حياتنا اليوم

محمد الشريف..

قهر العجز بروح الدعابة

في قصة الشاب محمد الشريف الذي التقته رحاب أبو زيد على هامش معرض صيــف أرامــكـــــــو السعـــــودية العديد من المحاور المضيئة التي يمكن أن يجد فيها أحدنا حوافز مبهجة نحو حياة تنفض اليأس وترفض المستحيل، وبإعداد نفسٍ سوية قوية تتقبل الواقع وتتكيف معه وتنتصر على قسوته.

لا يعي الإنسان حقيقة اختياراته إلا بعد مضي أعوام طويلة من العمر، وربما بعد أن يخسر الكثير من الجهد والوقت في استيعاب مقتضيات عجلة القدر والطريق الذي تفرضه عليه. فحين اختار الشاب محمد عبدالله الشريف الالتحاق بكلية الدفاع الجوي بجدة تلبية لرغبة والديه التي تعارضت وميله إلى الطب، لم يكن يدرك أنه سيتحول من ضابط مولع بحب وطنه والدفاع عنه إلى «ضابط» الألم والبسمة على وجوه الآخرين من ذوي الاحتياجات الخاصة. رفض في بداية حديثنا هذه التسمية مسوّغاً ذلك بأن ذوي الاحتياجات الخاصة هم المصابون بأمراض عقلية أو ذهانية، بينما أطلق على نفسه لقب «معاق» بكل شجاعة في مواجهة تسمية قاسية كهذه.

حادث غيّر مجرى حياته
تربى محمد في كنف جده بمدينة أبها في جنوب السعودية كحفيده الأكبر المقرّب، اكتسب منه الحكمة والصبر اللذين تسلح بهما لاحقاً في سني اليفاعة والشباب ولحظات الوجع والعجز، مؤكداً بذلك أن لا درس في الحياة يمكن تجاهله مطلقاً، وأن لا وجود للعبثية في الوجود. لم يكن شاباً سهل الانكسار ليّن العود، بل كان طموحاً حالماً بيقين. تسلح بالعلم والإيمان لينطلق من الكلية إلى عالم الوظيفة العسكرية كملازم أول في الدفاع الجوي. ثم بدأ في البحث عن الزوجة الصالحة ورفيقة العمر التي اختارتها والدته بعناية الأم وبقلب المحب الذي يهوى سعادة حبيبه.
يقول محمد: «جمعت كل خيوط الأحلام في رزمة واحدة، فامتلكت السيارة التي كنت أتمناها، واتفقت على موعد القران مع زوجة المستقبل التي علّقت هي الأخرى آمالها على كتف رجلها المنتظر».

لم يمهل القدر محمد حتى يؤسس لعش الزوجية كما يحب، حيث خرج وعدد من الرفاق في رحلة إلى مكة لأداء عمرة يشكر الله ويحمده فيها على فضله وكرمه بتحقيق الأمنيات والآمال. وكما تقع الحوادث العظام، وكصيّب من السماء في لحظة برق خاطفة، باغتتهم سيارة كبيرة من الجانب الذي كان يقل محمد ووقع الحدث الأكبر في حياته الذي غيّر مجراها بالكامل. أفاق بعد قرابة ستة أيام من غيبوبة في مستشفى النور بمكة ليجد والديه وأعمامه وأقاربه يبكون والدمع يبلل ستائر الغرفة، والحزن يخيّم على المكان للمصاب الجلل الذي أصاب ولدهم البار الذي علّقوا عليه آمال العائلة بشرف وفخر. تساءلت عيونه عن سبب الدموع وهو لا يكاد يشعر بأي حس أو قدرة على تحريك نصفه السفلي! فلقد أصيب بكسر شديد في العمود الفقري أدّى إلى إصابته بالشلل، إضافة إلى كسور بالوجه والساقين، وعليه أُقعد محمد عن المشي والحركة والطيران والدفاع الجوي، وربما الزواج والإنجاب، وكل متطلبات الحيوية والانطلاق إلى الأهداف التي كانت نصب عينيه. يصف محمد تلك اللحظة بالكابوس الشنيع، حيث رفض الوعي واللاوعي لديه على تقبل الواقع الجديد، والمخاوف تؤكد له أن الموت كان أرحم لو اقتلعه إلى خارج حياة منتقصة.
يقول محمد: «لم تجدِ كل تطمينات المحيطين بي نفعاً في تعديل حالتي النفسية أو رفع معنوياتي المتدنية. علّقت أملي بالله العظيم الرحيم، ثم بمراجعة طبيب ألماني يدعى «د.كيفت» في ألمانيا لعل بصيصاً من نور يلوح في الأفق يعيدني لخط سيري الذي كنت أمضي عليه ملوّحاً براية النجاحات والإنجازات». وصف الحالة النفسية التي اعترت محمد حينذاك أمر يتجاوز البلاغة بمراحل، إذ لم تكن تسكنه سوى التساؤلات حول من سيقود سيارته الجديدة، وهل ستقبل به شريكة حياته العيش معه على هذه الهيئة، وعمّا إذا كان سيمارس وظيفته التي اختارها بالشكل المنوط به! يقول: «كل معالم حالتي الصحية والشواهد تقول إن حياتي كانت مجرد سراب واختفى». بدأت مراحل العلاج من نقطة محددة صارحه بها الطبيب وهي تقبُّل فكرة الإعاقة المستديمة والتعايش معها.

الأمل يعود من جديد
عاد محمد إلى بلاده محمّلاً باليأس جسداً بلا روح، وأبواب مسدودة وشموع منطفئة. تسكنه مشاعر متضاربة حول ما أسس له وبناه تعارضاً مع إلحاح إجباري من والديه بضرورة مواصلة البرنامج التأهيلي في مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية بالرياض. قابل هناك عدداً من المصابين المنسجمين مع أوضاعهم الصحية الجديدة، بل وتمكنوا من ممارسة حياتهم بعد الإصابة بصورة طبيعية، ولكل منهم سيارته الخاصة المزوّدة بإمكانيات جديدة تمكنه من قيادتها وتطويعها وفق قدراته المحدودة. علاوة على ذلك، فإن معظم المصابين بمثل حالة محمد لم تمنعهم إصابتهم من الزواج وإنجاب الذرية التي يحلمون بها، كما أنهم يتقلدون وظائف مهمة ومرموقة، ولم يجنحوا إلى العزلة عن مجتمعهم أو الانطواء خجلاً على ذواتهم مبعدين أنفسهم عن المشاركة الفعّالة في البناء والتطوير. هنا بدأت الدماء تجري في عروق محمد شيئاً فشيئاً، وشرع التفاؤل يدفعه لقبول إجراء التمارين التأهيلية والتدريبات العلاجية على التكيّف مع الإصابة، بواسطة الخضوع لجلسات مكثّفة من العلاج الطبيعي والعلاج الوظيفي. يعبّر محمد عن تلك البدايات بقوله: «وأشرقت الشمس من جديد عندما شعرت ببزوغ حركة طفيفة في فخذي اليمين وكأن القلب قد قرر العودة لضخ الدم فيها، أدركت حينها أن قدرة الله عز وجل فوق كل مستحيل، وفوق توقعات «د.كيفت»! سارعت بالاتصال بأخي في جدة طالباً منه إرسال سيارتي التي بقيت دون حراك في فناء منزل عائلتي لمدة عام ونصف حتى أتمكن من تجهيزها بالأدوات اللازمة لأعود للقيادة».

تمكن محمد من الانتصار على اليأس، بأن كثّف التدريبات على استعمال الكرسي المتحرك رافضاً الكرسي الكهربائي الذي يصيب الجسم بالاعتمادية الكاملة على الآلية والتحكم التقني بالقدرات، بينما يتيح الكرسي المتحرك على الرغم من صعوبته من تقوية عضلات اليدين والاعتماد عليهما لبلوغ غرض ما في مستوى مرتفع عن مستوى الجسم عند التسوق أو عند الوقوف أمام جهاز صرّاف آلي. حين لاحظ المسؤولون في مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية المهارات العالية التي اكتسبها محمد، خصوصًا عندما راح يشجع غيره ويبث روح التفاؤل في نفوس المرضى الجدد، عرضوا عليه وظيفة مدرب مهارات فنية ومنسق العلاج الترفيهي بالمدينة، مما بعث بالسعادة في روح محمد وعوّضه عن وظيفته السابقة، وخلق أجواءً مغايرة للحلم بالوصول إلى بناء الأسرة والارتباط بخطيبته المنتظرة. وكانت هذه هي معركته الأخيرة مع أهل خطيبته الذين تخوّفوا على مستقبل ابنتهم وراحوا يضغطون عليها لفك الارتباط برجل معاق. لكنها تحلّت بإنسانية عالية وحب كبير لم يقنعها بالتخلي عن محمد، وأصرّت على الزواج بمن اختاره الله عز وجل زوجاً لها. يعيش محمد اليوم حياة كريمة مع زوجته وابنه راكان، وعاد لبناء لبنات المستقبل واحدة بعد أخرى وهو يحاول البحث عن رابط بين الشخصيتين اللتين عاش في ثوبهما منذ وقوع الحادث عام 2005م حتى 2011م عام التمرد الإيجابي على الضعف والاستسلام، فما وجد وجه شبه واحداً بين محمد قبل الحادث ومحمد بعد الحادث سوى الاسم فقط!

جدير بالذكر أن محمد يهوى التمثيل، وخصوصاً عندما اضطلع بدور توعوي يحسن صورة المعاق ويفعّل أهميته في المجتمع من خلال المشاركة في مسرحية «مثلي مثلك» الشهيرة.

أضف تعليق

التعليقات