الثقافة والأدب

الذئب الأسود
حنّا مينه في الغابة بعد البحر

  • 83a
  • 80a
  • 81a

الذئب الأسود هو عنوان رواية جديدة للأديب السوري حنّا مينه، وهي الجزء الأول من ثنائية يحمل الجزء الثاني منها عنوان الأرقش والغجرية .
عامر الصومعي يعرض هنا لهذه الرواية التي صدرت عن دار الآداب في بيروت، بانتظار صدور الجزء الثاني الذي نشر على حلقات في إحدى الصحف اليومية السورية. ويختار لنا بعض المقاطع المعبرة عن مضمونها.

يعتبر حنّا مينه من قادة الرواية العربية التي خرجت من المحلية لتحتل مكانتها على مساحة الوطن العربي ككل. وما جائزة الكاتب العربي التي منحه إياها اتحاد كتاب مصر لأول مرة لمناسبة مرور ثلاثين سنة على تأسيسه إلا من المؤشرات إلى المكانة التي تحتلها أعماله عربياً.

اشتهر حنّا مينه بكونه من الرواد الذين كتبوا عن البحر في الرواية العربية. وروايته الشراع والعاصفة كانت الأولى في هذا المجال في الأدب العربي. وهو أيضاً أول من تناول الغابة كمسرح روائي في الياطر . حيث تذكرنا صورة الغابة لديه بصورتها لدى الأديب الفرنسي غي دو
ماباسان الذي كتب في القرن التاسع عشر على لسان أحد الهنود: الغابة تنفذ إلي، تغريني، تجري في دمي، ويخيل إليّ أنني ألتهمها وأنها تملأ بطني. أنا نفسي أغدو غابة .

الغابة في الذئب الأسود هي مسرح تحرك مجموعة من الصيادين والصيادات، الذين يطاردون الذئب الأسود لقتله. أما الذئب المستهدف فيصفه الكاتب بالقول إنه نادر أو غير موجود أصلاً، إنه وهم، إنه رمز لشيء ما سينكشف يومياً . وهذا الذئب ينتشر في الغابات الاثنتين والعشرين، ويتوالد ويتناسل في كل غابة من هذه الغابات من دون أن يستطيع أحد أن يوقفه.

ووسط الصيادين، تظهر شخصية الحكيم بشير، الذي يمكن وصفه بأنه المتحدث باسم المؤلف، يحاول من خلاله نقل أفكاره وتوجيه النصح والإرشاد إلى الصيادين لأنه صاحب رؤية منطقية، وقادر على الكلام المقنع بأسلوب مبسّط.

فأثناء لقاءاته مع الصيادين الواحد تلو الآخر، كان الحكيم يجد عند كل واحد منهم الآراء نفسها ويسمع منهم الكلام نفسه. فكل منهم يريد أن يقتل الذئب الأسود بمفرده، ويزعم القدرة على ذلك. الأمر الذي يدفع الحكيم إلى القول: علة هذا الشرق يا دغمش الفردية. ماذا تستطيع أنت وحدك كفرد أن تفعل؟ أنت على حق يا دغمش، أنت وفيّ لآبائك، وأجدادك كانوا مثلك أفراداً. كانوا شجعاناً وأفراداً في سلوكهم من المهد إلى اللحد. حافظوا على فرديتهم وهذا سر نجاحهم .

وفيما يتورط الصياد دغمش هذا في قصة حب عاصف مع صيادة التقاها عند النبع حيث يتربص جميع الصيادين بالذئب الأسود، يحذره الحكيم، كما يحذر باقي الصيادين، من نسيان القضية الأولى، وهي قتل الذئب الأسود الذي هو سبب وجودهم في الغابة ويدعوهم إلى الاتحاد وتشكيل قوة واحدة، لأنهم بغير ذلك لن يستطيعوا أن يقتلوا الذئب.

وضوح الإسقاطات السياسية
منذ الصفحات الأولى، يلحظ قارئ هذه الرواية أنه أمام عمل شاءه الكاتب أن يكون سياسياً بامتياز. فمعظم عناصر هذه الرواية ومقوماتها مصممة لأن تكون مجرد صور رمزية لخطاب سياسي طويل. والرواية بمجملها هي إسقاطات لاهتمامات عالمية، وعربية حكماً، على الواقع المتخيل.

فالذئب هو الظلم والاستغلال، والصيادون هم أفراد 
لا يجمعهم سوى السعي إلى التخلص منه. وهو يعيش في القلاع التي لا يسهل التغلب عليها، والتي إن لم يتخلصوا منها، لن يستفيدوا شيئاً من قتل الذئب الأسود، لأنها ستطلق سلالات وسلالات منه تملأ الغابات وتعيث فيها فساداً وتخريباً. لذلك يجب تحديد الهدف الحقيقي وعدم تجاهله أو الانخداع بالنوايا الحسنة التي تظهرها القلاع للناس. كان الأرقش ينظر بإشفاق للذين تخدعهم هذه القلاع برمي الفتات لهم كما ترميها لكلابهم تماماً. وكان هؤلاء المخدوعون يتلقفون هذه الفتات شاكرين للقلاع صنيعها، مسبحين بحمدها، متدافعين لخدمتها، عيوناً بصاصة وسواعد فتاكة وأزلاماً خنوعة بسبب الجهالة والضلالة والحاجة إلى لقمة العيش والخوف لفقدانها ورغبة في الاستزادة منها .

ووسط هذا الهم السياسي بامتياز، تتبعثر جهود الصيادين، فيغرق دغمش في حب رئيفة، أما رئيفة فتحب الأرقش الذي يحب فدوى… الطريق طويلة إلى القلاع والبحث عن الذئب الأسود قد يطول ويطول. لذلك 
لا بد من التساؤل والشوق، لا بد من التسلية التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الحب .

التأرجح بين العمق وخلافه
الغابة في هذه الرواية واقعية جداً بالمقياس الأدبي، وغرائبية جداً لجهة الإسقاطات. فهي المدينة المعاصرة وما فيها من اختلال في توازن العلاقات والمصير. والحدث الذي هو حملة لصيد الذئب الأسود، يدور وسط حوارات عالية المستوى تبدو حيناً وكأنها صادرة عن أفواه البسطاء من القرويين، وأحياناً عن مثقفي المدن:
– رهيب: قال أكرم، هذا تقرير سياسي كامل، تقرير فظيع يا بشير، يا صاحب المانيفيستو..
– قال بشير: هناك ما هو أفظع: الاختزال! نحن مختزلون. فكل قلعة تختزل النمل الذي في غابتها إلى نملة واحدة، ككل ذاتها، لذلك عددنا قليل بعدد غاباتنا. إننا اثنتان وعشرون نملة فقط لا غير!

ولكن ماذا لو شاء القارئ أن يستخلص من هذه الرواية كل بنود الخطاب السياسي للمؤلف؟ ماذا سيجد؟

على الأرجح لن يجد الكثير من المبادئ والأفكار الجديدة: وجوب التضامن للوصول إلى الهدف، أن يكون هذا الهدف إحقاق العدل والتخلص من الظلم والمفسدين في الأرض.. استئصال الشر من جذوره وعدم الاكتفاء بمحاربة ظواهره.. وهل هناك من يعترض على مثل هذه المبادئ أو المفاهيم الشائعة حتى في صفوف البسطاء؟ بعبارة أخرى هل تكفي هذه الخطوط العامة لبناء رواية عليها بكل ما فيها من غابة وصيادين وعاشقين وحِكَم الحكيم؟ الجواب هو حتماً: لا . ومع ذلك؟ تبقى هذه الرواية على قدر كبير من الإمتاع، وذات جاذبية قوية تشد اهتمام القارئ.

جاذبيتها
فبين المسقط والواقعي هناك مساحة غامضة يتمكن فيها الكاتب من شد انتباه القارئ، وتعود بالدرجة الأولى إلى مشاهداته التي جمعها في الغابة والمدينة على حد سواء رغم أنه ينكر ذلك على غيره. إذ سبق لحنّا مينه أن قال في كتابه كيف حملت القلم : أما الذين يحسبون أن المشاهدة الخارجية السطحية، القادرة على صياغة خبر هي القادرة، ووفق المطلوب، على صياغة فن، فإنهم واهمون، ومن الأفضل لهم ولنا أن يتحولوا عن مهنة الكتابة إلى مهنة أخرى .

فالكاتب، ومن خلال مشاهداته الخارجية – التي لم تكن سطحية على الإطلاق – استطاع أن يزخرف روايته بعشرات ومئات التفاصيل الممتعة والعميقة والحساسة التي تعوّض عن بساطة المحور العام، خاصة لجهة تعقيدات العلاقات الإنسانية ما بين أبطالها وتراوحها ما بين حساسية الحب الرقيق، والاندفاعات المجنونة نحو الرغبة في القتل.

عالمه الضخم
عالم حنّا مينه غني وضخم. يتشكل من ثلاثة وثلاثين رواية بالإضافة إلى المجموعات القصصية. وهو الروائي العربي الذي كتب ثلاثية حول الصين تقع في ألف صفحة حديث في بيتاخو / عروس الموجة السوداء / المغامرة السوداء وهي تشكل امتداداً لما كتبته الروائية الأمريكية بيرل باك حول الصين في روايتها الأرض الطيبة .

كما رصد حنّا مينه قضايا ذات أبعاد عالمية مثل واقع الصين في الستينيات، والثورة المضادة في المجر. وتناول المجتمعات الغربية وما تعانيه من مشكلات اجتماعية وصولاً في التفاصيل إلى السلوكيات الأخلاقية.

ثمة من يتهمه بالإكثار تأليفاً ونشراً بإصداره رواية كل عام. إلا أنه يقول: عشت الحياة بكل طاقتي، بكل ذرة من كياني، وجمعت تجاربي الكثيرة . وهو يصب كل هذه التجارب في قالب أدبي واحد: الرواية.

حنّا مينه
في رحلته الروائية
تكاد السيرة الشخصية للأديب السوري حنّا مينه أن تكون رواية بحد ذاتها. فقد ولد في مدينة اللاذقية عام 1924م. وانتقل شاباً فقيراً إلى دمشق ليعمل محرراً في جريدة الإنشاء منذ العام 1947م.

لمع اسمه تدريجياً في عالم الصحافة، واستمر نجمه في الصعود حتى العام 1959م، حين بدأت أقسى مراحل حياته. فعرف الغربة والتشرد في أوروبا والصين. ولم يعد إلى وطنه إلا سنة 1967م، ليجد نفسه من دون عمل، فقرر أن يعمل حلاقاً. ولكن صديقه سعيد حورانية وفر له عملاً في إذاعة دمشق، وساعده بتحويل روايته الشراع والعاصفة إلى مسلسل، ليتعاقد لاحقاً بصفة مترجم مع وزارة الثقافة في نهاية العام 1969م. أما الفترة الممتدة من العام 1970م وحتى اليوم، فتميزت بالاستقرار النفسي والمادي وغزارة الإنتاج الأدبي.

حاز حنّا مينه على جوائز عربية وعالمية عديدة أهمها:
– 
جائزة سلطان العويس لعام 1991م على عطائه الروائي.
– 
جائزة المجلس الثقافي لجنوب إيطاليا لعام 1993م عن روايته الشراع والعاصفة .
– 
وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2005م.

أعماله الأدبية:
المصابيح الزرق – الشراع والعاصفة – الثلج يأتي من النافذة – الشمس في يوم غائم – الياطر – بقايا صور – المستنقع – القطاف – الأبنوسة البيضاء – المرصد – حكاية بحار – الدقل – المرفأ البعيد – الربيع والخريف – حمامة زرقاء في السحب – نهاية رجل شجاع – الولاعة – فوق الجبل وتحت الثلج – الرحيل عند الغروب – النجوم تحاكم القمر – القمر في المحاق – المرأة ذات الثوب الأسود – حدث في بيتاخو – عروس الموجة السوداء – المغامرة الأخيرة – الرجل الذي يكره نفسه – القم الكرزي – ناظم حكمت: السجن ، المرأة ، الحياة – ناظم حكمت ثائرا – هواجس في التجربة الروائية – كيف حملت القلم – الذئب الأسود – الأرقش والغجرية.

من رواية الذئب الأسود
دغمش والحكيم في الغابة
كانت البقعة الغابيّة، التي استراح إليها الحكيم بشير، مسوّرة بالأدغال، بعيدة نسبياً عن مرتاد أي صيّاد. ورغم ذلك احتاط، خلع ثيابه المبللة كلها ما عدا السروال الداخلي، نشرها في الشمس، جلس يتشمّس هو أيضاً، أراح بندقيته على مقربة منه، لا خوفاً بل تحسباً. فالغدر، في الغابة، يسيء إلى بهاء الغابة، والغدر في الغابة من طبيعة الغابة: ثمّة وحوش كاسرة، من الحيوان والإنسان، وغدر الإنسان هو الأفظع، هو الأسهل والأيسر معاً. وإذا كان الحكيم بشير، في يقينه الراسخ كصنوبرة، على معرفة ألا أعداء له، وأن الصيادين والصيادات جميعاً يؤثرونه، يبدون له المودة والاحترام، فإن هذا بالذات ما يجعله هدفاً لهم. والسبب هو حكمته التي تجعله متميزاً عنهم. وامتيازه يغري به، فالآخرون غير المتميزين في شيء، 
لا يغفرون له تميزه، تماماً كالشريف في طغمة اللاشرفاء، الذين إذا تاب أحدهم بصدقٍ عن السرقة، تحسسوا، في دواخلهم من توبته، وعليه في هذه الحال أن يرحل عنهم، أو يقتلوه لأنه لم يعد منهم.

عزيف الجنّ في الصنوبر هبوب ريحٍ رهوةٍ، ينداح وسط السكينة مسافراً بغير حقيبة، على رِسْل الأماني لكل مشوق، اعتاده اللاعج من الشوق فأضناه الفراق. والفراق صدأ الحب، يبريه ولو كان حديداً وداعاً عذارى الهوى والوداع، في الاستبدال. لقاء مأمول تباركه الغابة، كما يبارك البحر شبوب اللجة، في توقها لعناق نورس أبيض الجناحين. والحكيم الذي حُرم من العناق، لم يكْسُفْهُ الحرمان، لم يخجله، لم يرَ فيه عيباً. فالطالب طلب، والمطلوب نفر من الطالب لأنه يطلب آخر، فاتلاً القنّب حبلاً طويلاً للأمل.. رئيفة، في دلّ الأنثى، لم تستجب للذكر، استجابتها لذكر آخر، منذورة للأرقش الهارب من الحمّى إلى الحمّى، وليس من برء، في حميّات الجسد، إلا بالوصال. وخشية الحكيم أن تتفشّى الحميات في الغابات، أن تصبح جانحة تعمّم العدوى، فيمرض الناس، وتكون البليّة مضاعفة: النحول والقعود عن مطاردة الذئاب السود (…)

الغابة مكان للصمت، ومع الصمت يكون التفكير، وقد ترحّل الحكيم بشير مع صمته، بعيداً في أفكاره، وكان هذا أفضل له، كي لا يحسب دقائق الزمن، أو يبهظه انتظار أن تجفّ ثيابه. إنه، في بحرانه الذهني، نسي الثياب التي فرح بها لأنها جفّت، ولأنه بارتدائها صار بإمكانه التطواف في الغابة، ومن حسن الحظ أن سرواله الداخلي جفّ على جسمه، وجفّت، بدورها، بركة ماء النبع التي أسقطته رئيفة فيها، انتفت، غدت ذكرى والذكريات صدى السنين الحاكي! . غير أنّ الصدى يتلاشى، يبقى الصوت وحقيقته، والحقيقة لها طعم الحقيقة. وبفعل إرادة، حاول أن ينسى الحكيم بشير ما جرى، أن يبتلع طعْمَ الحقيقة. لكنّه، في اللاّ شعور لم يبتلع شيئاً ، هجع التفكير بالمرأة، ولكن إلى متى! إلى متى يا حكيم؟ لا أدري. الحكيم لا يدري.. وعندما أفاق من شروده، من ذكرياته، كان دغمش قد اختفى.

لكنهّ، في طريقه إلى ماء النبع، التقاه ثانية، كان دغمش قنّاص البشر. يطوف في المنطقة نفسها، غير قادر على الابتعاد عنها، وكان، من وقت لآخر، خلال النهار والليل، يعتاده الشوق لا إلى الديار، بل إلى من سكنها، لا إلى النبع، ولكن إلى رئيفة التي عينها في مائه. وفي هذا كانت له شراكة مع الحكيم بشير، فهذا أيضاً غَوَتْه رئيفة عند النبع، وكما يعود المجرم إلى مكان جريمته ولو متخفياً، عاد دغمش والحكيم إلى مكان جريمتهما في الحب الذي أزهر ولم يثمر، وكان دغمش حانقاً لإفلات فريستين منه: رئيفة والذئب الأسود! قال:
– أنت، يا حكيم، وضعت عقلي في كفي!
– إذن لم أضع شيئاً.
– تعني لا عقل لي؟
ابتسم الحكيم وقال:
– تقريباً!
– لماذا؟
– لأنك لم تتأدب حتى الآن. حاولت مرة ومرة ومرات، ولقيت الرفض نفسه من رئيفة في كل مرة، فماذا ترتجي؟ أن يرقّ قلبها عليك؟ أن تشفق على جنونك بها؟ الموت ولا الشفقة في الحب. فالشفقة هنا هي الإذلال، رئيفة أذلّتك بما يكفي، وأنت الآن مُذلّ مُهان، ومَن يكن على هذا القدر من المهانة يصبح فاقداً للكرامة. والذي بغير كرامة، بغير شرف، وبغير نخوة، 
لا نفع منه في هذه الغابة.. إنك تحب، وأنا أتفهم أن تحب، لكنك في حبك تخلط ما بين الرضا والقسر، تريد أن تكون محبوباً بالقوة، وهذا محال. القوة قد تجلب الغنى، النفوذ، القدرة، السطوة، لكنها عاجزة عن جلب الحب. أنت معذّب! هذا صحيح، إلا أن رئيفة معذّبة أيضاً، كم قلت لك إنها تحب الأرقش، وإن الأرقش يحب غيرها، وإنّ شقاءك في مرامِك شقاؤها في مرامها، وإنّ التضحية قسمة واجبة بينكما، تضحّي لأجلها كما تضحي هي لأجله، وبذلك ترتفعان إلى المستوى الإنساني اللائق: هناك كثير من النساء، وهناك الكثير من الرجال، والفراق وحده كفيل بالنسيان والسلوان، الفراق يشفي من الحب، من الوجد… ابتعد، ففي البعد النجاة من هذا المرض اللذيذ الذي أنت مصاب به.
هتف هدهد من فوق شجرة:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجتَ من نجدِ
فقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
أردف هدهد آخر:
وقد زعموا أن المحب إذا نأى
يسلو، وأنّ النايَ يشفي من الوجدِ
أضاف الهدهد الأول:
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أن قربَ الدار خيرٌ من البعدِ
قال دغمش:
– أسمعت يا حكيم؟
قال الحكيم:
– 
سمعت يا دغمش، لكنني لا أزال عند رأيي، بعد الدار لا قربها هو الذي يشفي..
أضاف:
– 
صاحبك الشاعر لا يزال على أوّل درجات السلم.. إنه مثلنا تماماً، في سفح الجبل، أنا لا مطمح لي في ارتقائه، أما أنت، وإذا كنت مصرّاً على حب رئيفة، فإن عليك أن تبدأ من السفح، وأن تجاهد وتضنى في الصعود إلى الذروة، وهناك تنال حظّك من حبّها، هذا إذا أحبتك هي.
– وبعد الوصول إلى الذروة.
– 
الثبات عليها قليلاً، إن أمكن ذلك، وبعده الانحدار من الجانب الآخر للجبل.
– أيّ جبل؟
– 
هل أنت أهبل؟ جبل الحب طبعاً! هذا إذا كانت معك التي تحب، رئيفة أو غيرها.
– 
وإذا لم تكن؟ أصعد وحدي!؟ المسألة سهلة إذن، دلّني على هذا الجبل، وأنا أتكفّل بالباقي.. سأصعد إلى ذروته وثباً، وأبقى عليها إلى آخر العمر.. ما قولك؟
– 
قولي إنك أخرق.. الجبل، يا دغمش، مجاز.. جبل الحب غير جبل الحجارة، صعود جبل الحجارة سهل، في وسع الجميع ارتقاؤه، أما جبل الحب فإنه صعب المرتقى، وشرطه أن يكون معك من يرتقيه.
– كن أنت معي إذن!
– 
وبماذا أنفعك أنا؟ أنا يا دغمش! 
يا حيواناً يمشي على رجلين، رغم أنك نلت بعض الحظ من التعليم، وكنت في المدينة، وقنصت البشر، وكنت تفهم قبل أن يخبّلك الحب.. ماذا جرى لك؟ أضعت عقلك؟ كل الأشياء، في هذه الدنيا، قابلة للشرح، إلا الحب.. فيه يكون الصمت، صمت اللسان وكلام العين، ماذا قالت لك العين؟
– عن أي عين تتكلم؟
– ليس عن عيني طبعاً!
– 
عن عين رئيفة؟ أنت، يا حكيم، أضعت حكمتك، إذا كنت أنا قد أضعت عقلي. رئيفة، يا حكيم، لا تؤخذ إلا قنصاً.. نعم! المسألة هكذا.. أقنصها كما قنصت غيرها.. رصاصة في الدماغ وينتهي كل شيء.. تستريح هي وأستريح أنا.
تفرّس فيه الحكيم، وقال:
– 
رئيفة تستريح بالموت إذا قتلتها، أمّا أنت فبماذا تستريح؟
– بالعيش نهائياً في هذه الغابة أو غيرها..
(…)
نهض الحكيم من مجلسه على صخرة النبع، جاء إلى دغمش، ربّت على كتفه، مسح على رأسه، أشعل له سيجارة، دعاه إلى الجلوس على الصخرة معه، تركه يدخن حتى يصفو رأسه، قال له بنبرة حانية:
– كبرنا يا دغمش وكبر همّ الهوى معنا..
أضاف الحكيم بتؤدة:
– 
من كان يظن أنني بعد هذا العمر، أشتهي رئيفة، وأحاول، رغم تحذيرها، أن أضمها إلى صدري؟ الظنّ، هنا، صار حقيقة.. فعلتها، أخطأت، الخطأ يتطلب ثمنه، دفعت الثمن صاغراً، وجدت نفسي في ماء النبع، خجلت وماذا ينفع الخجل بعد فوات الأوان؟ الحكيم أضاع حكمته، تعلمت درساً مفاده ألا حكمة مع الشهوة، نسيت أن الرجل لا تذله إلا شهوته، اشتهيتها وصار الذي صار، ذهبت إلى بقعة معزولة في الغابة، جففت ثيابي، تذكرت أقوال الهداهد: قرب الدار خير من البعد .. ابتسمت على أسى، ارتديت ثيابي، عدت إلى مكان سقطتي، وجدتك، أنت أيضاً، في مكان هذه السقطة، وهذا طبيعي
ما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارَ
نعم! ما حب النبع الذي أعادنا، أنت وأنا، إلى هنا، ولكن حب التي كانت على النبع. وكم كنت حقيقياً وصادقاً حين قلت: قنصتُ البشر، وقنصتني امرأة من البشر . كلانا، يا دغمش، وقع في الورطة نفسها، دعنا نبتسم من المهزلة، من الورطة، من البهدلة، فإذا ابتسمنا سرّينا عن نفسينا، وإذا ضحكنا تعافينا، فليس مثل الضحك مجلبة للعافية..
(…)
قال دغمش بحسم:
– أنا لا أستطيع أن أضحك!
قال الحكيم:
– 
بلى! ستستطيع في المستقبل أن تضحك من هذه المهزلة ونذالة الأيام! .
– 
أما أن الأيام نذلة فهذا صحيح، وأما أنا، دغمش، أضحك من النذالة، فهذا فوق إرادتي، إنني خلقت لمحاربة النذالة، وسأفعل..
أضاف وهو يشعل سيجارة:
– 
قل لي، يا حكيم، الذئب الأسود حقيقة أم وهم؟
قال الحكيم:
– الاثنان معاً.
زمجر دغمش:
– كيف هذا، الاثنان معاً؟
قال الحكيم هادئاً مبتسماً:
– الاثنان معاً، وهذا ما ستفهمه مع الأيام.
– 
والذئب، كما في الرمز، هو الفساد كما تقول؟
– نعم!
– لكن هذا الذئب غير موجود في الغابة.
– موجود في الغابة، بين أشجارها، في أدغالها، في طرقاتها، وموجود أيضاً في المدن. إنه يمشي في شوارع المدن، دون أن يراه الناس بعيونهم، بل بشعورهم، يحسّونه بغيضاً، كريهاً، ناهشاً في لحومهم، في خبزهم اليومي، في صحتهم والعافية، وبكلمة: في أرزاقهم التي لا تكاد تسدّ جوعهم، فهم ضامرو البطون، صفر الوجوه، متعبون إلى درجة لا تصدّق، ولكن ماذا يفعلون؟ كيف يرون من لا يُرى؟ الأرقش على حق، الذئاب السود تولد، تتكاثر في القلاع، ومنها تنتشر..
قال دغمش:
– 
إنني، كما تعلم، أكره الأرقش حتى الموت، لكنني معه في أن القلاع هي السبب. لماذا.. لا نهاجم القلاع؟
ابتسم بشير الحكيم دون أن يجيب، دون أن يقول له: هذا سيصير يوماً ما!

أضف تعليق

التعليقات