الثقافة والأدب

جوليان بارنز..

الإحساس بالنهاية

  • 175718-julian-barnes

«المتحذلق في المطبخ» هذا هو عنوان الزاوية الأسبوعية التي يكتبها الروائي جوليان بارنز في صحيفة الغارديان. وفيها يثرثر بفكاهة عن جو المطبخ دون أن يقدم وصفات لوجبات حقيقية. المتحذلق الأسبوعي أمام القراء.. قدم وجبة دسمة من اللغة والأفكار والأحاسيس في روايته الأخيرة. عبير الفوزان تقدم على هذه المائدة وجبة خفيفة، غير متحذلقة، عن جوليان الماهر في طبخ النهايات.
يرى جوليان أن الكتب مثل الحيوانات بهيكلها الخارجي. تتكون من جسم ورأس وذيل وعلى المؤلف أن يؤلف ما بينها. ليخلق العمل الجميل المتناسق
كيف لك أن تشعر بقرب النهاية؟ نهاية الحياة أو نهاية علاقة إنسانية انخرطتَ بها.. وكيف لك على ضوء هذا الشعور أن تضع حداً لنهاية انتظارك في ارتقاب النهايات. لقد كان انتظار بارنز لجائزة البوكر طويلاً جداً حد أنه قال عند استلامها: «لم أكن أريد أن أذهب لقبري قبل أن أحصل عليها». إن شغفه كان أكثر من أي شيء آخر بالرغم من أنه حصل على جوائز عدة وأوسمة كثيرة إلاّ أن البوكر كانت لها مكانة خاصة في نفس جوليان بارنز. وبالفعل حققت روايته القصيرة « الإحساس بالنهاية» حلمه وحدت من انتظاره، حيث جاءت كالرغيف الساخن لتتلقفها قائمة جائزة البوكر لعام 2011م وذلك بعد صدورها بشهر واحد.

الإحساس بالنهاية.. نهاية الانتظار
يتساءل كثير من النقاد حول إذ ما كانت رواية «الإحساس بالنهاية» أفضل أعمال بارنز، فهي تُعد الرواية الحادية عشرة من سلسلة رواياته، كما أنها الأخيرة. وبما أنه قد سبقتها روايات عديدة لها من القيمة الفنية ما يؤهلها للفوز مثل: ببغاء فلوبير وطاولة الليمون إلا أنها جميعاً أحبطتْ أماني كاتبها، ويعزو بعض النقاد السبب إلى أنه ربما كانت معايير الجائزة التي تخضع لرواج الإعمال الإبداعية بين القراء أكثر من قيمتها الإبداعية والفنية، ما جعل اسم بارنر يسقط على مدى أربع مرات من الفوز، في كل مرة تكون رواياته ضمن القائمة البوكرية!

أين سيقف العرب من بارنز؟
لماذا كتابات بارنز لم تثر دور النشر العربية لترجمتها بالرغم من قيمتها الإبداعية، والإرث الفلوبيري في بعضها؟ هل لأن هذا الإرث الكلاسيكي الحافل بالأفكار الفلسفية تناوله جوليان بأسلوب مخادع وبمهارة تحتاج لقارئ واع لا يضيع بين خيانات الترجمة؟ لذا كانت كتاباته التي تنتمي لما بعد الحداثة تقف عائقاً أمام الترجمة وبالتالي تداولها وانتشارها بين القراء العرب. وهل فوزه بالبوكر سيشحذ همم دور النشر والمترجمين لنقل مؤلفات هذا الروائي الذي يصرح بأن عدم معرفة الناس له لا تقلقه بتاتاً؟

في رواية (الإحساس بالنهاية)، التي تقع في 150 صفحة، يتتبع بارنز ذاكرة أحد الأشخاص العاديين، يدعى أدريان فين، مات منتحراً وهو بعمر 22 سنة، وكان يتميز بين أقرانه بالذكاء الحاد. يروي أحداث الرواية صديقه توني ويبستر، الذي يبلغ من العمر ستين عاماً، فلحق به الملل من حياته الحاضرة، حيث إنه لم يحقق مغامراته التي حلم بها في مطلع شبابه. لذا قام بمحاولة للتصالح مع ماضيه من خلال استرجاع لذاكرته من أيام الدراسة، عندما كان أدريان صديقاً له قبل أن تنقطع علاقتهما. يسترجع توني علاقته بأدريان وكيف كان الأخير أكثر ثقافة وذكاء ووعياً منه، إذ التحق بجامعة كامبردج، بينما توني التحق بجامعة لا صيت لها. يستعرض توني خيباته العاطفية من خلال قصته مع فيرونيكا التي انتهت علاقته بها لتنخرط مع أدريان في علاقة أخرى.

كان استرجاع توني للذاكرة بسيطاً وسطحياً إلى أن يستلم رسالة من مكتب محاماة يخبره بوصية هو المستفيد منها، والموصية هي فيرونيكا فورد الصديقة القديمة التي تركت له 500 باوند ودفتر مذكرات أدريان. لكنه عندما يحاول الحصول على هذه المذكرات تظهر فيرونيكا وتبدأ المقايضة.
إن هذه الرواية الصغيرة مليئة بالأفكار الفلسفية الكثيرة عن الحياة والموت، من خلال ما ساقته مذكرات أدريان فين لنا.

ببغاء فلوبير..المرة الأولى
يبدو أن الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير1821-1880م يثير شهية الكُتاب قبل القراء، إذ نجد أن الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا الفائز بنوبل 2010م أهدى الجائزة لروح فلوبير، كما كان كتابه «المجون الأبدي.. فلوبير ومدام بوفاري» خير تجسيد لهذه الشهية والتأثر. مثلما نجد أن جوليان بارنز تأثر بفلوبير إذ ألف روايته الأولى «ببغاء فلوبير» 1984م، ولاقت رواجاً بين أوساط الأدباء والكتاب، وذلك لحبكتها الفنية العالية ورشحت لجائزة البوكر عام 1984م. إن ببغاء فلوبير تدور أحداثها حول طبيب أرمل متقاعد يدعى جيفري بريثويت يذهب إلى مدينة رودن الفرنسية، ليزور أماكن عديدة تتعلق بجوستاف فلوبير، ويقرأ جيفري في إحدى الصحف خبراً عن متحف يعلن عن عرض ببغاء محنط كان على مكتب الروائي جوستاف فلوبير في أثناء كتابته لقصة «قلب طاهر» وكما هو معروف أن هذا الببغاء يُعد من شخوص قصة قلب طاهر. وهناك يشاهد جيفري الببغاء المحنط ويتتبع آثاره، إلا أن هناك فصولاً كثيرة مستقلة عن حبكة الرواية مثل تأملات جيفري وغراميات فلوبير. فازت هذه الرواية بجائزة فوستر وسومرست موم، لكنها لم تستطع الحصول على البوكر وقتها.

تغيير الأسماء والتفاؤل
كان أول ظهور لبارنز بعد حصوله على الجائزة في لندن، في شهر ديسمبر 2011م، وذلك في جلسة نقاش أدبية مع الناقد هيرمن لي وسط حضور من المهتمين والصحفيين والنقاد، وكان ريع هذه المناسبة لمنظمات إنسانية خيرية.

في هذه الجلسة صرح جوليان بأنه في سرد رواياته لا يبدأ بالشخصيات وتوصيفها كما حال معظم الروائيين، إنما يبدأ بالخطأ الأخلاقي ثم يتساءل.. هذه الأشياء تحدث لمن؟ ومنها ينطلق إلى الشخصيات التي تحدث لها مثل هذه الأخطاء. ولعل أكثر التصريحات إثارة عندما طُلب منه أن يقرأ مقطعاً من الرواية التي أنقذته من الانتظار. وانصاع جوليان وبدأ بالقراءة وفي المقطع الأول وبدلاً من أن يقرأ اسم البطل أدريان فين قرأه أدريان ثورن.. لكنه استدرك قائلاً إن اسم أدريان ثورن هو اسم البطل الذي اخترته في النسخة المسودة من الرواية، لكني بعد ذلك استبدلت به أدريان فين نسبة إلى عائلة لاعب الكريكيت البريطاني ستيف فين. وبينما أرديان ثورن هو اسم لشخصية حقيقية كان صديقاً لجوليان في طفولته حيث كانا يذهبان إلى المدرسة سوية. لكنه في آخر لحظة استبدل الاسم لإيمانه بأن أسماء الرياضيين أكثر رسوخاً في الذاكرة. وربما، كما قال أحدهم، لو لم يبدل جوليان الاسم لما فاز بالبوكر!!
يصف جوليان من وجهة نظر نقدية بأن الكتب مثل الحيوانات بهيكلها الخارجي. تتكون من جسم ورأس وذيل وعلى المؤلف أن يؤلف ما بينهم. ليخلق العمل الجميل المتناسق.

كما صرح أن بذرة هذه الرواية «الإحساس بالنهاية» كانت سلسلة من الرسائل الإلكترونية التي تبادلها مع شقيقه الفيلسوف جوناثان بارنز. وكيف أنه كان يسترجع معه، من خلال الرسائل، أيام طفولتهما فيسأل شقيقه بإلحاح كيف كان جدهما يقتل الدجاج؟! ويرد عليه جوناثان بأن الذاكرة ليست مرشدنا الوحيد للماضي. كان جوليان يعدها، وجهة نظر، لكن انتهى به الأمر في المستقبل أن يكتب كتاباً عن الزمن وصيرورة الحياة، ويفوز بالبوكر.

الناقد هيرمن لي سأل: هل تدعو هذه الرواية إلى العزلة على طريقة جوستاف فلوبير أم العزاء على طريقة جورج صاند.. لكن جوليان أجاب بدبلوماسية: في روايتي القادمة ستكون ذاكرة كل شخص محل ثقة. لا أحد يشيخ ولا أحد يموت، وإن ماتوا فسيذهبون إلى الجنة. وقال الذي أريد أن أعرفه بالفعل.. كيف كان جدي يقتل الدجاج!

إن هذا السؤال الذي أثاره جوليان في رسائله الإلكترونية مع شقيقه الفيلسوف، وأثاره مرة أخرى في أول ظهور له بعد البوكر يجعلنا نتساءل هل ذاكرة جوليان حادة جداً، لدرجة أنها لا تُسقط التفاصيل مطلقاً، ويؤلمها كثيراً أنها لم تجد إجابة شافية حول جد جوليان وطريقته في ذبح الدجاج؟!

أضف تعليق

التعليقات