طاقة واقتصاد

الصمت في زمن الضجيج

  • quiet-book-cover1

حين كان زيج زيجلير، رجل الأعمال المعروف والقيادي الشهير يصرخ أمام آلاف الحضور بصوته الأجش المزعج قائلاً «يجب أن تصمت أحياناً، فلا يمكنك أن تبقى متحدثاً طول الوقت»، كان بعضنا يسخر بل يُقهقه ويهمس قائلاً، ليتك تصمت أنت وصوتك العجيب الذي أصابنا بصداع مزمن!

لكن من أول نظرة لكتاب حمل عنوان «الصمت»، لمؤلفته القديرة سوزان كين ستدرك أن السيد زيجلر كان محقاً، وأن صوته لا بد أن يتحوَّل في ذاكرة قلبك إلى كروان فجأة، وستصرخ .. كم كنت محقاً يامستر زيجلر، ما قلته كان صادقاً جداً لدرجة الألم.

فالكاتبة الماهرة سوزان كين التي نجحت في أن تُلفت الانتباه بدءاً من الغلاف الرقيق مروراً بالعنوان الجذاب، وانتهاءً بمقدمة إنسانية خلاَّبة، لتنجح في أن نقتني مؤلفها الثمين وأن نتصفحه بنهم وننصت لكل حرف فيه حتى النهاية.. بل و تفاجئك بقنابل من الوزن الثقيل، صارخةً.. كن يا سيدي صامتاً فالصامتون هم خير من في هذه الأرض، هم من يصنعون التغيير ويُضيفون كثيراً في عصر الثرثرة.

بيد أن الكتاب ذو الطابع البديع لم يكن هادئاً ولا رقيقاً كما يوحي لون غلافه الأنيق الأبيض.. بل صارخاً صادماً بكل ما يحمله من معلومات ومعانٍ ثائرة على بعض مفاهيمنا البالية. فمن خلال أحد عشر فصلاً مقسمة على أربعة أجزاء تسرد المؤلفة حقائق نتجاهلها في عالم اليوم، عن أسرار الشخصية البشرية، وأنواعها المختلفة، والفرق بين هؤلاء الانطوائيين ومن هم على نقيضيهم المسمون بالمنفتحين. لتذكرنا أن الانطوائية والعزلة ليست داءً بل قيمة لا نعرف مقدارها، وأن الصمت ليس عيباً بل ميزة نتجاهلها في مجتمعاتنا المتعطشة للثرثرة.. هذا على الرغم من أن ثُلث العالم هم من هؤلاء الانطوائيين الذين غيروا العالم وأثروا الأرض بمن عليها.

ففي الفصل الأول سردت المؤلفة صفحاته تتحدث بإسهاب عن خيالنا الجامح الذي يجعلنا نعتقد أن المنفتحين هم المثاليون وقد أصبحوا أبطالاً في ثقافتنا وفكرنا دون سواهم، مما دفع أغلبيتنا لأن يُحاول جاهداً كي يصنع من كل شخصية انطوائية حوله، أخرى ثائرة، منطلقة .. متناسين أن لتلك الفئة قوتها وبصمتها.

أما الفصل الثاني، فكان يدور حول السؤال الأهم: من تكون، وما هي حقيقتك البيولوجية ومدى تأثيرها في مشوار العمر، وكيف أن معرفتك لنفسك تُمثل أول خطوة في تحديد دائرة راحتك وبالتالي إنتاجك. ليأتي الفصل الثالث، متضمناً الإجابة عن سؤال مهم جداً: هل تملك كل الثقافات في قاموسها التقدير لذلك المنفتح المنطلق المثالي أم تختلف الرؤية من عالم لآخر، ليطرح الفصل الرابع، التساؤل الأهم، كيف يُمكنك أن تحب وكيف تعمل بإتقان، ومتى تتعامل وتُظهرها في شخصيتك دون أن تُبالغ بنوعك وتصنيفك، وكيف تبقى صامتاً في عالمٍ لا يستمع إليك ؟!

في عالم لا يتوقف عن الكلام، ولا يُقدّر الصمت ويُصفّق دائماً لمن يهذر أكثر، تكتب سوزان كتابها، وتذكرنا أن مجتمعاتنا تتجاهل كثيراً هؤلاء الصامتين، فهم في نظرهم بلا قيمة، وقد أصبحت الانطوائية والميل إلى السكوت مرض يتنصّل منه البعض، بل إننا مازلنا نمقت مجالستهم ونتهرَّب من مرافقتهم حتى وإن لم يكونوا معنا، استحضرنا سيرتهم واغتبناهم بكل ما لذ وطاب، ليظلوا مادة ثرية للسخرية التي لا تنتهي، مما دفع كثيرين ممن يُفضلّون العزلة إلى التظاهر بالانطلاق ، وكأنها تُهمة تستوجب النفي بسبب سوء تقدير من حولهم لهم، بعد أن تجاهلنا أن أبرز أسماء قائمة المبدعين والمفكرين، هم من تلك الفئة النادرة التي تعمل أكثر مما تتكلم.

لذا مع كل صفحة كنت أبتسم، مستحضراً مواقف نمر بها في اليوم والليلة ألف مرة بشرقنا البائس. تذكرت تعليقاتنا التي نكف عنها مع قدوم أي حدث سياسي أو اجتماعي، وكأن البعض يُصر أن يترك بصمته الواهية من خلال صوتٍ عالٍ بلا علم ولا معرفة. وكأن الحياة بأسرها تحوَّلت إلى مباراة كرة قدم، وأصبح كل فرد منّا مُعلّقاً على لقطة عن علم أو جهل، لا يهم كثيراً .. فقد تناسينا أن هذا هو الضجيج الذي يقتل!

يقول زيجلر في محاضرته الشهيرة جملته المدوية التي أطلقها ورحل في صمت كعادته: ثُلث ما يتعلمه حاملو درجة الدكتوراة من علم يأتي من خلال دراستهم الأكاديمية فقط، أما الباقي فيكون حصيلة التأمل والمراقبة خلال سنوات عمرهم الباقية. لذا فليس كل متعلم مفكِّر.

وأنا أقرأ كتاب «الصمت» وأسترجع صوت زيجلر الذي لم تخفت رخامته في أذني، كانت ملامح معلمينا تحوم في الذاكرة على الرغم من أننا بلغنا من العمر مبلغه.. مازالت كلمات خطتها أنامل مفكرينا محفورة على جدران القلب تنهانا وتأمرنا.. بوصلة طريق تدلنا على النور حين يضيق بنا السبيل أو تتعثر الخطى وتفوح رائحة الظلام فتزكم أنوفنا المشتاقة لنسيم الحرية .. بقيت بصمات أساتذتنا ولم تنل منها عوادي الزمن .. وبقيت ابتسامتهم ربيعاً لا ينتهي ..

في كل مكان ستجد من يُزايد ويُضيف صوته وإن كان نشازاً عن جهل بلا علم أو دراية، ستجد من يُغني علينا ويُشوش على أفكارنا ويُحاول جاهداً أن يترك فضلاته هنا زاعماً أنه يبني وهو في الحقيقة يهدم .. فليس كل صوت يُخلد وليس كل من قال آه أطرب ..

ليس بالصراخ يُنقش الأثر .. أطرب بصمتك وامض، لا تضف رتوشاً على اللوحة كي تثبت وجودك، فالصوت العالي لم يكن أبداً دليل حضور وإنجاز .. كن على المنصة ولا تكن في الهامش وهذا لن يحدث صدفةً ولا بصرخة تائه ولا بافتعال المعارك وإحداث الضجيج، إنما بجهد وعمل وكفاح يليق بحلمك..

تعيش الكلمةُ الصادقة ويُخلد صاحبها، يبقى في وجدان الناس ويسكن ذاكرة قلوبهم، الضجيج الكاذب ربما يبقى لكن سيظل ملعوناً مُهمشاً في زاوية كئيبة .. سيعيش نكرة ويمضي نكرة .. ويموت في جوف الفراغ سراباً بلا معنى..

زي زيجلر وسوزان كين، يقولان لك، إن الصمت أحياناً كثيرة يكسب، وأنه العامل الأهم في نجاحك، لأنك لا تستطيع أن تكون طيلة الوقت على المسرح والناس تُصفق لك، فخلف كل صفحة ألف ساعة تحضير وضغط وبحث، ووراء كل ساعة شروق، ومعركة ليل هادئة ينتصر فيها الفجر الحكيم. الإنجاز لن يولد في الضجيج بل تتشكل ملامحه وسط غابات من الصمت ومن السكون، والانطوائية ليست عيباً، بل دليل نبوغ في أحيانٍ كثيرة.

راقبوا من تحبون فإن لمحتم سمة صمتٍ لا تؤلبوهم ولا تُقيموا الدنيا على رؤوسهم ولا تُقعدوها، ولا تندبوا سوء حظكم، ولا تنزعجوا بل زيدوا صمتهم صمتاً وكُفوا ألسنتكم عنهم .. فأجمل الإبداع يولد من رحم السكون الجميل. ألم يقل أستاذنا الراحل عبدالوهاب المسيري، رحمه الله: «لا أقبل شيئاً على علاته، وهذا ما أصابني بداء التأمل»، لولاها ما كان.

كتاب «الصمت»، كتاب حياة. يجعل كل ما فيك ثائراً على الرغم من كل دعوات السكوت التي تمتلئ بها أركانه. كتاب يجب أن نقرأه جميعنا، كل أب وأم، كل مسؤول، بل كل إنسان .. كتاب ثري في طرحه، يقول لك في جملة ونصف .. كلما زاد الضجيج حولك، تعلم أن تصمت بوعي … حتى تتعلم أكثر، وتتأمل أكثر، حتى تنتج شيئاً وتترك بصمة مختلفة في هذا العالم المجنون الذي لا يكف عن الدوران. أمّا في ختامه، فكانت عبارة جميلة .. الحُب شيء أساسي في حياتنا، لذا لا تهتم كثيراً بأن تكون نجماً اجتماعياً يُشار إليه بالبنان، فقط كن دائماً بقرب من تحب، ومن تأنس روحك بمجاورتهم فهم أغلى ما في الحياة .. واحرص على أن تسكن في دائرة راحتك حتى تُعطي بتميز دون توقف، حتى النهاية.

درسٌ ثمين تختم به السيدة سوزان كتابها، وكأنها تذكرك أن الاختلاف واردٌ جداً بل واقع، لكن ليس المطلوب منك أبداً أن تكون مثل غيرك، بل إن السرَّ يكمن في أمر واحد .. أن تعرف نفسك جيداً، ومن ثمّ تضعها في المكان المناسب وبالتالي تُنتج وتُبدع .. وتُحلّق.

أضف تعليق

التعليقات