لم يتوقع أن تقوده هوايته في تتبع مواقيت النجوم، إلى تقديم إضافة في مجال علوم الفلك، وهو المتخصص بجغرافية النقل، أحد فروع الجغرافيا الاقتصادية، من جامعة أنديانا في الولايات المتحدة. كما لم يتوقع أن تكون الأحاديث المهتمة بمطالع النجوم ومسمياتها، والتي يتداولها والده وأصحابه في الحقل الذي كانوا يقتاتون منه أيام طفولته، مجرد بداية لإنجاز لم يكن في حسبانه. إنه رئيس الدراسات المدنية بكلية الملك عبدالعزيز الحربية الدكتور محمد بن سعد المقرِّي. وهنا صورته الشخصية كما رسمها محمد الطريري.
ولد الدكتور محمد بن سعد المقرِّي في محافظة الدوادمي عام 1372هـ، وكانت طفولته موزعة بين الدراسة ومساعدة أهله في زراعة الحقل الصغير، وكما كان كل شيء صغيراً ابتداءً من الدار ومروراً بالحقل وانتهاءً بالقرية، كانت الهموم كذلك صغيرة. ولم يكن الأفق آنذاك ليسمح للطفل الذي غدا أستاذاً جامعياً بإطلاق خياله إلى خارج قريته فضلاً عن مدارات النجوم البعيدة.
مدرسته الأولى حياة الريف
كان الطفل الصغير يحضر مجلس الرجال الكبار وهي العبارة التي يرمز بها الفتيان إلى مجالس آبائهم وما يدور فيها من أحداث وروايات لا تخرج عن اهتمامات القرية البسيطة. وكان من أهم الموضوعات التي كان الكبار يدرجونها ضمن جدول النقاش و لا يملون من تكرارها، قضية مطالع النجوم وأوقاتها، وما يترتب عليها من دخول أوقات الشتاء والصيف وتفاصيلها المتنوعة من حيث اختلاف درجات البرودة والحرارة. إذ تتقابل مربعانية الشتاء مع مربعانية القيظ في المسمى واختلاف التفاصيل، مع بعض الروايات الأسطورية المتعلقة بالمواسم. إذ تفترض إحدى الأساطير وجود أبناء لموسم الشبط الواقع بعد موسم المربعانية في فصل الشتاء، وتقوم الشبط باعتبارها أماً لهؤلاء الأبناء بالتشديد عليهم أن لا يتركوا الناس من دون القيام بزيادة البرد القارس عليهم، حيث يكون الشتاء في نهايته. وهكذا يتداخل الأسطوري بالواقعي في سلسلة، ولكنها تتفق في النهاية على أهمية أخبار النجوم والمطالع في حياة ريفيين يعنيهم دخول موسم الوسم لأنه أفضل وقت لنزول المطر، وما يتبع ذلك من اخضرار الصحراء القاحلة، وظهور نباتات وأعشاب لاستخدامات مختلفة، ويصدق حينذاك الحديث عن النجوم والمطالع ذو شجون .
في هذه البيئة نشأ الدكتور محمد المقرِّي، غير أن اهتمامه بالنجوم والمطالع لم يتجاوز اعتبارها حديثاً يتكرر مع اختلاف فصول السنة، وتفرضه البيئة المحيطة. وسرعان ما انهمك في دراسته الثانوية التي أنهاها في الدوادمي لينتقل بعدها إلى الرياض، حيث واصل دراسته الجامعية في كلية التربية في جامعة الرياض، وتخرج منها ليعيّن معيداً في كلية الملك عبدالعزيز الحربية. وبعد سنتين غادر إلى الولايات المتحدة في بعثة دراسية أنهى خلالها الماجستير والدكتوراة في جامعة إنديانا في مدينة بلومنغتون، متخصصاً في الجغرافيا الاقتصادية، وجغرافية النقل كتخصص دقيق، واستغرقت دراسته تسع سنواتٍ اعتبرها أجمل سني حياته.
تطلعه إلى قبة السماء
وحول بداية اهتمامه بموضوع النجوم والمطالع، ذكر المقرِّي أن اهتمامه بها جاء متأخراً. وللوصول إلى نقطة التماس التي أشعلت هذا الاهتمام، أكد على أنه فلاح ابن فلاح ، ولم يكن يرمي لغزاً وإنما يتحدث عن واقع. وهنا يجيب عن العلاقة بين مهنة فلاحة الأرض والاهتمام بالنجوم ومطالعها. إذ يقول: يحتاج الفلاح إلى مطالع النجوم ليقوم بتحديد أوقات الحرث والبذر والتلقيح، فكل وقت من أوقات السنة له أنواعه من المزروعات، وهي أوقات لا تختلف على مدار العام، غير أن انتقالي إلى العمل في الرياض مع عدد من إخوتي، أوحى لنا بشراء مزرعة في أطراف المدينة لتكون متنفساً لنا، وبالفعل قمنا بشرائها غير أننا وقعنا في إشكالية انعدام الخبرة بأوقات زراعة المحاصيل، الأمر الذي أجبرني على تتبع هذه الأوقات، ومن هنا كانت بدايتي بهذا الاهتمام، وهي بداية متأخرة لهذه الهواية، حيث جاءت بعد أن استقريت في وظيفتي، ولم تصاحبني منذ البداية .
إعداد تقويم الحرمين
ومن هذه الحيثيات، انطلقت فكرة إعداد تقويم الحرمين الفلكي، الذي مر بأربع سنوات كمرحلة أولى لجمع المعلومات، وسنتين كمرحلة ثانية من العمل المحدد، ابتداءً من التصميم إلى وقت خروجه من المطبعة بشكله النهائي.
وتقويم الحرمين الفلكي عبارة عن لوحة فلكية تمثل فصول السنة وبروجها ونجومها (منازل القمر)، وتم تصميمه على قدر عالٍ من الدقة، وتم اختيار الألوان التي تعكس طبيعة المناخ وتدرجه، كما أنه يشتمل على العديد من المعلومات الأساسية المبنية على أسس علمية، والتي تم عرض معلوماتها بأسلوب مبسط ليتمكن الجميع من استخدامها.
ويفيد هذا التقويم في التعرف على الفصول والبروج والنجوم، ومواقيتها وخصائصها المناخية، إضافة إلى التعرف على أشكال النجوم ومواقعها من البروج وأسمائها العلمية والدارجة، وتحديد الجهات ليلاً ونهاراً وفي حالة الغيوم كذلك، ومعرفة هجرة الطيور، ومواعيد زراعة بعض المحاصيل الزراعية.
..واسطرلاب الحرمين
ويأتي اسطرلاب الحرمين الحديث مشابهاً للاسطرلاب القديم من حيث الشكل، إذ يعتبر المقرِّي أن تصميمه واسمه يمثلان علامة احترام لأسلافنا وما تعلمناه منهم، غير أنه تم استخدام التقنية الحديثة في إعداده وتصميمه .
ويفيد الاسطرلاب في التعرف على النجوم والمجموعات النجمية التي يمكن مشاهدتها في القبة السماوية بالعين المجردة في أي وقت من الليل طوال العام، حسب دائرة عرض مكة المكرمة. وهو مناسب لمعظم الدول الإسلامية التي تقع على دوائر عرض مماثلة، مع إمكانية استخدامه لتحديد أوقات الصلاة. بينما صممت خارطة الحرمين السماوية على أساس دائرة عرض مكة المكرمة، وتضم أكثر من 85 كوكبة وُضعت أسماؤها باللغتين العربية واللاتينية، وكذلك أسماء بعض النجوم المشهورة ومنازل القمر.
وتشمل الخارطة خطوط الطول السماوية الطالع المستقيم ، ودوائر العرض السماوية الميل الزاوي ، ومنها دائرة الاستواء ودائرة عرض مكة المكرمة، ودائرة البروج، وتمثل المسار الظاهري للشمس بين النجوم خلال العام، إضافة إلى مجرّة درب التبانة.
ويلاحظ على هذه الخارطة أن التواريخ الموضوعة تحت تقاطعات دائرة البروج مع خطوط الطول تبين موضع الشمس الفعلي على هذه الدوائر في تلك التواريخ، كما أن دائرة البروج تتقاطع مع دائرة الاستواء في نقطتين تعرفان بالاعتدالين، حيث يتساوى الليل والنهار، أحدهما في 21 مارس ويطلق عليه الاعتدال الربيعي، والأخرى في 21 سبتمبر ويطلق عليها الاعتدال الخريفي، كما يلاحظ أن دائرة البروج تتقاطع مع دائرة عرض مكة المكرمة في نقطتين، الأولى في 31 مايو والثانية في 21 يوليو، وعندهما تتعامد الشمس على دائرة عرض مكة المكرمة، ما يعني أن الشمس تتعامد على دائرة عرض مكة المكرمة مرتين في الصيف.
وكان المقرِّي يتوقع أن يكون إنجازه لتقويم الحرمين الفلكي هو الغاية التي وصل إليها من اهتمامه بعلم الفلك. غير أنه ذكر أنها مثلت البداية للعديد من المشروعات التي تدور في الاهتمام ذاته، والتي أرجأ الإفصاح عنها لحين اكتمال ترتيباتها النهائية.