بسم الله الرحمن الرحيم: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) صدق الله العظيم.
لم يعرف التاريخ الحديث هجوماً على الإسلام، وخلطه بأعمال بعض المسلمين، كما يشهد اليوم، وليس كل ما نراه أو نسمعه تجنياً مباشراً وغير موضوعي، فبعض الأعمال التي يرتكبها بعض المسلمين، باسم الإسلام يندى لها جبين الإنسانية، كالقتل المروع والمتعمد للآمنين، أو العبث بأمن الأوطان. وليس من العقل القول إن كل “الآخرين” خصوصاً في الغرب لا يفرق بين تلك الأعمال كونها لقلة، وبين الدين الإسلامي في صفائه ورحابته وإنسانيته التي أبقته، ولا يزال محط اقتناع لملايين من البشر هم على الأقل سدس المعمورة، إلا أن الكثرة منهم يحملون الإسلام خلطاً ببعض أعمال المسلمين كل الصفات السلبية، يغذيها إعلام من جانبنا العربي، ومن جانبهم الغربي يساعد بالصورة، بالصوت مثل هذه الصورة المشوهة.
يحضرني في هذا المقام فكرة أوردها رئيس تحرير مجلة نيوزويك المشهورة، بعد مقابلة مع الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد في المملكة العربية السعودية، ظللت أرددها لأصدقائي. كانت وقتها القضية المثارة بشدة هي تعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب المشهور, وقال ولي العهد لرئيس التحرير كما نقل الأخير: “نحن نعرف أن الشعب الأمريكي معظمه محب للسلام وخيّر بطبعه، ولكن مجموعة صغيرة أساءت التصرف بحمق ففعلت ما فعلت في أبو غريب، ونرجو أن تفهموا أيضاً أن ما حدث من بعض المسلمين وتحت راية الإسلام من إرهاب سواء على الأرض الأمريكية أو غيرها، كما أصابنا، لا يمثلون لا الإسلام ولا المسلمين”.
هذا المنطق استوقفني لأن له عدداً من المميزات العقلية، أولها أنه (لا تزر وازرة وزر أخرى)، وثانيها أن الاعتراف بأن هناك مجموعة ضلّت أو ضلّلت وهي من بين ظهرانينا، يعني من ضمن ما يعنيه، أنه يجب على مؤسساتنا أن تعيد النظر في كيف تكوّن هذا الفكر الذي قاد إلى ما قاد إليه من أعمال كلفت شعوبنا حتى الآن الكثير. أن تكون مسلماً اليوم بعد كل “البروباجندا” الضخمة والمضادة، فيه الكثير من التحدي، لأن “الإسلام” خلط في ذهن الكثيرين في الغرب بمجموعة من السلوكيات اختصروا فيها الإسلام.
ترى أين حصل الخطأ في كل ذلك؟
على عكس ما قدمه بعض الفكر الغربي في تبرير السياسة، وعلى رأسها ميكافيلي في كتاب الأمير، أن الغاية تبرر الوسيلة، تقول مبادئ المسلمين الثابتة “إن الوسيلة جزء من الغاية”، فلا يجوز أن تكون الوسيلة مهما كانت الغاية وسيلة سلبية أو رديئة، كالقتل المتعمد للآمنين في مكاتبهم أو في أسواقهم أو منازلهم أو وسائل النقل العامة أو الخاصة.
إن كانت هناك غاية فيجب أن تكون غاية نبيلة، ويتوصل إليها بالطريقة نفسها، أي بطريقة نبيلة أيضاً. فالحرب، حتى الحرب، لها قوانين وأعراف وأولويات.
لقد تم في حقيقة الأمر “تثقيف” خاطئ لفترة طويلة في مؤسساتنا التعليمية ووسائل إعلامنا، وما زال بعض هذا التثقيف قائماً حتى يومنا هذا، ويحتاج أولاً إلى شجاعة ومن ثم إلى جهود مخلصة لتنقية هذا التثقيف السلبي، الذي تبناه الكثيرون وأمعنوا في تقديم التفسير السلبي إلى درجة أخرجتهم عن الجادة.
لقد قدم التاريخ الإسلامي الإنساني في عصوره المختلفة لناشئتنا، كما قدم ويقدم لمشاهدينا على أنه عصر مزدهر لا تشوبه شائبة، وهو عصر عظيم تحققت فيه المعجزات الإنسانية والعلمية، ذلك العصر “الذهبي” الذي رسخت صورته في الأذهان، جاء من يؤكد للناشئة اليوم أنه يمكن أن يعود من جديد!
حقيقة الأمر أن العصر الذهبي هو في المخيلة أكثر منه في الحقيقة، لأن العصر يكون ذهبياً بقدر ما يفكر الإنسان ويعمل ويجتهد في الحياة، وهو أمر لا يمكن حتى وإن وجد أن يعود من جديد، لأن الظروف الإنسانية و المادية قد اختلفت تماماً عما كانت عليه. وبدلاً من أن تقدم للناشئة و الجمهور الحقائق كما هي، وسبل تطوير مجتمعاتهم بالعمل الجاد والعلم النافع، رُسِّخ في أذهانهم أن البشر السابقين هم “ملائكة” والعياذ بالله، وأصبحت بعض نصائحهم وأقوالهم تضاهي الراسخ وغير المتغير، في الوقت الذي يعرف المسلم السوي أن كلام البشر، هو كلام البشر، يصح أن يؤخذ منه ويجاب عليه، والأصل هو في محكم الكتاب وما عرف من سنن الرسول الكريم، وكلها تدعو إلى الخير والمحبة و”الدعوة بالحكمة” لا بالفظاظة والعنف الأعمى.
لقد ساد في ذهن الكثيرين خاصة في الغرب اليوم أن المسلمين “يأتي عملهم شاذاً وعنيفاً”، وهي صورة تزداد عمقاً كل يوم بسبب أولاً الأفعال الشاذة من البعض، وثانياً أن أعداء لهم مصالح في الضغط على جروحنا، يروجون لهذه الأعمال على أنها نابعة من مواقف ثابتة في ثقافتنا الإسلامية.
ينسى البعض أن يرى الصورة الأخرى والمتسعة، ينسى مثلاً أن المسلمين عدداً في تزايد، وأن الإسلام كدين يقبل عليه في القارات الخمس، وهو كما تقول لنا الإحصاءات التي لا تكذب إنه أكثر الأديان نمواً بين البشر، وتنسى هذه أيضاً أن “المؤسسات الإسلامية الاقتصادية” هي من أوسع المؤسسات نمواً وإقبالاً عليها من الجمهور الدولي.
أن تكون مسلماً اليوم هو أن تكون في وضع صعب، لكنه وضع يحفز على أن نقدم الإسلام قيماً وعملاً كما هو وكما يجب أن يقدم، وهو أمر يضاعف مسؤولية المسلم باتباع طرق العلم الحديثة، وبإصرار أن الدين ثابت وله قواعد في العبادات غير متغيرة، وهو يحثنا بكل قوة أن ننظر في المعاملات (لأنكم أعلم بشؤون دنياكم)، وهي معاملات لها قواعد أخلاقية، منها الرأفة و التسامح والدعوة بالحسنى، وفوق ذلك كل أعمال العقل، المرشد الإنساني الذي أفاض الإسلام في إعلاء شانه.
ليس سهلاً ولا بسيطاً أن نقوم بذلك، لأن التشدد قد ترك يرعى في عقول الشباب فأسمن، ولأن التقاعس قد أخذ حيزه في فكرنا، فأصبح القول الشائع إننا متبعون ما قيل بصرف النظر عن تكييفه وإعمال العقل فيه.
إلا أن الإسلام كدين وطريقة حياة يعتنقه أكثر من بليون إنسان على الأرض اليوم، وهو من الأديان السماوية التي يعترف بها حتى مناهضوه، فقط علينا نحن المسلمين أن نكون جادين في أعمال العقل في شؤون حياتنا.