قصة مبتكر
قصة ابتكار
إيلـــي ويتـنـي
محــلاج القــطـــن
عند تخرجه سنة 1792م، كان جُلّ هَمْ إيلي ويتني أن يعيد المبلغ الذي استدانه لدراسة المحاماة في جامعة يال. إذ إن والده المزارع في ويستبورو- ماساشوستس، لم يكن باستطاعته المساعدة في ذلك. فاضطر للذهاب إلى جورجيا في الجنوب للعمل كمدرس. لكن حظه العاثر منعه من الحصول على الوظيفة. قاده ذلك للتعرف إلى كاترين غرين أرملة بطل الحرب الثورية الأمريكية التي كانت تعيش في مزرعتها حيث تقوم بزراعة القطن. هناك شاهد ويتني معاناة المزارعين لاستخراج ألياف القطن المتداخلة والملتصقة بالبذور. فأخذ يعمل الفكر في ابتكار طريقة أسهل لحلج القطن. مستنداً في ذلك إلى خبرته المبكرة في مهنة الحدادة التي أتقنها وهو لا يزال في سن المراهقة. حينئذ، تمكن بذكائه الحاد وقدرته المبكرة لاستيعاب الأوضاع المحيطة بموطنه الشمالي، أن يعي أهمية التصنيع المحلي في ظل الحظر الذي كانت تفرضه بريطانيا العظمى على التجارة خلال حرب الاستقلال. فتمكن في ذلك الوقت من صناعة آلة بسيطة لصناعة المسامير وكان أول من صنع المسامير ذات القبعات. عند استشارتها بما يفكر فيه من صناعة محلاج للقطن، للحال وافقت غرين وشجعته. ولم تنته بضعة شهور حتى أصبحت الفكرة واقعاً. وانتشر استعمال محلاج ويتني في كافة الولايات الجنوبية كالنار في الهشيم. أدى ذلك إلى ثورة في صناعة القطن أحدثت سلسلة من التفاعلات في كافة أوجه الاقتصاد الأمريكي. ويذهب معظم المؤرخين إلى أن التاثير امتد إلى نظام العبودية التي كان من الأسباب القوية لنشوء الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر. رغم شهرته الواسعة من خلال اكتشافه الكبير، لم يستفد ويتني مادياً من ذلك. فنظام براءات الاختراع كان لا يزال غير متطور ويكتنفه كثير من الثغرات بالإضافة إلى بطء الإدارة في ذلك الوقت. فتمت سرقة هذا الاختراع على نطاق واسع. وقد أمضى ويتني ومن شاركه كثيراً من الوقت العبثي في المحاكم دفاعاً عن حقوقه المهدورة دون جدوى. سنة 1898م عاد إلى موطنه الشمالي خائباً ومديوناً. لكن هذا لم يثبط عزيمته القوية. مرة أخرى أدرك، من خلال إحاطته الشاملة ونظره الثاقب بالأوضاع المحيطة به، حاجة الحكومة الفيدرالية للسلاح الناتج عن خوفها من حرب مع فرنسا التي كانت تعيش عصر الحروب النابوليونية، وأخذ يفكر بطريقة عبقرية جديدة لصناعة هذه الأسلحة. كانت البنادق في ذلك الوقت تصنع يدوياً من قبل حرفيين مهرة واحدة واحدة. فكل بندقية فريدة من نوعها لا يشبه بعضها البعض الآخر. وعلى طريقة القفزة المفهومية، أخذ يفكر ويتني بتطوير نسق جديد لصناعة جديدة تقوم على فكرة ما يعرف باقتصاد السلسلة و«قطع الغيار» التي تطلبت فيما بعد نظام وحدة المقاييس. ذهب إلى واشنطن سنة 1801م والمشروع الجديد جاهز في رأسه بكل التفاصيل. هناك وفي اجتماع ضم الرئيس جون آدم، نائب الرئيس توماس جيفرسون وعدداً من الشخصيات المرموقة، أخذ ويتني يشرح عملياً كيف أن عدة قطع صنعها بنفسه يمكن تركيبها بسرعة وسهولة، ثم تفكيكها وإعادة تركيبها مع قطع أخرى لتُكون بنادق مماثلة. ثم دعا الجمهور إلى أن يقوم بنفسه بهذه العملية. فاندهش الجميع بما شاهدوه وحصل ويتني على عقد من الحكومة الفيدرالية لصناعة 15000 بندقية. وقد أحدث هذا ثورة كبيرة ليس على إيلي ويتني نفسه بل اعتبر بداية الثورة الصناعية في أمريكا. ويعد الإنتاج بكثرة، لقطع متناسخة، بخطوط تجميع، بوساطة ماكينات متخصصة، يعمل عليها عمال غير مهرة، اختصاراً لما بات يعرف «بالنسق الأمريكي». وكان هذا من ابتكار إيلي ويتني.
الابتكارات في عصرنا الحديث، أصبحت شأناً عادياً. بل إنه من غير المألوف ألاَّ تتجدد أسواقنا باستمرار بابتكارات جديدة. فالوفرة في الأدوات التكنولوجية المتجددة أفقدتنا متعة الاندهاش باكتشاف الجديد، وتقدير الإبداع والجهد للوصول إليه. لم تكن الحال هكذا في أواخر القرن الثامن عشر. هذا القرن شهد الانتقال من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة. وتم هذا الانتقال عبر اكتشافات فذة في وسائل الزراعة ومعالجة الإنتاج الزراعي. ومن أبرز هذه الابتكارات محلاج ويتني للقطن. استخراج القطن يعتمد على فصل الألياف عن البذور. وهذا بدوره عمل شاق يتطلب كثيراً من اليد العاملة والوقت. لأن نسائل القطن وأليافه ملتصقة بالبذور داخل كرات القطن. نتيجة لذلك كانت أسعاره مرتفعة والطلب عليه ضئيل. لهذا السبب بالذات كانت زراعة القطن محدودة في جنوب الولايات من أمريكا في ذلك الوقت. فمجمل إنتاج أمريكا من القطن سنة 1790م كان 3130 بالة بحسب دراسة وليام فيليبس من جامعة ساوث كارولينا. لكن عندما طور إيلي ويتني محلاجاً للقطن سنة 1793م ارتفع الإنتاج إلى 16719 بالة سنة 1795م وإلى أكثر من مليون بالة سنة 1835م. وبحلول سنة 1860م كان الجنوب الأمريكي ينتج ثلثي مجمل الإنتاج العالمي من القطن. ويعتقد معظم المؤرخين الاقتصاديين أن هذا المحلاج غيَّر تاريخ أمريكا، ويذهب بعضهم ليقول إنه كان السبب في اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية. إن أول من استعمل محالج للقطن هم الهنود. وكانوا يستعملون أدوات تشبه تلك المستعملة في طحن الحبوب. وهي مجرد أسطوانة حجر أو خشب تدور على قاعدة ثابتة. لكنها كانت صعبة الاستعمال، ومن العسير تجنب طحن البذور. وقد تم تطوير هذه الآلة في القرن الرابع عشر فأصبحت تتألف من بكرتين متقاربتين وكانت تسمى «شاركا». وقد انتشرت في حوض البحر الأبيض المتوسط وانتقلت في القرن السادس عشر إلى أمريكا. يتألف محلاج ويتني من مصفاة تشبه المشط ذات أسنان متجاورة بشكل لا تستطيع بذور القطن النفاذ من خلالها. تُدفع كرات القطن إليها بوساطة ملقم. وتُقابل المصفاة أسطوانة دوارة ذات أسنان مدببة تنتزع نسيل القطن دون البذور. وهذه الأسطوانة الدوارة على تماس مع أسطوانة أخرى تقوم بعمل الفرشاة لتنظيف أسنان المصفاة منعاً للتراكم المعيق للحركة. قبل دخول محلاج ويتني إلى العمل، كان تنظيف رطل من القطن يتطلب عمل رجل لمدة عشر ساعات. بينما المحلاج الجديد كان ينتج 50 رطلاً في اليوم. وجعل هذا الاكتشاف زراعة القطن زراعة مربحة جداً، مما أدى إلى ازدهارها بشكل لم تشهده من قبل. وبينما كان استعمال الألبسة القطنية يقتصر على الميسورين، لتكلفتها العالية، أصبحت الآن بمتناول الجميع. وأدى هذا الازدهار إلى ارتفاع الطلب على اليد العاملة لزراعة وقطاف منتوج القطن مما أدى إلى ارتفاع نسبة العبيد إلى ثلث السكان في الولايات الجنوبية من أمريكا. توافق كل ذلك مع انتشار حركة تحرير العبيد وإلغاء العبودية خصوصاً مع انتخاب إبراهام لينكولن لرئاسة الولايات. وكما كانت الولايات الجنوبية قد أصبحت تعتمد بشكل أحادي على اقتصاد القطن المتوقف بدوره على عمل العبيد، حاولت هذه الولايات الاستقلال للحفاظ على مصالحها فكانت الحرب الأهلية. ويعتقد كثير من المؤرخين أن محلاج ويتني للقطن، لم يغيِّر فقط وجه أمريكا، بل دشَّن عملياً الدخول إلى الثورة الصناعية التي بدورها غيرت وجه العالم.