهم لإبداء مجموعة ملاحظات تتعلق ببعض جوانب المسابقة وآفاق تطويرها. فقد عبّر بعض أعضاء اللجنة عن اعتراضهم على فكرة تحديد موضوع للمسابقة بالقول إن الغاية منها هي تنمية الروح الإبداعية عند الطفل، وهذا لا يتم إلا بترك حرية الاختيار أمامه ليرسم ما يشاء وكيفما يشاء. وإذا كان من الجيد أن تكون المناسبات الوطنية الكبرى موضوعات لمسابقات في فن الرسم، فإن ذلك يجب أن يتم من خلال مسابقة مستقلة عن المسابقة السنوية.
إلى ذلك نبّه بعض أعضاء لجنة التحكيم إلى أن الموضوع المحدد للمسابقة يجب أن يكون واضحاً ولا يترك مجالاً للتفسيرات المختلفة. وضرب بعضهم مثلاً بشعار المسابقة الأخيرة “إملأوا مملكتنا بالألوان” قائلاً إن بعض الأساتذة في المدارس فهمه على أنه رسم لخريطة المملكة وتلوينها..!!
أما المدافعون عن تحديد الموضوع فيقولون إن هناك مجالاً رحباً أمام الأطفال للتعبير عن الموضوع الواحد. كما أن الغاية من المسابقة تنمية الوعي عند الطفل. وتحديد الموضوع يدفعه إلى التفكير والبحث المفيد والمركز في مجال محدد.
ومن النقاط التي أثيرت في الندوة أيضاً عدم التكافؤ في تجاوب المدارس مع بعضها البعض. فبعض المدارس يرسل عشرات الرسوم، وبعضها يغيب عن المسابقة غياباً تاماً. كما لفت بعضهم إلى تدخل الأساتذة في رسوم الأطفال والذي يبدو أنه وصل إلى مستويات تدق جرس الإنذار على الرغم من الاستبعاد الصارم لكل عمل يظهر عليه تدخل الأساتذة أو ذوي الأطفال.
ومن الاقتراحات أيضاً ما يتعلق بنوعية الجوائز، التي تكون أحياناً موفقة وأحياناً لا تكون كذلك، غير أن شبه إجماع بوجوب تقديم جائزة تذكارية تحمل اسم الشركة وتاريخ المسابقة بحيث تبقى عند المشارك الفائز تذكاراً لمدى العمر. وعبّرت الفنانة سنان عن الأمر بشكل مؤثر عندما قالت إنها تتمنى لو أعطيت آنذاك أي مجسّم صغير عليه اسم المسابقة والتاريخ ليبقى عندها تذكاراً معبراً عن نجاحها الأول..
على صعيد آخر، وبعيداً عن تنظيم المسابقة، يكمن التحدي الأكبر في التعامل مع حصيلتها. هذا التحدي لم يكن على بال أحد قبل 25 سنة ولا حتى في السنوات الأولى، ويتلخص بالسؤال البسيط: “ما العمل بهذا الكم المتراكم من عشرات آلاف اللوحات؟”.
عددياً لا تشكل اللوحات الفائزة المؤطرة التي تزيّن هذا المبنى أو ذاك أية نسبة مئوية مهمة من مجموع اللوحات التي لا تزال تقبع في المستودع، وتتضخم سنة بعد سنة. ويكفي المرء أن يطلّع على بعضها ليدرك كم من الآلاف يستحق أن يخرج إلى النور. ولكن كيف؟ وإلى أين؟
–
هل يقام لها معرض خاص ودائم في مبنى مستقل؟
–
هل يمكن بيع بعضها على أن يذهب ريعه لتغذية نشاط اجتماعي يستفيد منه الأطفال؟
–
هل يمكن أن تزوّد بها المؤسسات الراغبة لتزيين مبانيها بها؟
لا نعرف، ولسنا هنا في موقع يسمح لنا بإعطاء الجواب أو التقدم باقتراح محدد. ما نعرفه، هو أن جبل الرسوم هذا يشكّل كنزاً فنياً حقيقياً. ويمكن أن يشكل مادة ثمينة للدراسة يستفيد منها علماء التربية والنفس والاجتماع وكل المعنيين بثقافة الطفل في المملكة.