الثقافة والأدب

الشعر العربي الحديث في أزمة
ما هكذا كان الشعر أصلاً!!

  • 72a

بيننا وبين الشعر الحديث سوء تفاهم. البعض يقرأه فيرتبك، وكثيرون يتلافون الارتباك بتلافي قراءته، حتى أن العديد من الشعراء المُجيدين في القرن العشرين دفعوا ثمناً باهظاً من الشهرة التي يستحقونها لمجرد أنهم معاصرون لبعض شعراء الحداثة، الذين لا يعير القارئ العادي انتباهه لإنتاجهم. وهكذا تكاد القطيعة ما بين القارئ والشعر العربي الحديث أن تصبح شاملة. الناقد المعروف جهاد فاضل يعرض لنا العوامل التي أدت إلى هذه الأزمة وآراء كبار الشعراء فيها.

كان الشاعر الكبير الراحل عمر أبو ريشة يردّد في سنواته الأخيرة أن الشعر العربي خضع منذ الخمسينيات من القرن الماضي لتخريب منهجي مقصود، كان من نتيجته هذا التسيّب الذي لا يخفى على أحد. وكان عمر يتهم بعض الجهات بهذا التخريب. وعندما قلت له مرة إن هذه الجهات قد لا يكون لديها وقت كافٍ للاهتمام بالشعر الحر، وبقصيدة النثر، وبسوى ذلك من الأشكال والألوان التي طرأت على هذا الشعر ابتداءً من تلك الفترة.. ردّ على ذلك قائلاً: «إن تخريب الشعر العربي وهو من مقومات الأمة وأحد عناصرها الثقافية عملية لا تقل خطورة عند أعدائنا، عن أية عملية أخرى. فهذه العملية من شأنها فصل حاضر الأمة عن ماضيها، وإضعاف هويتها الثقافية، وإلهائها في معارك جانبية حول الأشكال الشعرية، وما إذا كان باستطاعة التفعيلة، والمنثورة، أن تتحول أم لا إلى شكل جديد من أشكال الشعر يحبّب الأشكال الخليلية الكلاسيكية..».

كان عمر يشفع مقولاته حول تخريب الشعر وضخ كمية هائلة من الإسفاف والضحالة في سوقه، بترداد عدد من النصوص النثرية التي كان يطالعها في الصحف اللبنانية اليومية، والتي كانت تحوي من الغرائب والعجائب ما لا مزيد عليه. وكان في كل جلسة من جلساته، سواءً في منزله الواقع قرب شارع الحمراء في بيروت، أو في أي مكان آخر، يضيف إلى تلك النصوص النثرية الركيكة التي لا تدلّ على معنى، ولا يحكمها أي منطق، نصوصاً أخرى جديدة تثير السخرية والضحك. وكان يضيف إلى النصوص شتائم كثيرة يصبها على رؤوس أصحابها، ويعود من جديد إلى نغمة الجهات الأجنبية وشنّها الحرب على العرب على جبهتين: جبهة الحرب وجبهة الثقافة..

وبصرف النظر عما إذا كان هناك من خاض مثل هذه الحرب على جبهة الشعر العربي أم لم يخضها، وأنا أشك في ذلك، فلا ريب في أن وراء ما كان يشكو منه عمر أبو ريشة أسباباً مختلفة منها استسهال الشعراء لرحلة الشعر. فمن كان يجد أن لديه ما يقوله شعراً، ولا يملك عدّة الشعر وأدواته الراسخة المعروفة، كان يلجأ إلى هذا النثر الركيك يبثّ بواسطته لوعته، أو نجواه، أو شكواه، أو صراخه، ويضع فوقه عبارة “شعر”، أو “قصيدة”. وكان هذا الشاعر يبرر ما يفعله، بأن الكثيرين من الشعراء فعلوا ما فعل، وبأن الأفرنج وهم شعوب متحضرة، يستخدمون عبارة الشعر المنثور، أو قصيدة النثر، فلماذا لا يحذو حذوهم ويسلك طريقهم؟ ولماذا لا يتبنى مقولات عديدة باتت شائعة في الوسط الأدبي العربي منها أن الشعر فعل حرية، وأن القصيدة الجديدة لا بد لها من شكل جديد، وأن لكل عصر أنماطه وأساليبه وطرائفه الشعرية. فهل يتعين على شاعر اليوم أن يظل يكتب كما كان يكتب شاعر الجاهلية، أو شاعر الغابرية، كما يعبّر بعضهم؟ وعندما سمع هذا الشاعر – إن صح أن يُسمّى شاعراً – أن هناك منظّرة أدبية فرنسية اسمها سوزان برنار أصدرت كتاباً أصّلت فيه قصيدة النثر الفرنسية منذ بودلير إلى يومنا هذا، تساءل هذا الشاعر: ولماذا لا نؤصّل نحن العرب النثر الفني أو قصيدة النثر منذ كهّان الجاهلية وسجعهم إلى اليوم؟ ولأن هذا “الشاعر” تمكن بسهولة من السيطرة على الصفحة الثقافية العربية، وتمكن بالتالي من إشاعة مثل هذا التنظير، ومعه تلك النصوص النثرية التي يعرفها القارئ جيداً، فقد انسحب كثيرون من الشعراء من ساحة الشعر ومن الرّد والجدل حول الشعر وأشكاله إلى أن وصل الجميع إلى ما بات يُعرف بأزمة الشعر العربي.

مرارة الشعراء
قد يُقال أن عمر أبو ريشة كان عاجزاً في سنواته الأخيرة عن إدراك المشهد الذي آل إليه الشعر العربي يومها، وأنه لم يكن باستطاعة شاعر في عمره وفي وضعه، أن يتفهم مفاهيم شاعت أيمّا شيوع في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مثل “الحداثة” و “التجاوز”، و”التخطي” و”النص المفتوح”، فنُجيب بأن الكثيرين من بناة ما يُعرف الآن بالشعر العربي الحديث وصلوا إلى الموقف نفسه الذي كان عمر أبو ريشة قد وصل إليه. فبدر شاكر السيّاب أُصيب بالذعر وهو يقرأ نتاج شعراء شباب تعاملوا بمهانة مع الشعر، فقادهم يوماً إلى دار المعلمين العالية في بغداد التي درس فيها وهو فتى، وقال لهم وهو يطأ عتبة الصف الذي كان يدرس فيه: “على هذه الصفوف جلست، وجلس زملائي من الشعراء المرموقين الذين تعرفون. وقد قرأنا وتعبنا وسهرنا آلاف الليالي حتى صار بإمكاننا أن نكتب قصيدة سوية، وحتى عَرفَنا العراق والعالم العربي. لا تعتقدوا أن كل من انتصر على الوزن والقافية وتمكن من بناء بضعة عشر بيتاً، صار شاعراً أو شاعراً كبيراً.. فللوصول إلى مثل هذا اللقب أهوال دونها مصارعة السفن للأمواج العاتية”.

ولا شك أن نصف هجائيات الشاعر عبدالوهاب البياتي في ربع القرن الذي سبق وفاته، كان موجهاً إلى الشعراء الشباب الذين كانوا يصرّون على منازلة الشعر، وما من علاقة واحدة تدلّ على أنهم سيُفلحون في هذه المنازلة. وإذا كانت هجائيات البياتي لزملائه الشعراء كنزار قباني، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش، وأدونيس، كانت مفزعة ورهيبة في عدوانيتها، فقد كانت هجائياته لمن كان يسميهم “بصعاليك الشعر”، أكثر إفزاعاً وعدوانية.

أما خليل حاوي فقد مات وفي نفسه شيء من “الشعراء الصغار”، هذا إن لم نقل أن هؤلاء الشعراء كانوا سبباً من أسباب الوضع النفسي والعصبي المتأزم الذي قاده لاحقاً إلى الجنون ثم إلى حتفه. وكان يحلو له أن يردد في تلك السنوات العجاف من حياته معبرة مستقاة من تجربته في مهنة العمار. موجز هذه الحكاية أن “المعمرجي” يُمضي ما لا يقل عن عشرين سنة في مهنة العمار قبل أن يناديه زملاؤه، أو بقية أفراد محيطه بلقب “المعلّم”. في حين أن من لم يجتز بعد مرحلة القرزمة الشعرية، تناديه “الصفحة الثقافية” العربية بالشاعر المبدع، أو الشاعر المعروف، وأحياناً الشاعر الكبير. ويناديه النقد كذلك عندما يتعرض حتى لباكورته الشعرية.

لا يجادل أحد في أن لكل زمان شعره. فالشعر هو نتاج زمن معين كما هو نتاج بيئة اجتماعية تحيط بالشاعر. ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الشعر يموت بموت الزمن الذي أنتج فيه، أو بتحوّل ملامح البيئة التي أحاطت بالشاعر إلى ملامح أخرى. فهناك قصائد جاهلية، أو أموية، أو عباسية، أو غير ذلك، لا تزال تصول على الزمن وتوهب لها حياة جديدة ومديدة. وينتج عن ذلك أن القصيدة التي تحمل ملامح زمنها وبيئتها قادرة على اختراق أزمنة وبيئات أخرى إلى ما لا نهاية إذا كانت عظيمة. وهكذا فإن الحداثة التي تشكل جوهر هذا الاختراق، ليست زمنية على الإطلاق. وهذا يقودنا إلى القول أن الحداثة لا تعني القطيعة مع الماضي بمقدار ما تعني التواصل معه، وإعادة بنائه من جديد، والانطلاق بالتالي نحو آفاق أرحب وأخصب.

ولكن هذا المفهوم للحداثة يتعارض مع مفهوم آخر التبس على الكثيرين إذ اعتبروه طوق النجاة للشعر والشاعر. بموجب هذا المفهوم الأخير للحداثة، جرت دعوة الشعراء العرب إلى تمثل حداثة شعرية أوروبية وغربية لا تمتّ بصلة إلى تطور الشعر العربي في واقعه الراهن. قالوا للشاعر: إن القصيدة الغربية تشبه اللوحة التجريدية في غموضها وإبهامها. بل تشبه القطعة الموسيقية التي يفهمها كل متلقٍّ على هواه. فكما أن اللوحة التجريدية، ومعها القطعة الموسيقية، غير قابلتين للشرح، فالقصيدة الجديدة بدورها غير قابلة للشرح. فالشاعر الحديث لا يُطلب منه ما كان يُطلب من الشاعر القديم. وهكذا فُقد إلى الأبد المفهوم التاريخي والعقلاني للشعر كما مارسته العرب وهو أن الشعر هو ذاك الكلام الموقع الذي يدل على معنى. وعندما ألغوا الموسيقى في الشعر، ثم ألغوا المعنى، باتت القصيدة عبارة عن قصبة خرساء، وعن جسد متهدم للعقل والروح. وبذلك وصل الشعر العربي إلى حالة الركود والانهيار، وهي حالة تُرى الآن بالعين المجردة.

قد لا يوافق الشعراء النثريون على هذا التوصيف لحال الشعر الآن. فهم يقولون إن “الشعر القديم” مات، وبُعث الشعر العربي بهيئة قصيدة نثر. ومن يعترض على هذه النتيجة عليه بنظرهم أن يفسّر لماذا يُطبع في السنة الواحدة ألف ديوان قصيدة نثر، ولا يُطبع في السنة الواحدة سوى مئة أو مئتين أو ثلاثمئة ديوان قصيدة شعر.

إن ما يقوله الشعراء النثريون يمثل في الواقع نصف الحقيقة لا أكثر. فصحيح أن المطبوع من مجاميع قصائد النثر قد يكون أكثر من حيث العدد من دواوين الشعر المعروفة. ولكن من يهتم أو يُعنى بهذه المجاميع النثرية؟ هل يقرأها أحد؟ الواقع أن مصيرها هو الإهمال التام تقريباً. ذلك أن تداولها يقتصر في الأعم الأغلب على بضع عشرات من الأصدقاء وشعراء هذا الصنف ونقاده. ويتأكد لنا ذلك إذا ما عرّج أحدنا على إحدى المكتبات العامة وسأل أصحابها عن رواج هذه المجاميع، إذن لظفر بجواب واحد قاطع دقيق وهو أن لا قارئ لها على الإطلاق. كما يتأكد لنا ذلك إذا ما سألنا الناشرين الذين ينشرونها، فهم يقولون أنهم في الواقع لا ينشرونها إلا بعد تقاضي ثمن طبعها كاملاً ومسبقاً، وما هكذا يفعلون عادةً مع المؤلفين الآخرين.

ويبدو أن إطار تداول “مجموعة قصيدة نثر” هو حلقة “الشاعر” التي لا تتجاوز أقاربه وأصدقاءه ومعارفه. وهذا “الشاعر” مدجج باستمرار بعدة نسخ يضعها في حقيبته أو صندوق سيارته، وأحياناً في جيبه أو تحت قميصه، من أجل أن يقدمها لمن يتعرف عليه على عجل. وبخاصة لصحفي التقاه لأول مرة، ومن الممكن أن يكتب عنه أو عنها.. فلهذه الجهة يمكن القول أن المطبوع من دواوين قصيدة النثر قد يكون أكبر من المطبوع من قصيدة الشعر.

ولكن هذا لا يعني أن قصيدة الشعر في زماننا الراهن هي أفضل بكثير من قصيدة النثر. فهناك ملاحظات كثيرة على هذه القصائد تنتهي إلى اعتبار أن هناك أزمة فعلية في إطار الشعر العربي الحديث كله. فالقصيدة الخليلية العظيمة التي كان يكتبها بدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، ومحمد مهدي الجواهري لم يعد لها وجود تقريباً. وليس حال قصيدة التفعيلة بأفضل من حال القصيدة الخليلية. فالشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، وهو أحد رواد قصيدة التفعيلة في مصر يقول إن الرداءة هي طابع قصيدة التفعيلة الآن.

وفي اعتقادنا أن جزءاً كبيراً من مسؤولية أزمة الشعر العربي اليوم يتحملها الشاعر نفسه، فهو يطمح، وبثقافة هزيلة محدودة، إلى خوض غمار فن، هو الشعر، يستلزم ثقافة تراثية وإنسانية واسعة. وقد استلزم الشعر مثل هذه الثقافة العظيمة في ماضيه، كما يستلزمها الآن. فالذي صنع المتنبي هو ثقافته العظيمة زائد شخصيته المشدودة نحو المجد. وكان محمد مهدي الجواهري يقول إنه عندما كان يخلو إلى نظم القصيدة على سطح منزله في بغداد، في ساعات الليل، كانت عشرات المفردات تتداعى إلى ذهنه من أجل التعبير عن كلمة واحدة أو حالة. وعندما شوهد أمير الشعراء شوقي مرة وفي يده ديوان شعر من العصر المملوكي أثار عجب من شاهده، قال شوقي إن على الشاعر أن يطلع على كل شعر. فحتى الشاعر المملوكي يمكنه أن يقدم فائدةً ما للشاعر الحديث. وإذا كان نزار قباني يشذّ في ضعف ثقافته عن بقية شعراء زمانه الكبار، إذ أحصى له الدارسون، ما لا يزيد على مئتي مفردة كانت الأكثر تداولاً في شعره، فإن نزار كان يعوّض هذا الضعف باستدعاء “المواضيع” الساخنة التي كان يعالجها، وباستدعاءات شعرية وفيرة أخرى كانت تجد طريقها إلى قصيدته، كما كانت هذه القصيدة تجد طريقها السهل إلى قلوب قراء لا حصر لهم. وهذا ما جعل بعض دارسيه يلقبونه بالشاعر الشعبي الفصيح.

ويعود جزء آخر من أزمة الشعر العربي الراهن إلى ضعف تجربة الشاعر الحياتية والفكرية والاجتماعية. فكما لا تُنال القصيدة العظيمة بأدوات فنية ولغوية فقيرة، لا تُنال أيضاً إذا لزم صاحبها سواحل هذه الحياة وقنع بما توافر له من الأوزان والقوافي والمعاني السهلة التي لا يمكن أن يخلو منها قلب بشري. فالشعر هو رحلة صعبة في بحور لا سواحل لها، كما هو تجربة في أعماق الذات وفي آفاق لا حدود لها. وما لم تسلم للشاعر تلك الفطرة الموهوبة التي رُتّبت فيها رتبة عالية، فعبثاً يبحث عن مكان لائق لها في نادي الشعر.

وأول ما ينبغي للشاعر أن يفعله هو تأكده من امتلاكه لأدواته الفنية وفي طليعتها متانة لغته ووفرة ثقافته، وإتقانه لشروط كتابة الشعر وأولها العروض. لكل أمة شعريتها الخاصة، وطوائفها وأساليبها الخاصة في كتابة الشعر، وأولها عند العرب هو الأوزان الخليلية. ولقد واصلت هذه الأوزان مسيرتها طوال خمسة عشر قرناً استطاع خلالها الشعراء العرب أن يجددوا، وأن يعطوا شعراً متنوعاً في جماله، وفي أفكاره، وفي صوره، وفي موسيقاه. واستطاعوا في قمة هذه العصور أن يقدموا القصيدة الخليلية الشكل، الحديثة كأكمل ما تكون الحداثة، بكل جدية وطموح إلى التعبير عن روح العصر، ومد الظلال إلى المستقبل.

بنظر بعض شعراء اليوم تشكل الأوزان قيداً على حرية الشاعر. ولكن الشعراء الكبار المطبوعين على الشعر، وفي كل عصر، لم يجدوا في هذه الأوزان قيوداً، بل نظاماً لا بد منه، وإلا تحولت الحرية إلى فوضى. ذلك أن الشعر سيتحول، في غياب “القيد”، إلى ما تحول إليه في وقتنا الراهن، حتى فقد كيانه كفن. هذا بالإضافة إلى أن الشعر، وأي فن أصيل آخر، يرفض السهولة والمجانية. هذا مع الإشارة إلى أننا، وفي إطار النثر، يمكننا أن نأتي بالجميل والمفيد، وبالرديء السقيم أيضاً. وكذلك الأمر في الشعر الموزون المقفّى. ولكن يظل الشعر شعراً والنثر نثراً، ويظل لكلٍ منهما دوره، وشأنه، وحيزه، وكتّابه.

إن هناك أشكالاً متأصلة في أدبنا وفننا منذ عصور، وعبر عصور قبلها، وهي ذات مفهوم متميز وأثر متميز. وهي مرنة قابلة للحركة وتتسع في حدود الشروط الفنية التي لا بد منها لكل ما نريد قوله بشكل فني لائق. ولكن لا بد من الإقرار بأن هناك شعراً ونثراً، وإن هذا الشعر العربي، في أشكاله، هو التفعيلة الخليلية التي كانت عبارة عن شطرين متناسبين، والتفعيلة الواحدة أساساً. ولماذا الإصرار على هذه التفعيلة؟ لأنها في الواقع التفعيلة التي ترسخت في الوجدان العربي، والذوق العربي، عبر قرون. ولا شك أن باستطاعتنا في كل يوم أن نوجد تفعيلات غيرها. ولكننا، في النهاية، لن نتوصل إلا إلى النثر.

وإذا ما أردنا أن نضيف عنصراً آخر إلى العناصر التي أسهمت في إضعاف سليقة الشاعر، قلنا إن التنظير الشعري الذي أنصت له الشاعر الحديث أيما إنصات، وخضع له ولقوانينه في نهاية المطاف، هو الذي جنى على هذا الشاعر وأساء إلى قصيدته. لقد كان الشاعر القديم، وكذلك الشاعر السابق، أكثر اتصالاً بالبراءة الشعرية. لقد كان يكتب على ضوء سليقته وبراءته وتدفق الأفكار والمعاني والرؤى في داخله. فلما بات عليه أن يراعي موجبات “التجاوز” و”التخطي” و”النص المفتوح”، وأن يقوم بتفجيرات في منطقة اللغة وإلا غضب عليه فلان، ومن قبله فلان، انقطعت تلك الصلة الحميمة والتلقائية بين الشاعر والشعر، وافتُقدت تلك الغواية القديمة بالشعر لدى محبيه ورواده، وأصبح نموذج الشعر هو القصيدة المغلقة التي يلزمها عالم فلك أو منجم لفك مغاليقها. وما هكذا كان الشعر عند العرب وما هكذا الشعر أصلاً.

أضف تعليق

التعليقات