الثقافة والأدب

رواية “العطر” ثمة سر في الحياة لم يبـح به أحد

  • 80
  • 82
  • 85

رواية “العطر” هي الأولى للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، بعد مجموعة كتابات متفرقة تراوحت ما بين القصص القصيرة والسيناريوهات السينمائية. ومع ذلك، فقد حظي مؤلفها بشهرة عالمية، وترجمت روايته هذه إلى أكثر من عشرين لغة.
الروائي عبده خال يقدم لنا فيما يلي قراءته لهذه الرواية، ويكشف عما يضعها عن جدارة في مصاف الروايات العالمية.

غرنوي… اسم سينهض في ذاكرة البشرية في يوم ما حين يأتي عالم ما ليتحقق من رؤية باتريك زوسكيند، هذا الكاتب الذي يحمل فجيعة الكون بين السطور التي يكتبها ممعناً ومتماهياً في نقض ما تم رتقه عبر العصور!!

غرنوي.. هو اسم بطل رواية العطر..
وهو اسم سيكون له الأثر الفعّال في توجيه نظرة الناس إلى ما هية الرائحة، وما هية العلاقات المترابطة بين الكائنات في جميع صورها، فإذا كانت هناك مراجعة لجميع العلاقات الناشئة بين البشر وما يحيط بهم من كائنات، وبينهم وبين بعضهم فإن غرنوي سيكون دليلاً سياحياً جيداً لمثل هذه الرحلة. وكونه شخصية رواية فلن تمنعه هذه الصيغة من القيام بهذه المهمة، فالشخصية الرواية تنفر من وجودها الكتابي لتتحول إلى وجود يملأ الفراغ بأبعاده الجسدية والنفسية ويؤسس بعداً فلسفياً لمقولاته، فقد تنبه الفلاسفة لخطورة السرد فلجأوا إلى صياغة مقولاتهم الفلسفية عبر هذه الأداة التعبيرية الراقية كما فعل سارتر على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه تنبه آخرون لعظمة هذه الأداة فاقتفوا أثرها ليتوصلوا إلى طرق كانت غير معروفة بتاتاً.. ألم يأت علم النفس من مقولات أبطال دستو فسكي؟

وكثير من الشخصيات الروائية تحولت من واقعها الكتابي إلى واقع حياتي، واقع نشير إليه وكأنه تاريخ يستوجب علينا احترام أحداثه، وإن لم نتمتع بمزية هذا الاحترام فإننا سنبحث في تجاويف مقولات تلك الشخصية ونتأكد من وجودها بالمراجعة والدرس.

وكثير من شخصيات الرواية يتحول إلى كائن نعرفه تماماً، يقطن في مكان ما من هذا الكون، وتربطنا به علاقات حميمة ونعرف عنه أدق التفاصيل. هذه الشخصية موجودة عبر الزمن، تجدد وجودها مع كل قراءة لها، وتقفز على سطح الحياة كلما مرّت بها عيون باحثة عن أنموذج إنساني عبر حياتنا ذات مرة. إن الأعمال الروائية تتناسخ بعدد قارئيها، والمؤمنين بمقولاتها.

إن الشخصية الروائية أقوى – في وجودها – من كاتبها، فهي القادرة على البقاء وتتنقل على ألسنة الناس كثِيمة سحرية قادرة على إحلال مباهج الدنيا وتعاستها أيضاً، يحدث هذا في آن واحد.

فرقصة زوربا ترف في بال كل من قرأ تلك الرواية، لتجدد في داخله متعة الحياة والبحث عن الوجود الحقيقي للكائن الإنساني. وشخصية زوربا – على سبيل المثال – أخذت أثراً أعمق مما أراد لها كاتبها أن تحدثه، وأحدب نوتردام سيظل مقترناً بتلك المشاعر الإنسانية الراقية ولن يقف عند قرع أجراس الكنيسة، وبطلة ذهب مع الريح ستظل مبقية على مشاعر الأنثى وحلمها في البحث عن إكسير الحياة وهو قريب منها، وبائعة الخبز ستجسد المأساة الإنسانية عبر التاريخ البشري، ودكتاتور ماركيز سيظل صورة التقطت في زمن ما ليتوزعها الساسة ويزينوا بها أحلامهم في جذب الناس إلى الانحناء، ودون كشوت لن تقف حربه ضد جيوش الهواء التي ستفرز حشراتها وفيروساتها ما دمنا رابضين على هذه الكرة الأرضية.

كل الشخصيات الروائية خرجت من واقعها الكتابي لتتحول إلى شخوص تتجدد في وجودها وتشارك المستقبل إعادة صياغة أمزجة الناس.

العطر
وعندما ظهرت رواية العطر – قصة قاتل (1985م)، أحدثت دوياً عالمياً ومنعت في كثير من الدول الغربية، حيث حملت الرواية مفاهيم جديدة للعلاقات الإنسانية، بل كانت قنبلة حقيقية وضعت بعناية لتفجر العقل البشري وتقضي على معظم المفاهيم التي ترسخّت في عقولنا.. فهذا الطفل الذي ولد وقذف بين القمائم ليعيش حياة رثّة، ويسير بين الناس بدمامة مبالغ بها. لم تستطع دمامته أن تجعله كائناً لافتاً أو مقززاً أو مثيراً للشفقة، تعبره العيون غير مكترثة به، ليتنبه أنه يسير بلا رائحة، ليس له رائحة خاصة به، فيبدأ في التعرف على الأشياء من خلال حاسة الشم، كل الأشياء لها رائحة (العشب، الحجر، التراب، الماء، الحشرات، الفواكه، الأجساد) كل شيء له تركيبته الكيميائية الخاصة.. ويتنبه أحد العطارين لموهبة هذا الصبي فيمكنه من العمل لديه، وبعد أن كانت شركته موشكة على الإفلاس يقوم هذا الصبي بخلق تركيبة فريدة لعطر تتوزعه كل فرنسا.

ويكتشف أن ثمة روائح لو جمعت في تركيبة معينة ستمكنه من الإمساك بزمام العالم وتسخيره لرغباته، من هنا يبدأ رحلة البحث عن عناصر مركبه الفريد، وهذه العناصر لا توجد إلا في أجساد الفتيات اللائي لم تفسد رائحتهن، فيجوب فرنسا وفي كل مكان منها يجد فتاة تحمل عنصراً من تلك الرائحة، فيصطادهن واحدة بعد الأخرى، تكون مهمته القضاء عليها بهراوته واستخلاص شذاها من مخابئها العميقة. ويمضي في جمع عناصر مركبه الفريد في حين تنقلب فرنسا لهذه الجرائم المتتالية والتي تكون الضحية فيها قد سلبت روحها وملابسها فقط..

وأمام هذه الجرائم المتكررة (وبالطريقة نفسها) يتنبه أنطوان ريتشي أحد مستشاري مدينة غراس إلى أن ابنته لور هي الضحية القادمة، لروعة جمالها وامتلاكها لمواصفات يبحث عنها القاتل، فيبعد ابنته. إلا أن غرنوي يصل إليها وهنا يقع في قبضة الشرطة في حين يكون قد اكتمل مركبه برائحة لور وعندما يحين القصاص يكون غرنوي قد اعتصم بالرائحة، تلك الرائحة التي تجعله كائناً مختلفاً وتستجلب كل المشاعر الإنسانية وتعمقها وتحوّل القاتل إلى كائن محبوب، تحوله إلى كائن يتمنى الجميع إرضاءه، تحوله إلى كائن يتيم به الرجال قبل النساء..

وفي مشهدية عاصفة يخرج غرنوي إلى ميدان باريس ويصب على جسمه عطره الفريد فيتحلّق حوله الشحاذون والنبلاء، والعابرون والعجائز، والصبية والنساء. الكل يريد التقرب منه للمسه، فقط للتبرك به. ويتلاشى بين أيديهم من فرط التعلق به. الكل ينزع منه شيئاً حتى يغدو جثة ممزقة.

أليست هذه الفكرة جديرة بجعل العالم بأسره يبحث عن سر الرائحة.. سر أن تسقط الكراهية والانتهازية والاحتقار ويقوم مقامها الحب والعدل..

إن رواية العطر نفق جديد، على البشرية أن تنقب فيه قبل أن تمضي سنوات عمرها بحثاً عن الأدوية والفلسفات لخلق المجتمعات المثالية.. فمن يكتشف معادلة ذلك العطر الذي يمكن له أن يجعل المرء منّا محبوباً لدرجة تفوق الخيال؟

مقتطف من رواية العطر
..جمد غرنوي في مكانه، مدركاً لتوه، أن نبع الرائحة التي شمها قبل نصف ميل، من ضفة النهر الأخرى، لم يكن هذه الباحة القذرة، ولا ثمار البرقوق. النبع كان الفتاة..

في الأول من أيلول / سبتمبر 1753م، في عام تتويج الملك أقامت مدينة باريس احتفاءً بالمناسبة حفلة ألعاب نارية على «الجسر الملكي». لم تكن الحفلة بفخامة تلك التي أقيمت بمناسبة زفاف الملك، كما لم تكن لتقارن بحفلة ولادة ولي العهد، لكنها على أية حال كانت حفلة ألعاب نارية مثيرة، إذ ركبوا لهذا الغرض عجلات شمسية مذهبة على صواري السفن، ومن أفواه ثيران النار كانت تنهمر الأمطار النجمية من أسوار الجسر باتجاه مياه النهر. وبينما كانت المفرقعات تنفجر في كل مكان، من الأسوار وعلى إسفلت الشوارع والأزقة كانت الصواريخ تتصاعد إلى السماء لترسم في إطار هذه الظلمة باقات من الزنابق البيضاء. كانت الحشود بالآلاف، متجمهرة على الجسر على ضفتي النهر تعبر بصيحات الإعجاب عن احتفائها بما تراه، بالإضافة إلى الهتافات الموجهة إلى الملك الذي اعتلى العرش قبل ثمانية وثلاثين عاماً والذي كانت شعبيته قد تلاشت منذ أمد بعيد. لكن جو حفلة الألعاب النارية كان قميناً بتحقيق ذلك.

وقف غرنوي صامتاً في ظل مبنى «پاڤيون دو فلور» على الشاطئ الأيمن، مقابل «پون رويال». لم يحرك يديه مصفقاً، كما لم تلفت نظره الصواريخ المتصاعدة. لقد أتى لظنه أنه قد يشم شيئاً جديداً. ولكن سرعان ما تبين خواء الألعاب النارية من أي شيء، فكل ما كان يبرق ويتلألأ ويصفر وينشر الشرر ويتفجر لم يخلف وراءه سوى خليط من روائح الكبريت والزيت وملح البارود.

كان على وشك أن يترك هذا الحفل الممل إلى بيته عبر طريق «اللوڤر»، عندما حملت إليه الريح شيئاً ضئيلاً يكاد لا يلحظ، شذرة، ذرة رائحة طيبة، لا، بل أقل من ذلك: كان شيئاً أقرب إلى الإحساس الداخلي بالطيب منه إلى الطيب الحقيقي – وكان في الوقت نفسه إحساساً أكيداً بشيء لم يسبق له أن شمه. تراجع باتجاه الجدار مجدداً، أغلق عينيه وفتح منخريه. كانت الرائحة الطيبة لطيفة ورقيقة لدرجة أنه لم يستطع الإمساك بها. كانت تتجلى، لتضيع ثانية وقد غشاها دخان بارود المفرقعات، أو لتحجبها تعرقات الحشد البشري، ولتجزئها وتسحقها آلاف الروائح الأخرى المنبعثة من المدينة. إلا أنها عادت فجأة، كطيف، وللحظة فقط، لتشم كلمحة رائعة.. ثم اختفت. كان غرنوي يعاني آلاماً مريعة، وللمرة الأولى لم يكن الألم ناتجاً عن تعرض شخصه الجشع للمهانة، بل كان قلبه فعلاً هو الذي يتعذب. خامره إحساس غريب بأن هذه الرائحة الطيبة هي المفتاح لعالم الروائح الطيبة الأخرى كلها، وبأنه ليس بمستطاع الإنسان أن يفهم الروائح الطيبة، إن لم يفهم هذه بالذات. وأدرك غرنوي أن حياته ستضيع هباء، إن لم ينجح في امتلاك هذه الرائحة بعينها. كان لا بد له من أن يمتلكها، لا بهدف الامتلاك فحسب، بل من أجل راحة قلبه.

ولشدة الهيجان الذي انتابه جاشت نفسه. فهو لم يعرف مصدر الرائحة ولا من أية جهة وصلته. كان انقطاع الرائحة يدوم أحياناً لدقائق طويلة لا تحتمل، حتى تصله شذرة أخرى منها. وفي كل مرة كان يسيطر عليه خوف أن تضيع منه إلى الأبد. وأخيراً، وبإيمان اليائس، أنقذ نفسه من هذه الحالة باعتقاده أن الرائحة قادمة من ضفة النهر الأخرى، من مكان ما من جهة الجنوب الشرقي.

حرر نفسه من جدار مبنى «باڤيون دو فلور» وانخرط في الحشد البشري شاقاً طريقه عبر الجسر. كان يتوقف بين الفينة والأخرى، منتصباً على رؤوس أصابعه كي يتمكن من التقاط الرائحة من فوق الرؤوس. ونتيجة لهيجانه لم يشم أول الأمر أي شيء، لكنه التقط أخيراً شيئاً ما، فتتبعه بأنفه. ولما كانت الرائحة الآن أقوى من السابق، تأكد غرنوي أنه يسير في الاتجاه الصحيح، فغاص في الحشد شاقاً طريقه بصعوبة بين المتسكعين وعمال الألعاب النارية الذين لم يتوقفوا عن رفع مشاعلهم إلى فتائل الصواريخ. وفي خضم دخان البارود اللاذع ضاع خيط الرائحة الطيبة من غرنوي، فانتابه ذعر جعله يستخدم منكبيه وساقيه باحثاً عن طريق، وبعد دقائق لا نهاية لها، وصل إلى الضفة الأخرى، إلى «أوتيل دو ميي» و«مرسى مالا كيست»، إلى نهاية «شارع السين». توقف هنا، جمع ذاته، وشم. وصله خيط الرائحة فانقض عليه. كانت الرائحة أشبه بشريط ممتد بطول «شارع السين»، محسوس وواضح، لكنها ما زالت لطيفة بالغة الرقة. أحس غرنوي بنبض قلبه المتسارع وعرف أنه ليس نتيجة الجهد الذي بذله في الركض، وإنما بسبب عجزه المضني حيال هذه الرائحة. حاول أن يتذكر حالة مشابهة، لكن ذاكرته لم تسعفه بشيء. كان لهذه الرائحة خاصية منعشة، إلا أنها لم تكن لتشبه الليمون الحلو أو الكباد، ولا المرّ أو أغصان القرفة أو البتولا أو الكافور أو إبر الصنوبر، ولا مطر أيار/مايو أو ريح الجليد أو ماء النبع.. وفي الوقت نفسه كانت رائحة دافئة، ولكن ليس كدفء النارنج أو السرو أو المسك، وليس كدفء الياسمين أو النرجس، ولا كدفء خشب الورد أو الزنبق الملون ذي الأوراق السيفية. هذه الرائحة كانت مزيجاً منهما معاً، من الخفيف والثقيل. لا، لم تكن مزيجاً، بل وحدة، فاترة وضعيفة، ورغم ذلك مركزة وراسخة كقطعة حرير هفهافة متلألئة.. لا، لم تكن كالحرير، وإنما كحليب بحلاوة العسل يتغلغل في مسام الكعك ويذيبه. ولكن كيف للطرفين أن يجتمعا: الحليب والحرير! إنها رائحة كاللغز، لا تخضع لوصف أو تصنيف بأي شكل أو طريقة. في واقع الأمر لا يجوز أن توجد رائحة كهذه، ومع ذلك فقد كانت ماثلة هناك في بداهتها الباهرة. تبع غرنوي أثرها بقلب يخفق فزعاً، فقد أدرك أنه ليس هو الذي يلاحقها، وإنما هي التي أوقعته في شباكها وأخذت تجذبه إليها دون أية مقاومة من جانبه.

صعد غرنوي «شارع السين»، فلم ير فيه أي إنسان، وكذلك كانت المنازل، خاوية وساكنة، فقد كان الناس هناك عند النهر في حفلة الألعاب النارية. لم يكن ثمة ما يزعجه، لا رائحة البشر المحمومين بالاحتفال ولا رائحة البارود الكريهة اللاذعة. أما الشارع نفسه فقد كانت تفوح منه روائح معتادة، كرائحة المياه والغائط والجرذان وبقايا الخضار المستهلكة. ولكن فوق هذا كله كان يلوح في الهواء الشريط اللطيف الجلي الذي كان يقود غرنوي إلى مبتغاه. وبعد بضع خطوات كان ضوء السماء الليلي الخفيف قد ابتلعته المنازل الشاهقة، فتابع غرنوي طريقه في العتمة، لم يكن بحاجة للرؤية، لأن الرائحة كانت تقود خطاه بثقة.

بعد خمسين متراً انعطف نحو اليمين، باتجاه زقاق أشد عتمة، لا يتجاوز عرضه ذراع إنسان. والغريب هو أن الرائحة لم تشتد، بل أصبحت أكثر نقاء. وبنقائها المتزايد هذا أضحت جاذبيتها أقوى. كان غرنوي يسير دون إرادة، وعند بقعة محددة جذبته الرائحة بقوة نحو اليمين، لكأنما كانت تفوح عبر منتصف جدار سور المنزل. وفجأة ظهر ممر يؤدي إلى الباحة الخلفية متجاوزاً إحدى زوايا البناء، ليصل إلى باحة ثانية أصغر من الأولى، وهنا كان ثمة نور يضيء المكان الذي لم تتجاوز مساحته بضع خطوات طولاً وعرضاً والذي يغطيه سقف خشبي مائل ممتد من جدار البناء. وتحت السقف كانت هناك طاولة عليها شمعة مضاءة. وإلى هذه الطاولة جلست فتاة تنظف البرقوق الأصفر. كانت تتناول الثمار من سلة إلى يسارها لتقشرها وتنتزع بذورها بالسكين، لترميها من ثم في سطل بجانبها. لم تكن لتتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها. جمد غرنوي في مكانه، مدركاً لتوه، أن نبع الرائحة التي شمها قبل نصف ميل، من ضفة النهر الأخرى، لم يكن هذه الباحة القذرة، ولا ثمار البرقوق. النبع كان الفتاة.

ولبرهة من الزمن كان غرنوي في حالة شديدة الاضطراب، إذ لم يسبق له في حياته أن رأى شيئاً يوازي جمال هذه الفتاة، علماً بأنه لم ير منها سوى ظلها من الخلف في ضوء الشمعة. إن ما عناه في الواقع هو أنه لم يسبق أن شم أجمل من هذه الرائحة. وبما أنه كان يعرف روائح البشر، الآلاف منها، كروائح الرجال والنساء والأطفال، فإنه لم يصدق أن الجسم البشري قادر على إصدار مثل هذه الرائحة المميزة الفاخرة، فرائحة الجسم البشري عادة، إما أن تكون بلا نكهة أو مقززة بائسة. روائح الأطفال تكون غير محددة، وروائح الرجال بولية ممتزجة برائحة التعرق اللاذعة والجبن، والنساء تفوح منهن رائحة الزنخ والسمك الفاسد. روائح البشر بصورة عامة كانت مملة ومنفرة.. وهكذا كانت هذه هي المرة الأولى في حياة غرنوي التي لم يثق فيها بأنفه، فاستعان بعينيه ليصدق ما شمه.

لم يدم اضطراب حواسه طويلاً. بل لم يلزمه في واقع الأمر أكثر من لحظة ليتأكد من الحالة بصرياً، وليستسلم من ثم دون أدنى مقاومة لمدركات حاسة شمه.

لقد شم الآن أنها بشر، وكان شمه ممتعاً للغاية. فعرقها وجده منعشاً كريح البحر، ودهن شعرها كزيت الجوز، وجلدها كزهر المشمش..، وتركيب هذه العناصر مع بعضها أنتج عطراً، هو من الثراء والتوازن والسحر بحيث أن كل العطور التي سبق له أن شمّها وكل تركيب الروائح التي ابتدعتها مخيلته بدت له فجأة خواء جافاً. مئات آلاف الروائح لم تعد تساوي شيئاً أمام هذه الرائحة بالذات. هذه الرائحة بالتحديد كانت المبدأ الأعلى الذي يجب على الروائح الأخرى أن تصنف نفسها وفقه، قياساً إلى هذا المثال الذي كان الجمال النقي بعينه.

——————–

المؤلف في سطور
ولد باتريك زوسكيند Patrick Süskind في السادس والعشرين من شهر آذار/مارس 1949م في بلدة أمباخ على بحيرة شتارتبرغ الواقعة على سفوح جبال الألب. كان والده صحفياً وكاتباً. بعد حصوله على الثانوية العامة درس باتريك التاريخ في جامعة ميونيخ بين 1968 – 1974م، عمل بعدها في أعمال وأماكن مختلفة، وكتب عدة قصص قصيرة وسيناريوهات سينمائية. ولم يعرف ككاتب إلا عام 1981م بمسرحيته “عازف الكونتراباس”، وهي مونودراما من فصل واحد قدمتها معظم المسارح الألمانية والأوروبية. وبروايته الأولى «العطر» 1985م التي ترجمت حتى الآن إلى أكثر من عشرين لغة بلغ الكاتب الشهرة العالمية. ومنذ منتصف الثمانينيات عُرف الكاتب في أوساط الجمهور الألماني والأوروبي عبر مشاركته في كتابة سيناريوهات عدد من المسلسلات التلفزيونية الناجحة. وفي عام 1987م حصل زوسكيند على جائزة غوتنبرغ لصالون الكتاب الفرانكوفوني السابع في باريس. وهو يعيش حالياً بين ميونيخ وباريس متفرغاً للكتابة.

أضف تعليق

التعليقات