بيئة وعلوم

تكنولوجيا النانو..
الوعود كبيرة والمخاوف أيضاً

  • 42

قلائل هم الذين سمعوا حتى اليوم بتكنولوجيا
النانو. أما غداً، فستكون على كل لسان.
فما هي هذه التكنولوجيا الجديدة، التي يرى فيها بعض العلماء تطوراً لم يسبق له مثيل في
تاريخ العلم؟ الزميل أمين نجيب يعرفنا في هذا الموضوع بهذه التقنية، ويعرض لنا بعض
الآفاق التي قد تفتحها بكل ما فيها من وعود وآمال ومخاوف..

يقول التحديد البسيط لـ “تكنولوجيا النانو” أنها مجموعة تقنيات حديثة تقوم على التلاعب بالذرات والجزيئات ومركباتها، واستخدامها لصنع موادٍ جديدة أو لتغيير خصائص مادة موجودة، وأيضاً صناعة آلات صغيرة لا يتعدى حجمها حجم الفيروس.

ولا يعبّر هذا التحديد رغم بساطته وسهولته عن الأهمية العلمية والتطبيقية لهذه التكنولوجيا الجديدة، نظراً إلى ما تنطوي عليه من قدرات وآفاق مثيرة للدهشة والقلق، بدأت طلائعها بالظهور منذ فترة وجيزة، ويتوقع معظم العلماء أن تسيطر على جميع نواحي الحياة في غضون سنوات قليلة مقبلة.

ما هي تكنولوجيا النانو؟
يشتق مصطلح تكنولوجيا النانو من “النانومتر”. والنانومتر هو مقياس مقداره واحد من بليون من المتر، أو واحد من مليون من المليمتر، أي أنه أصغر بنحو عشرة آلاف مرة من قطر شعرة إنسان. وهو المقياس الذي يستخدمه العلماء لقياس الذرات والإلكترونات التي تدور حول نواة الذرة، وكل نانومتر يساوي على سبيل المثال 7 إلى 10 ذرات هيدروجين.

وإيضاحاً لبعض التعابير الواردة لاحقاً في هذا الموضوع، لا بد من الإشارة إلى تعبيرين أساسين: “النانو جزئي” (NANO PARTICLE)، ويتألف من مجموعة ذرات منظمة صناعياً لغاية معينة، وهي أصغر من ألف نانومتر، أي بحجم فيروس واحد، وصناعة “النانو جزئي” أصبحت حقيقة واقعة، وهو يستعمل اليوم في الكثير من المواد الاستهلاكية الموجودة في الأسواق. أما التعبير الثاني فهو “نانو بوت” (NANOBOT) أو الآلة الذكية شبيهة الإنسان الآلي، غير أن حجمها يبقى أقل من 10,000 نانومتر، أي بحجم البكتيريا الواحدة.

وعندما نشير إلى أن المسافة بين الذرات ومركباتها، أو بين بعضها البعض هي ما يعطي خصائص هذه المادة أو تلك، فإن النانوبوت يتولى مهمة تعديل هذه المسافات ورصفها من جديد بغية تحويل المادة إلى مادة أخرى. ولهذا صار النانوبوت يحمل اسماً آخر: “الراصف”.

تاريخها
يعود الاهتمام النظري بتكنولوجيا النانو إلى العام 1959م، عندما تحدث عالم الفيزياء الشهير ريتشارد فاينمان أمام الجمعية الأمريكية للفيزياء عن ترتيب الذرات، مشيراً إلى أنه “يوجد مكان واسع هناك في القاع”، وتطرق إلى إمكانية التلاعب بالذرات ومركباتها كما يحلو لنا.

أما التأسيس الفعلي لهذا العلم فيعود إلى العام 1986م، عندما وضع عالم الرياضيات الأمريكي اريك دريكسلر كتاباً سمّاه “محركات التكوين” شرح فيه أسس تكنولوجيا النانو. وتقوم هذه الأسس على أن الكون وكل ما فيه مؤلف من ذرات وجزيئيات، وأنه من الممكن نشوء تكنولوجيا قادرة على السيطرة على هذه المكونات. فإذا عرفنا تركيب أية مادة يمكننا صنعها من مادة أخرى، وذلك برصف مكوناتها الذرية كما يجب أن تكون في المادة المطلوبة. فعلى سبيل المثال أن الماس مكون من ذرّات الفحم وجزيئياته. ونظرياً، من الممكن تفكيك الفحم العادي، ثم إعادة رصّ الذرات لصناعة الماس. ويقول بعض الباحثين إن الاحتمالات تبدو أوسع من أن يحيط بها الخيال، إنه انقلاب جذري في العلاقة بين الصناعة والمواد الأولية، بل ومجمل نظام التبادل الاقتصادي العالمي.

وتزايد الاهتمام بتكنولوجيا النانو خلال التسعينيات من القرن الماضي. ففي سنة 1995م ذكرت كلمة “نانو” حوالي 200 مرة في مختلف المطبوعات العلمية. وازداد هذا الرقم إلى 4000 مرة في سنة 2002م وحدها.

وذكر ريتشارد سمولر، وهو كيميائي حاصل على جائزة نوبل لاكتشافه نانو أنابيب الكربون ذات الأهمية، أن ميزانية علوم وتكنولوجيا النانو تقع على رأس الميزانيات في الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي بلغت سنة 2002م أربعة مليارات دولار. وقد سجل حوالي 3000 براءة اختراع منذ 1996م تتعلق بهذا الموضوع. ويقدر الخبراء سوق النانو في المستقبل القريب بحوالي ترليون دولار في السنة.

الصنـاعــة التي بدأت فعلاً
دخلت صناعة النانو حيز التطبيق في مجموعة من السلع التي تستخدم نانو جزئيات الأوكسيد على أنواعه، والألومينيوم والتيتانيوم وغيرها، خصوصاً في مواد التجميل والمراهم المضادة لأشعة الشمس. فهذه النانوجزيئات تحجب الأشعة فوق البنفسجية UV كلها ويبقى المرهم في الوقت نفسه شفافاً. وتستعمل في بعض الألبسة كمضاد للتبقع. وقد تمكن باحثون في جامعة هانغ يانغ في سيول من إدخال نانو فضة إلى مضادات حيوية. ومن المعروف أن الفضة قادرة على قتل حوالي 650 جرثومة دون أن تؤذي الجسم البشري. وسيُنزل عملاق الكومبيوتر “هاولت باكارد” قريباً إلى السوق رقاقات يدخل في صنعها نانو إليكترونات قادرة على حفظ معلومات أكثر بآلاف المرات من الذاكرة الموجودة حالياً. وقد تمكن باحثون في IBM، وجامعة كولومبيا، وجامعة نيو أورليانز من تملق وجمع جزيئين غير قابلين للاجتماع إلى بلور ثلاثي الأبعاد. وبذلك قد تم اختراع مادة غير موجودة في الطبيعة: ماغنيسيوم مع خصائص مولدة للضوء مصنوعة من نانو أوكسيد الحديد محاطاً برصاص السيلينايد، وهذا هو نصف موصل للحرارة قادر على توليد الضوء.

وهذه الميزة الخاصة لها استعمالات كثيرة في مجالات الطاقة والبطاريات. وقد أوردت مجلة الإيكونوميست مؤخراً أن الكلام بدأ عن مادة جديدة مصنوعة من نانو جزئيات تدعى “قسم” Quasam (كأنها كلمة عربية) تضاف إلى البلاستيك والسيراميك والمعادن فتصبح قوية كالفولاذ خفيفة كالعضام وستكون لها استعمالات كثيرة خصوصاً في هيكل الطائرات والأجنحة، فهي مضادة للجليد ومقاومة للحرارة حتى 900 درجة مئوية.

وتقول مجلة “نايتشر”: “إن صناعة آلات صغيرة بحجم ما دون الملليمتر بكثير هي في السوق الآن. والخطوة الثانية التطبيقية هي نانو آلات التي أصبحت حقيقة واقعة في المختبرات الآن، طولها لا يتعدى 300 نانومتر واستخداماتها كثيرة في أنظمة الرؤية والميكانيك والبيولوجيا والكيمياء.

وأنشأت شركة كرافت Kraft المتخصصة في الأغذية السنة الماضية “اتحاداً لأقسام البحوث العلمية لاختراع مشروبات مبرمجة. فقريباً يمكننا شراء مشروب لا لون له ولا طعم يتضمن نانو جزئيات للطعم واللون. عندما نضعه في الميكرويف على تردد معين يصبح عندنا عصير الليمون، وعلى تردد آخر يصبح هو نفسه شراب التفاح، إلخ..

ويقول أريك دريكسلر “ليس هناك من حدود، استعدوا للرواصف الذين سيبنون كل شيء، من أجهزة التليفزيون إلى شرائح اللحم بواسطة تركيب الذرات ومركباتها واحدة واحدة كقطع القرميد. بينما سيتجول آخرون في أجسامنا وفي مجاري الدم محطمين كل جسم غريب أو مرض عضال، وسيقومون مقام الأنزيمات والمضادات الحيوية الموجودة في أجسامنا.. سيكون بإمكاننا إطلاق جيش من الرواصف غير المرئية لتتجول في بيتنا على السجاد والرفوف والأوعية محولة الوسخ والغبار إلى ذرات يمكن إعادة تركيبها إلى محارم وصابون وأي شيء آخر بحاجة إليه”.

انتقادات وردود
كما يحصل دائماً عند كل تطور علمي أو تكنولوجي، تبرز انتقادات وتنتشر مخاوف. كما حصل في الثورة الصناعية الأولى، وعند اختراع الكومبيوتر والهندسة الوراثية وغيرها وغيرها.. وتتركز الانتقادات هنا على عنصرين: الأول هو أن النانوجزئيات صغيرة جداً إلى الحد التي يمكنها من التسلل وراء جهاز المناعة في الجسم البشري. وبإمكانها أيضاً أن تنسل من خلال غشاء خلايا الجلد والرئة. وما هو أكثر إثارة للقلق أن بإمكانها أن تتخطى حاجز دم الدماغ. وفي سنة 1997م أظهرت دراسة من جامعة أوكسفورد أن نانو جزئيات ثاني أوكسيد التيتانيوم الموجودة في المراهم المضادة للشمس أصابت الحمض النووي DNA للجلد بالضرر. كما أظهرت دراسة في شهر مارس الماضي من مركز جونسون للفضاء والتابع للناسا أن نانو أنابيب الكربون هي أكثر ضرراً من غبار الكوارتز الذي يسبب السيليكوسيس وهو مرض مميت يحصل في أماكن العمل. وثاني المخاوف هي أن يصبح النانوبوت ذاتي التكاثر، أي يشبه التكاثر الموجود في الحياة الطبيعية فيمكنه أن يتكاثر بلا حدود ويسيطر على كل شيء في الكرة الأرضية.

وكما يقول بعض العلماء، “ففي حقل النانو نحن نمزج بين الفيزياء التقليدية التي تحكم حياتنا اليومية بفيزياء الكم التي تعمل على مستوى الذرات، والتي لها خصائص غريبة الأمر الذي قد يؤدي بالإنسان إلى أوضاع غير معروفة. ويرد الآخرون أن لكل مشكلة حلاً، ويذكرون بفيروس الكومبيوتر، والذي يتكاثر دون أن يكون مادة عضوية، والذي كان في الماضي يثير مخاوف كبيرة.

وقد بدأت منظمات البيئة والصحة العالمية تنظم المؤتمرات لبحث هذه المخاطر بالذات. وعقد اجتماع في بروكسيل في شهر يونية من العام الجاري، برئاسة الأمير تشارلز. وهو أول اجتماع عالمي ينظم لهذا الهدف. كما أصدرت منظمة غرين بيس مؤخراً بياناً تشير فيه إلى أنها لن تدعو إلى حظر على أبحاث النانو.

ومهما يكن، فالإنسان على أبواب مرحلة جديدة تختلف نوعياً، من جميع النواحي، عما سبقها، جديدة بإيجابياتها وكبيرة بسلبياتها. وكما يقول معظم العلماء: “لا أحد يمكنه الوقوف في وجه هذا التطور الكبير، فلنحاول تقليص السلبيات”.

أضف تعليق

التعليقات

مهلافضعثثى

رائع