الحياة اليومية

مدخرات العمر..
المسارات الآمنة على الطرق الوعرة

تتحمل الطبقة الوسطى، أينما كانت في العالم، القسم الأكبر من الخسائر المالية الناجمة عن سوء التعامل مع المداخيل والمدخرات، والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى ضعف ثقافتها المالية والاقتصادية.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن الإحاطة بهذا الموضوع في مقال واحد، فإن فريق التحرير اختار أن يعرض هنا بعض العناوين العريضة للمخاطر التي تهدد مدخرات الفرد، وسبل المحافظة عليها..

أول ما يتعلمه الإنسان عن المال أنه شيء لا يحصل عليه بسهولة، وأنه كما قال الشاعر: “لا بدّ دون الشهد من إبر النحل”. هذه الحقيقة نتعلمها في سن مبكرة جداً، فكل منا يذكر كيف كان يحاول في صغره إقناع والده بزيادة مصروفه ونذكر كيف كنّا نخطط لابتكار الحجج والأسباب للحصول على هذه الزيادة. وعندما ندخل ميدان العمل، كموظفين أو أصحاب عمل حر، فإن هذه الحقيقة تترسخ بشكل واضح ونهائي، إذ لا بد من العمل المتعب كي نرى المال في نهاية النفق. وإذا كان الأمر على هذه الصور, فإن أول ما نتوقعه هو الاهتمام بالمحافظة على ما جمعناه بالجهد والتعب والعرق وإنفاقه بحكمة.

إن المحافظة على سلامة المال تكون بوضعه في مكان آمن. وهذه فطرة إنسانية تدفع الإنسان إلى أن يخبّئ ماله في أمكنة لا تخطر على بال أصحاب النوايا السيئة. وفي عصرنا الحالي، تكاد البنوك أن تكون ملاذنا الوحيد لإيداع أموالنا بشكل آمن إلى حد كبير، ولكن ليس بشكل مطلق، إذ أن البنك شأنه شأن أية مؤسسة تجارية أخرى قد يُشهر إفلاسه لصعوبات مالية أو بسبب سوء الإدارة. وما يختلف فيه البنك عن هذه المؤسسات أنه يدخل في منظومة تخضع لرقابة حكومية من المفترض أن تكون صارمة، وبذلك تقلل هذه الرقابة من خطر الوقوع في الأزمات وتبديد أموال المودعين. النصيحة الممكنة هنا هي ألاَّ يضع الإنسان مدخراته في مكان واحد، لكي لا يجد نفسه في أزمة خانقة إذا وقع المحظور وأغلق البنك أبوابه أمام المودعين.

ولكن، لنفترض أن البنك آمن تماماً ولا خوف على المال من السرقة أو الضياع، فماذا عن المحافظة على قيمة المال؟ بمعنى آخر كيف تحافظ على القوة الشرائية لمدخراتك في مواجهة التضخم المالي أو التدني المستمرفي القيمة الفعلية للنقود؟ افرض على سبيل المثال أنك رأيت اليوم سيارة ثمنها عشرة آلاف ريال، وقررت التوفير من راتبك لشرائها وأن ذلك يتطلب عشر سنوات. فإذا كانت نسبة التضخم المالي – أي النسبة المئوية في زيادة الأسعار – اثنين في المئة فقط، فإنك ستحتاج بعد عشر سنوات مبلغاً وقدره 12,190 ريالاً لشراء تلك السيارة. أما لو كانت نسبة التضخم خمسة في المئة فإنك ستحتاج إلى 16,289 ريالاً. وإذا أخذنا النسبة الأعلى من عشرة في المئة فإن ثمن السيارة سيكون بعد عشر سنوات أكثر من 25,937 ريالاً! إذن ما لم تعمد إلى تنمية مدخراتك بنسبة التضخم نفسها، فإنك لن تستطيع شراء سيارتك أبداً. وإن كنت تدخر لهدف آخر مثل تأمين التعليم العالي لأولادك فإنك ستجد نفسك في الوضع نفسه، بل في وضع أسوأ لأنك قد تستغني عن شراء السيارة ولكن لن يستغني أولادك عن التعليم. السؤال إذن هو كيف تنمي مدخراتك حتى تحافظ على قيمتها الأصلية؟

حسابات الادخار
وسندات الخزينة
الجواب عن هذا السؤال يجرنا إلى موضوعي الادخار والاستثمار، وما يتفرع عنهما من مسائل. وهنا لا بد من تحديد الهدف والأولويات. فإذا كان هاجسك الادخار الآمن لسنوات لاحقة في حياتك، وعدم المجازفة بتحمل أية خسارة فإن توجهك يجب أن يكون صوب حسابات الادخار أو سندات الخزينة. ففي الحالين تسمح لطرف آخر (البنك أو الدولة) باستعمال نقودك مقابل عائد محدد. بالنسبة لحالات الادخار فإن المبدأ العام هو أن نسبة العائد ترتفع مع طول المدة التي تمتنع فيها عن سحبه بصورة إلزامية. النصيحة في هذا المجال هي ألاَّ تودع كامل نقودك في بنك واحد، وألاَّ تودعها في بنك يدفع عوائد على حسابات الادخار أعلى بكثير من المعدل العام الذي تدفعه باقي البنوك، فإن سياسة البنك هذه قد تعني أنه في وضع سيء.

سندات الخزينة، هي بكل بساطة إقراض للدولة في الأغلب لمدة تتعدى السنة، وقد تصل إلى عشر سنوات. هذه أيضاً تعتبر وسيلة آمنة لتنمية المدخرات إذ أن سداد الدولة للسند في وقته المحدد إلزامي ولا مجال لعدم تنفيذه. إضافة إلى ذلك، فإن هذه السندات يمكن بيعها في أي وقت لطرف آخر سواء أكان فرداً أم مؤسسة. السؤال هو هل تضمن هذه الوسيلة المحافظة على قيمة مدخراتك، أي المحافظة على قوتها الشرائية؟ الجواب يعتمد على مقارنة نسبة التضخم المالي مع نسبة ما يدفعه البنك أو نسبة العائد على السندات. فإذا كانت نسبة التضخم فعلاً خمسة في المئة وعائد حساب الادخار أيضاً خمسة في المئة فإن كل ما فعله البنك هو أنه حافظ على قيمة نقودك، ولكنه لم يعطك شيئاً إضافياً بالفعل. أما إذا كانت نسبة التضخم خمسة في المئة والعائد ثلاثة في المئة فإنك تكون قد خسرت اثنين في المئة من قيمة نقودك وأعاد لك البنك بالفعل أقل مما أخذ منك، ولكنك تبقى في وضع أقل سوءاً من أن تقفل على نقودك في خزنة داخل بيتك أو مكتبك.

الاستثمار
الوسيلة الأخرى لتنمية مدخراتك هي الاستثمار. وهي وسيلة قد توفر لك عائداً أكبر ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على مجازفة أكبر.

وبشكل عام فإن حجم العائد له علاقة مباشرة بدرجة المجازفة. والاستثمار يمكنه أن يأخذ أشكالاً عديدة. فقد تعمد إلى عقد شراكة مع شخص تعرفه للقيام بعمل تجاري ما. المجازفة هنا تعتمد على مدى معرفتك بالشخص ودقة دراستك للمشروع بشكل موضوعي ودرجة ثقتك في شريكك وقدرته على القيام بالعمل. كما أنها تعتمد على طبيعة الاتفاق بينكما وعلى قدرتك على المشاركة والتحكم في اتخاذ القرارات. والنصيحة هنا هي أن تلجأ إلى استشارة قانونية حول نص أي اتفاق قبل توقيعه لتعرف الحجم الحقيقي لالتزاماتك وأن خسارتك القصوى إن وقعت لن تتعدى حجم استثمارك. سلبيات هذا الاستثمار تكمن في أنك قد تفقد مالك وشريكك إذا لم تسر الأمور على ما يرام. ولهذا يجب ألاَّ تقدم عليه بشكل متسرع.

شكل آخر للاستثمار، وهو الاستثمار في العقارات: الأراضي، البيوت، المحال التجارية. هذا النوع من الاستثمار يحتاج إلى مبالغ كبيرة نسبياً قد تتعدى مدخرات الشخص العادي. على أنه إذا توفر المال فقد يكون هذا النوع من الاستثمار مجزياً إذا تم اختيار العقار بعناية وبعد دراسة واستشارة إذا تطلب الأمر. الناحية السلبية في هذا المجال أن العقارات يصعب تحويلها إلى سيولة بسرعة عندما تقتضي الحاجة ذلك. بالإضافة إلى أنها تتطلب اهتماماً مستمراً من المستثمر للعناية بها وصيانتها وإدارتها.

أما الشكل الشائع للاستثمار في اقتصادياتنا الحديثة فهو شراء أسهم وسندات الشركات، المحلية منها والأجنبية.

السندات والأسهم
لا بد في البداية من التفريق بين السهم والسند. فعندما تشتري سهماً فإنك تشتري حصة في شركة، أي أنك أصبحت واحداً من مالكيها، ولو بنسبة ضئيلة تبعاً لما تشتريه من حصص، وقد تكون واحداً من عشرات أو مئات وأحياناً ملايين المساهمين. وعليه فإنك مثل أي مالك أو مساهم معرَّض للربح والخسارة، وقد تكون الخسارة أحياناً كل ما استثمرته أو جزءاً منه.

أما عندما تشتري سنداً فإنك تصبح في وضع الدائن وليس المالك أو المساهم. هذا يعني أن الشركة قد اقترضت منك قيمة سنداتك، وتعهدت في الوقت نفسه أن تدفع العائد المنصوص عليه في السند سواء أربحت الشركة أم خسرت.

بالإضافة إلى ذلك فإنه في حال تعرض الشركة للإفلاس فإن لحملة السندات الأفضلية على حملة الأسهم في استرداد أموالهم من موجودات الشركة بعد تصفيتها.

من الواضح إذن أن شراء الأسهم يحمل مجازفة أكبر من شراء السندات ولكن عائده، وهذا ليس بالضرورة، يكون أفضل. إن المجال لا يتسع هنا لمعالجة كافة نواحي هذا النوع من الاستثمار، ولهذا نكتفي ببعض النقاط السريعة.

إذا كنت تريد أن تختار بنفسك الشركات التي ستسهم بها فلا بد أن تخصص الوقت الكافي للاطلاع على حساباتها لعدة سنوات بما في ذلك عائدات أسهمها وسنداتها، وتتبّع أخبار نشاطاتها وتوقعاتها المستقبلية والأزمات التي من الممكن أنها تجتازها. أما إذا لم يتوفر لديك الوقت، فيمكنك استشارة الدائرة في البنك الذي تتعامل معه والتي تتولى هذه الأمور، أو التعامل مع عميل في البورصة تشكل متابعة الشركات وأخبارها صلب عمله. وهناك في الحالتين عمولة يجب عليك دفعها، ولكن ذلك أفضل بكثير من شراء أية أسهم اعتباطاً.

النقطة الثانية هي ألاَّ تستثمر جميع أموالك في شركة واحدة مهما كان وضعها مغرياً؛ فالشركات التي تبدو ناجحة ومتألقة قد تكون في الواقع في وضع حرج كما حصل لشركة أنرون الأمريكية مؤخراً حين خسر آلاف المساهمين ملايين الدولارات.

النقطة الثالثة هي ألاَّ تقترض لكي تشتري أسهماً. فأساس الموضوع هو المحافظة على قيمة أموالك لا المجازفة بأموال الآخرين وتحمل تبعات ذلك.

النقطة الرابعة هي أن تتابع باستمرار أخبار الشركات التي تمتلك أسهمها، وأخبار المجال الذي تعمل فيه هذه الشركات لتقرر إذا ما كان الوقت قد حان لبيع هذه الأسهم.

النقطة الخامسة، هي أن تتذكر دائماً أن التعامل مع الأسهم يحتمل الخسارة كما يحتمل الربح، ولذلك لا تغامر بمال إذا خسرته سيؤثر على حياتك وحياة عائلتك بشكل جذري، أي لا تحول المجازفة المدروسة إلى مغامرة.

النقطة الأخيرة هي بمثابة تحذير. فهناك فئة من الناس تعمل على بيع أسهم لشركات موجودة قانونياً لكن أسهمها لا قيمة لها بالنسبة للعارفين بهذا المجال. فقد يعرض عليك شخص ما شراء أسهم لشركة مؤسسة في جزر الباهاماس أو الكاريبي أو إحدى الإمارات الأوروبية الصغيرة، ويحاول إغراءك بعائدات قد تصل إلى 15 أو 20 في المئة، ويحمل في حقيبته من الأوراق والمستندات ما يتوصل من خلاله إلى إقناعك بالترغيب حيناً وبالضغط حيناً آخر بشراء هذه الأسهم. هؤلاء الأشخاص يمارسون نشاطهم على مستوى واسع في الغرب وقد تسببوا في مآسٍ لا حصر لها خاصة للمتقاعدين الذين يعتمدون على ما ادخروه لشيخوختهم. وقد يكون هذا الشخص غريباً عنك وقد يكون أحياناً معروفاً لديك، وقد يتصل بك هاتفياً من دولة بعيدة ليعطيك الانطباع بأنه شخص مهم وعليك أن تسمعه. هذا الاستثمار نتيجته خسارة مؤكدة وعليك حتماً تجنبه. والنصيحة في هذه الحالة ألاَّ تسأل مثل هؤلاء الناس أية أسئلة، ولا أن تستفسر عن هذه الناحية أو تلك. أبلغه فقط أن هذا الموضوع لا يعنيك وأنك لا تنوي الدخول فيه وأقفل الحديث بحزم.

هناك في النهاية أنواع أخرى من الاستثمار ذات طبيعة خاصة مثل التحف واللوحات والأحجار الكريمة التي من المفترض أن تتحسن قيمتها بمرور الزمن. يختلف هذا النوع من الاستثمار عن سابقيه بأنه لا يعطي مردوداً منتظماً، ولا تُعرف نتيجته إلا عندما يتم التخلص منه. إضافة إلى ذلك فإنه يشترك مع الاستثمار العقاري بأنه لا يمكن عادة تحويله بسرعة إلى سيولة. كما أنه يحتاج إلى معرفة متخصصة، ويكاد يكون مقتصراً على المحترفين الذين يعرفون تماماً طبيعة ما يستثمرون فيه وقيمته.

التخطيط
إن الحفاظ على سلامة المال وقيمته يشكل جانباً مهماً من إدارتك لأموالك، ولكن هناك جانباً لا يقل أهمية ألا وهو التخطيط. فكما تعد الوزارات في الدول والدوائر المالية في الشركات موازناتها السنوية وموازنات إضافية لفترات أطول، فإن الفرد يمكنه أن يعد موازنات شهرية وسنوية وأخرى طويلة الأمد. الهدف من هذه الموازنات هو وضع الخطط المستقبلية بصورة أرقام لكي نعرف كيف ستسير أمورنا المالية خلال الفترة موضوع الموازنة. فإذا أعددت موازنتك جيداً فسترى بشكل واضح متى سيكون لديك فائضاً من المال ومتى ستكون في حالة عجز. في الحالة الأولى سيمكنك ذلك من التخطيط لاستثمار الفائض، وفي الحالة الثانية التحضير للاقتراض. هذه المعرفة المسبقة ستوفر عليك الكثير من الأزمات التي قد تبدو مفاجئة ولكنها في الحقيقة متوقعة وستراها فقط عندما تحضر موازنتك. إن أسوأ وضع يمكن أن تقع فيه هو أن تكتشف فجأة أنك بحاجة إلى مبلغ من المال خاصة إذا لم يكن صغيراً. إذ أنه من الجائز ألاَّ تتمكن من الحصول على ما تريد، وإن استطعت فبأصعب الشروط. في حين أنك لو علمت اليوم أنك ستكون بحاجة إلى هذا المبلغ بعد ستة أشهر مثلاً فإن فرصك في الحصول عليه وبشروط جيدة ستكون أفضل بكثير.

هذه المعرفة المستقبلية لا يمكن أن تتنبه لها إلا من خلال تحضير موازنتك للفترة القادمة. وإذا كنت من القادرين على استعمال الكومبيوتر فإنك ستجد القيام بهذا العمل مفيداً وممتعاً، وسيتطلب تحضيره بعض الوقت في المرة الأولى بينما تقوم بتعديل الأرقام في المرات اللاحقة، والحصول على موازنتك خلال دقائق. وبما أن الموازنة تقوم على أساس افتراضات معينة مثل بقائك في الوظيفة نفسها والزيادات المتوقعة في الراتب واحتمال شراء كذا وكذا.. فإنك سوف تتمكن من تعديل موازنتك كلما تغير أحد هذه الافتراضات، كأن تغير وظيفتك أو تمتنع عن شراء السيارة.

والحقيقة أن الموازنة تحمل تأثيراً على قراراتك وما تنوي عمله، ووضع القرارات بالأرقام يجعلك ترى نتائجها بصورة أوضح. فعندما تُدخل ثمن السيارة في موازنتك وترى عجزاً فيها فإن ذلك قد يدفعك إلى إعادة النظر في قرارك والتدقيق فيه من جديد. ونتيجة لذلك، فإنك ستكون في وضع المتحكم في مجرى الأمور وليس مجرد مُتلقٍّ لما يحصل، يتخبط من أزمة لأخرى.

إن الأشخاص الذين يديرون أعمالهم بنجاح هم أولئك المدركون دوماً لما يدور في محيطهم وفي العالم الأوسع. فإن كنت ممن يستثمرون أموالهم بالأسهم مثلاً، فإن قراءة الصفحة المالية في الصحيفة اليومية، والاشتراك في مجلة دورية تعالج مواضيع اقتصادية ومالية سيساعدك على الإلمام بما يجري، وبالتالي على التحكم الأفضل في استثماراتك. جميع المحطات الفضائية تفرد في برامجها مجالاً للنشرة الاقتصادية، وقد تجد الاستماع إليها مفيداً وأحياناً ضرورياً. بهذه الخطوة الأخيرة تكون قد جمعت العلم مع التخطيط والفعل، وهذه هي عناصر النجاح الحقيقية.

أضف تعليق

التعليقات