قول في مقال

لو كان الحديث عن «التعليم العربي» ممكناً
كلٌ يُعلِّم على ليلاه

هل يمكن الحديث عن التعليم في البلاد العربية كقضية واحدة؟ أم أن الوقائع وتعدُّد التحديات واختلافها ما بين دولة وأخرى هي أكبر من أن تُجمع في صورة واحدة؟ سؤال يطرحه عبود عطية على هامش قراءته لموضوع (التعليم عربياً وعالمياً.. بين سندان الجودة ومطرقة المستقبل) المنشور في العدد السابق، ويحاول هنا تسليط الضوء على حالة التشظي التي يعاني منها التعليم على المستوى العربي، ببعض ما فيه من منجزات متفرقة، وتحديات مشتركة.

عندما يستطلع المرء أحوال التعليم في البلاد العربية يصطدم بكمية هائلة من الأرقام والنسب المئوية والمعطيات المتبدِّلة تبدلاً كبيراً ما بين الدول العربية، وحتى ضمن الدولة الواحدة، بحيث بات من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، الحديث عن «التعليم عربياً».

ومما يزيد من صعوبة قراءة واقع حال التعليم في البلاد العربية، هو أن الأرقام نفسها تبدو قابلة للقراءة في اتجاهات متناقضة. ولكن تحت هذه الأرقام تستتر نوعية جديدة من التحديات ذات طبيعة اجتماعية بالدرجة الأولى، تليها تلك المرتبطة بالمناهج. ولربما كانت هذه التحديات الخطيرة هي وحدها المشتركة التي يواجهها التعليم في مختلف الدول العربية، أو في معظمها في أحسن الأحوال.

الأمية مثلاً
إن قياس مستوى الأمية في مجتمع ما لا يكفي لوحده لأن يختزل كل أحوال التعليم ونوعيته وجودته في هذا المجتمع. ولكنه يبقى مؤشراً واضحاً لأحوال هذا المجتمع ككل. فماذا تقول التقارير بشأن مستويات الأمية عربياً؟

استناداً إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، بلغت نسبة الأمية في البلاد العربية عام 2013م حوالي 27 في المئة من إجمالي عدد السكان. وفي هذا تحسن ملحوظ، يقول المتفائلون، عما كانت عليه الأحوال سابقاً. إذ إن نسبة الأميين في العام 1970م مثلاً كانت تصل إلى حوالي 70.7 في المئة. ولكن، عددياً، تبدو الصورة معاكسة تماماً، إذ إن عدد الأميين ارتفع من 50 مليوناً عام 1970م إلى 70 مليوناً في وقتنا الحاضر. والسبب بسيط جداً. وهو أن استراتيجيات محو الأمية وخططها التنفيذية لم تلحظ النمو السكاني، أو لحظته ولكنها لم تتمكن من التعامل معه.

وفي حين أن بعض الدول العربية استطاع أن يكافح الأمية بفاعلية، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، حيث انخفضت نسبتها من 60 في المئة قبل أربعة عقود إلى نحو 4 في المئة في الوقت الحاضر، فإن الأمية عددياً لا تزال مخيفة في أماكن كثيرة مثل مصر حيث يوجد نحو 17 مليون أمِّي، يليها السودان فالجزائر فالمغرب فاليمن.

ويلخِّص تقرير «الألكسو» حال الأمية في البلاد العربية بالقول إنه ثاني أسوأ واقع حال بعد إفريقيا (جنوبي الصحراء الكبرى). ولكنه يضيف أن الجهود الجارية في إفريقيا في مجال مكافحة الأمية، قد تجعلها أفضل حالاً من البلاد العربية بحلول العام المقبل 2014م، التاريخ الذي سيصبح فيه العرب ذوي أعلى نسبة أمية في العالم.

ولعل الأسوأ في كل ما تقدَّم هو أن تقرير «الألكسو» قائم على أقدم وأبسط مفهوم للأمية، القائل بأنها «عدم القدرة على قراءة وكتابة جملة بسيطة». وهو مفهوم تجاوزه الزمن في الدول المتطورة، ليحل محله مفهوم أكثر تطلباً، يحدد الأمية تارة بعدم إكمال التعليم العام، وتارة بعدم الدراية باستخدام الكمبيوتر وغير ذلك.

صحيح أن الأمية هي مشكلة اجتماعية موروثة، وشبه مستقلة تماماً عن قضايا التعليم الأخرى ونوعيته وكل ما تطرحها مناهجه من أسئلة. ولكن في ثنايا هذه القضية تختبئ مؤشرات تمس حال التعليم عموماً. إذ يشير التقرير نفسه إلى أن عدد الأطفال العرب الذين لم يلتحقوا بالدراسة في العام 2011م بلغ 6 ملايين و188 ألف طفل، وأن نسب التوقف عن الدراسة في المرحلة الابتدائية تتراوح بين 7 و20 في المئة في الدول العربية، وترتفع في بعضها حتى 30 في المئة، الأمر الذي يقودنا إلى التوقف أمام علاقتنا بالتعليم بشكل عام.

تشظي التعليم
فصل حلو، فصل مرّ
عندما نتطلع إلى الصورة العامة للتعليم في البلدان العربية خلال العقود الخمسة الماضية مثلاً، نجد أنفسنا، ومهما بلغت سوداويتنا، مضطرين إلى الاعتراف بأن هذه الصورة تحتوي كثيراً من الإيجابيات والمنجزات التي تستحق الاحتفالات التكريمية عن جدارة.

فأعداد المدارس صارت شبه كافية لتعليم الجميع في معظم البلدان العربية، وإعداد المعلمين صار أفضل من السابق (حيث لم يكن هناك أي إعداد)، وفيما تمضي الحكومات بإنشاء مزيد من المدارس، يخوض المربّون والمعلمون نقاشات (متفاوتة العمق) حول مناهج التعليم ووجوب تطويرها، بحيث يمكن لزائر أية مكتبة تجارية أن يجد خزانة كاملة تملأها الكتب التي تتناول قضايا التعليم ومناهجه في الدولة الواحدة. الأمر الذي يؤكد أن قضية التعليم هي، ولحسن الحظ، قضية حية تشغل البال.

وفي خضم هذه القضية، يمكننا أن نجد منجزات ضخمة ما كان لأحد أن يتخيلها قبل عقود محدودة. ففي المملكة، التي نعرف أحوالها عن كثب أكثر من غيرها، يقف برنامج الابتعاث الجامعي العملاق الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين إلى جانب تطوير الصروح التعليمية الوطنية (جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وغيرهما من الجامعات الجديدة والمدارس والمعاهد التقنية..) كشواهد على السعي إلى دفع التعليم قدماً إلى مستويات غير مسبوقة في البلاد العربية.

ولكن المثل السعودي هو أبعد ما يكون عن التعميم عربياً. ففي مصر مثلاً، ثمة شكوى تعود إلى نحو ثلاثة عقود خلت وعنوانها «عودة الكتاتيب» إلى الظهور، وهي عودة يغالي البعض في تقدير حجمها، حتى الوصول إلى الحديث عن «ازدواجية التعليم»، وانهيار النظام الموحد الذي وضع أسسه طه حسين.

وفي لبنان العريق تعليمياً، نجد هوة تتسع باستمرار ما بين التعليم الرسمي والتعليم الخاص. فمقابل الركود الذي يميِّز الأول، أو التطور الذي لا يمكن ملاحظته لبطئه، بدأت بعض المدارس الأهلية الخاصة مثلاً (مثل الإنترناشيونال كوليدج)، التحضير لإلغاء الكتب والدفاتر الورقية تماماً بحلول العام 2017م، واعتماد اللويحات الإلكترونية محلها. وهي تُعد العدة لذلك منذ الآن، من خلال برامج تحضير المعلمين لذلك.

فما الذي نستخلصه من كل هذه المتناقضات؟
إن التعليم في البلاد العربية يعاني التشظي. فبموازاة بعض الجهود الضخمة (حكومية غالباً في دول الخليج العربي وأهلية خاصة في غيرها) لدفع عجلة التعليم إلى الأمام، نلحظ استسلاماً ولا مبالاة وعجزاً في بعض الدول، أو عند شرائح أو جهات محددة ضمن الدولة الواحدة التي لا تدرك خطورة هذه القضية على مكانتها ومستقبلها.

إن الخروج من حالة التشظي هذه ممكن نظرياً فقط من خلال وضع استراتيجية عربية موحدة في إطار جامعة الدول العربية تلتزم بها كافة الدول، بحيث تتوحَّد جهود الحكومات وتحدد، كما تحدد مساحة التحرك للقطاع الخاص والتعليم الأهلي. ولكن في ظل الانقسامات السياسية، وتفاوت القدرات المادية على تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية، فإن الأمر سيبقى عملياً أقرب إلى الأمنية منه إلى المشروع الفعلي.

هل فقد التعليم بريقه؟
إن الرهان على عامل الزمن لكي يأتي بحلول سحرية للمتاعب التي يعاني منها التعليم عربياً هو رهان خاسر. صحيح أن سياسة «تدبير الحال موضعياً» يمكنها أن توجد بعض الحلول هنا وهناك. ولكن علينا أن نلحظ أن استعدادات المجتمع للتجاوب تضعف باستمرار. ففي نظرة المجتمع بأجياله الصاعدة إلى التعليم يكمن الخيط الرفيع الذي يفسِّر كل هذا التشظي والمعطيات المتناقضة التي أشرنا إليها سابقاً.

فلو أخذنا الحالتين السعودية واللبنانية (لأننا نعرفهما أكثر من غيرهما بحكم المعايشة)، للاحظنا أن أهمية التعليم فقدت شيئاً من بريقها بالنسبة إلى الجيل الصاعد اليوم، مقارنة بما كان عليه هذا البريق قبل نصف قرن.

فالذين شكَّلوا جيل الآباء قبل نحو نصف قرن في المملكة، كانوا في معظمهم ممن لم يحظوا بنصيب وافر من التعليم، ولكنهم لحظوا أهميته من خلال نمط حياة المتعلمين وقدراتهم. فسعوا جاهدين إلى تعليم أبنائهم، لأن العلم بدا لهم المخرج الوحيد من متاعب الحياة اليومية الصعبة بما فيها من فقر وقلة رفاهية. ولكن دور العلم الإنقاذي هذا يبدو غير مفهوم تماماً بالنسبة إلى الذين هم اليوم ما بين العاشرة والخامسة والعشرين من العمر. الذين تفتحت أعينهم في محيط مفعم بوسائل الرفاهية والترفيه. وبالتالي، مهما بلغ اعترافهم بأهمية التعليم في حياتهم، فإنه لن يصل إلى مستوى «قضية حياة أو موت» كما كان بالنسبة إلى آبائهم.

وفي لبنان، تزداد هذه الصورة السلبية وضوحاً. فبعض النجاحات التي حققها أفراد جمعوا ثروات طائلة من خلال الخدمات أو التجارة من دون الاتكال على العلم أو التخصص الجامعي، رسمت في أذهان الشبيبة مفهوماً يقول إن الطريق إلى الثروة لا يمر بالتخصص الجامعي. ولأن الجميع في سباق إلى الثروة والتفوق، صار الكثيرون يتطلعون إلى التعليم والتخصص الجامعي وكأنه مجرد معبر يجب اجتيازه بسرعة للوصول إلى.. جهة مجهولة.

إن فقدان العلم لبريقه هو مع الأسف واقعة لا بد من الاعتراف بها. أليس هذا ما يفسِّر من جهة دفع الفتية إلى سوق العمل بدلاً من المدارس ليرتفع بذلك عدد الأميين أكثر فأكثر؟ أو ليس هذا ما يفسِّر أيضاً كون معظم المنجزات في قطاع التعليم هي حكومية أو شبه حكومية في معظم الأحيان، وغياب المجتمع الأهلي عن هذا الشأن غياباً شبه تام؟

أضف تعليق

التعليقات