الرحلة معا

لماذا نُهزم على جبهة السلامة المرورية؟

إذا كان العالم يدخل حروباً ويخرج منها منتصراً أو مهزوماً، فإننا ندخل منذ عقود من الزمن حرباً وحيدة نعرف كل أسبابها، ونعرف كل نواحي الظفر بها لكننا نخرج منها مهزومين دائماً.. وربما بالضربة القاضية..!

لنقل إنها حرب، هكذا قالت ريم أكبري، الأستاذة في كلية الهندسة بجامعة البحرين، وهي تعبر عن فجيعتها بما يحدث على طرقنا السريعة وداخل أحيائنا السكنية، فهناك 6500 نسمة يموتون كل عام، وأكثر من 36000 إصابة بين شديدة ومتوسطة وبسيطة، فيما يحتل مصابو الحوادث المرورية أكثر من 30 % من أسرّة المستشفيات.. هذه المعلومات المجردة من كل عاطفة لا تتضمن بالتأكيد جبال الآلام وأصناف المعاناة النفسية والعاطفية التي يتكبدها ذوو المتوفين والمصابين، وقد تصيب بعضهم بعاهات نفسية وعصبية لا يبرأون منها مدى حياتهم. وقد بينت بعض الدراسات أن ضروب تلك المعاناة يمكن قراءتها مالياً وبذلك فإنها تضيف هدراً اقتصادياً غير منظور.

أغلب البيانات عن الحالة المرورية التي تعيشها بلادنا شفافة، والحقيقة أن حجم ما يكتب وينشر من مطبوعات ونشرات وبوسترات في سبيل التوعية المرورية هو ضخم قياساً بالنتائج المتوخاة التي لم يتحقق منها سوى القليل حتى هذه الساعة، وهذا ما يجعل كل عائلة تعيش حالة استنفار دائم. فما أن يغادر الأبناء أو البنات منازلهم حتى تبدأ علامات القلق والوساوس، وسواء كان الأبناء يقودون سياراتهم أو أنهم بصحبة زملائهم أو مع سائقينا المستقدمين فإن هاجس السلامة يندلع بمجرد سماع سيارات الطوارئ أو الإسعاف العابرة من شارع بعيد أو قريب..! هناك إذن رعب يخيّم فوق كل بيت، فهل تنفع الندوات والمؤتمرات في التقليل منه؟!

في الدمام، انعقد أول ملتقى للسلامة المرورية (12-13 ديسمبر 2011م) لدراسة كل قضايا وشؤون السلامة المرورية. كان الملتقى ثرياً وقدم جملة من الأبحاث المهمة التي درست بعلمية ومنهجية واضحة كل ما يتعلق بالأزمة المرورية لا في المملكة فقط، بل في دول عربية عدة. وكان لافتاً أن القاعة التي نظم فيها الملتقى قد احتشدت طيلة يومين بحضور كبير بينهم رجال أمن وطلاب وموظفون وموظفات ومهتمون ومهتمات بالشأن المروري، وهو حضور جسّد القلق وأحياناً اليأس من تردي الحالة المرورية.

بدا الجميع وكأنهم يبحثون عن خشبة إنقاذ.. عن أمل أو ما يشبهه..! هناك ورقة مهمة تضمنت خطة استراتيجية وطنية للسلامة المرورية، أتت من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وقدمها د.عبدالرحمن العبدالعالي. الورقة مكثفة وشاملة ناقشت مشكلات الوضع الراهن بما فيها الأنظمة والتشريعات المرورية ونقاط الإخفاق، والسلوكيات المرورية، وضعف الخدمات الإسعافية والعلاجية، ووضعت الحلول التي لن تتمكن إدارات المرور وحدها من تحقيقها بل بمؤازرة الإدارات الأخرى كأمن الطرق والنقل والبلديات والصحة، يضاف إلى ذلك الدور التوعوي الذي يلزم وزارتي الإعلام والشؤون الاجتماعية القيام به.

الشراكة مع مؤسسات خدمة المجتمع بما فيها القطاعان التجاري والاقتصادي ينبغي أن تضطلع بجزء من هذا الحل، وهناك ورقة من جامعة كراتشي قدمت نموذجاً للشراكة بين القطاعين العام والخاص بما فيها الشركات المصنعة (أو المستوردة لها كما في حالتنا)، فكل هذه الجهات أطراف فاعلة في العملية المرورية، وعليها أن تدفع حصتها مادياً ومعنوياً لمواطني بلدها.

في هذا السياق، فقد تدخل شركات الاتصالات مستقبلاً في صناعة الحل بحيث تسخر بعض فوائضها المالية في خدمة السلامة المرورية، فقد أظهرت دراسة أن 70-%80 من السائقين في الولايات المتحدة يستخدمون هواتفهم الجوالة في أثناء القيادة. وقد تفوق هذا العنصر على العناصر التقليدية التي تصرف انتباه السائقين عن القيادة. وأمام هذه النسبة في دولة متقدمة فإن علينا أن نخمن نسبة استخدام الهواتف الجوالة بين سائقينا؟!

هناك إحصائيات عديدة حفل بها الملتقى وكشفت عن أزمة سلامة مرورية حقيقية لكن أكثرها ألماً هو: أن حوالي %80 من ضحايا الإصابات المرورية تقع في الفئة العمرية (20-30 سنة)، وأن %48 من مجمل الإصابات في المملكة هي إصابات تقع على الطرق والشوارع داخل المدن وخارجها، وأن الحالة الطبية الإسعافية لمباشرة الحوادث ضعيفة، وأن النتيجة المفجعة لهذا الضعف هي أن %90 من المصابين يتعرضون للوفاة في موقع الحادث، ومجمل الحوادث السنوية (التي تعد الأعلى عالمياً) تخلف 12000 حالة وفاة ونحو 33000 إعاقة دائمة، وأنها تقتطع من اقتصادنا الوطني 21 مليار ريال سنوياً، أي ما نسبته %4 كفاقد، وهذا نزيف اقتصادي ضخم حين نقارنه بالنسب المماثلة في الدول الصناعية التي لا تتجاوز 5،1 %.

إلى أين نسير إذن والإحصائيات التي بين أيدينا تشير إلى أن كل الأرقام التي أوردتها للتو هي مرشحة للازدياد؟
الأرجح أننا لن نتقدم في هذا السجل إذا لم تقنع كل الجهات الرسمية والخاصة وأفراد المجتمع أننا أمام تهديد وطني، وأن هناك حاجة إلى تغيير ثقافتنا حول المسألة المرورية كلها، هذا التغيير لا بد أن يبدأ في مراحل الدراسة الدنيا ويتقدم عبر المراحل الدراسية العليا. أيضاً فإن على البرامج الاستراتيجية المرورية أن تضع أهدافاً واضحة وخططاً زمنية محددة تقلص فيها الخسائر البشرية والمادية. وهنا يلاحظ الباحث حسن الأحمدي أن معدل وفيات الحوادث المرورية في المملكة يفوق جميع الدول المقارنة، ويستشهد بكوريا الجنوبية التي كان معدل الوفيات فيها في عام 1999م (2،23) وهو رقم مقارب لمعدل المملكة (4،24)، لكن خطتها الصارمة لخفض وفيات الحوادث أفضت إلى خفض معدل الوفيات ليصل إلى (2،13) أي بما نسبته %40، فيما زادت النسبة في المملكة لتصل إلى (2،25).

وإجمالاً لا بد أن يتبدل فهمنا لمسألة الوقت ووظيفته والتخطيط له في حياتنا اليومية فنحن لا نعرف لماذا نبدد الساعات الطويلة أمام التلفاز أو الإنترنت لكننا نبخل بها حين يتعلق الأمر بحياتنا وحياة أجيالنا وأمنهم الشخصي في الشوارع والطرقات..!

والخلاصة أن الجميع ينشد الحل.. لكن الإحصائيات تشير إلى أنه ما زال عسير الولادة..!
رئيس التحرير

أضف تعليق

التعليقات