الرحلة معا

كيف يحمي المجتمع نفسه من آثار العنف

في إحدى أمسيات هذا الصيف الذي يشارف على الرحيل، كنت بصحبة عائلتي نحاول تبديد الرطوبة الشاملة في مجمع « السيتي سنتر» بالبحرين. قادتنا خطواتنا المعتادة إلى الطابق الثالث حيث قاعات السينما وحيث يحتشد المئات من الشباب والشابات ليختاروا أفلامهم المفضّلة.

شخصياً لا أجد في مرابض السينما في البحرين ودبي ضالتي من الأفلام الجادة، لكنني أضطر إلى قبول أي فِلم تنبعث منه بعض الجدّية أو علاماتها. هذه المرة لم أعثر على خشبة تحملني إلى أي فِلم، فالأفلام كلها تقع تحت تصنيف: إثارة أو مغامرات أو عنف، إنها أفلام الأكشن والعنف التي تمحق رغباتي وعليّ أن أختار أو أغادر.

في المقهى البعيد الذي لجأت إليه، رحت أحدق في الصور التي يفيض بها الكتيّب، ألوان من لحظات العنف والتفجير والتدمير متخيّلاً تلك العقول الغضة التي لا يتجاوز بعضها العاشرة التي ستخضع لساعتين متواصلتين لذلك الدرس القاسي من الرعب والإثارة والدم بذريعة الترفيه والتسلية وقضاء الوقت السعيد ..!.

ليست هذه سوى إحدى حالات تسلل العنف إلى عقولنا ونفوسنا وسلوكنا، ولها تأثيراتها المؤكدة على طباعهم وأنماط حياتهم، لكنني رحت أفكِّر في العنف الراسخ في بيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وفي ضرورة النظر إليه كأزمة اجتماعية كادت أن تقودنا إلى المهالك.

كل صحفنا وصفحاتنا الإنترنتية أصبحت تخصِّص مساحات منتظمة لسرد قصص العنف والقسوة التي تقع في مناطق المملكة بلا استثناء، وهي قصص لا يسلم منها أحد فهناك عنف بأشكال عديدة يوجهه الأزواج ضد الزوجات، وعنف آخر يوجهه الآباء ضد الأبناء وخاصة الأطفال، وعنف يوجهه الأبناء ضد أخواتهم، وعنف ضد كبار السن، وعنف آخر يشنّه الأبناء والبنات على الوالدين، وهناك قسوة مجتمعة أحياناً تجاه عمال المنازل، وآخر معاكس يشنه أولئك العمال تجاه العائلة، على الجانب الآخر يوجد عنف يمارسه الطلاب تجاه معلميهم، وعنف في مواقع العمل، وعنف في قيادة المركبات بحيث أجزم أن نسب الفجائع المرورية التي وضعتنا ضمن الأكثر سوءاً بين دول العالم، ترتبط بذلك السلوك العنفي الذي يتمتع به، مع الأسف، أكثريتنا بما فينا سائقونا.

لا يمكن إحصاء القصص التي ينتهي بعضها بالموت، وبعضها بالمستشفيات، وبعضها بعاهات، إن لم تكن جسدية فهي نفسية وعصبية وسلوكية وأخلاقية.

كل العنف مرفوض ومنبوذ، لكن أبشعه هو ذلك الموجَّه نحو المرأة والطفل، فالمرأة (أماً وزوجة وأختاً) المعنّفة التي تُنهب حقوقها، ويتعرَّض كيانها النفسي إلى الخطر، وتُلقى على كاهلها مسؤولية تربوية رفيعة، كصناعة الأجيال لن تكون قادرة على الوفاء بتلك المهمة السامية، إن لم تمتلك إرادتها وتمارس كينونتها. أيضاً فإن الطفل الذي تُهدر مواهبه ويتعرَّض لأنواع من الإذلال والقمع والتهديد لن ينشأ سوياً قادراً على البناء والعطاء، بل سيكون محملاً بندوب مؤلمة وغائرة في روحه وعقله، لن يبرأ منها في كل مراحل عمره، وربما أثرت على علاقته بمجتمعه وبانتمائه إليه وبحمايته عندما يتعرَّض لساعات الخطر.

والحقيقة أن رذاذ العنف ينطلق علينا من كل الجهات، فهو قد يتسلل إلى منازلنا وحياتنا بخفية دون أن نملك أية وسيلة لصدّه، كما أنه ينتشر بين فئات المجتمع العليا والدنيا على السواء، لكن تفاعله لدى الفئات المهمشة في المجتمع أكثر ضرراً فهو يتحوّل إلى ألوان من العنف الجسدي ويتخذ أشكالاً كالجريمة والبطالة والتصدع الأسري وانتشار المخدرات والانحراف الأخلاقي، وهكذا فإن تهديد الإنسان أو إهدار طاقاته أو استباحة مستقبله سيحوِّله إلى كائن مهمَّش يعود منتقماً ومهدداً لأمن المجتمع ومناعته.

ولأن صد فيروسات العنف القادمة من خارج المحيط الاجتماعي أو من داخله مستحيلة، فإن أول خطوة في محاربة أية ظاهرة هي الاعتراف بها، وهكذا لقي قرار مجلس الوزراء، القاضي بتجريم العنف الأسري، ومنع كل أشكال الاستغلال أو إساءة المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية التي يمكن أن يرتكبها شخص بما له عليه من ولاية أو سُلطة أو مسؤولية، أو بسبب ما يربطهما من علاقة أسرية أو علاقة إعالة أو كفالة أو وصاية أو تبعية معيشية، ترحيباً اجتماعياً واسعاً فيما ينتظر الناس تفعيل كامل لحيثيات ذلك القانون ونشرها ودعمها بالكفاءات المؤهلة ومنحها الأطر الضامنة لنجاحها.

نعترف بأن ذلك القانون هو أول المصدات التي يمكنها تخفيف آثار العنف على الأفراد والمجتمع بأسره، لكنه لن يحقق أثره الكامل دون أن تسانده ثلاثة كيانات: أولها الكيان الأسري، فعلى الرغم من التحديات المعرفية والعلمية والتأهيلية التي تعصف بهذا الكيان، وتؤثر على خارطة سُلطته التقليدية، فلا يزال هو السفينة القادرة على امتصاص صدمات العنف، بل ومجابهة بعض الفئات التي تحاول تسويقه.

أما المصد الثاني فهو: المؤسسة التعليمية بكل مراحلها، فهذه القاعدة يمكنها تحصين طاقة المجتمع البشرية من مظاهر العنف الشخصي والاجتماعي للفرد، والإسهام في بنائه النفسي المتزن، وإعداده للعيش والتعاون والتشارك مع الآخر، لكن هذا الكيان الاستراتيجي أيضاً بحاجة إلى نهوض يشمل إعادة تشكيل المُعلِّم وتعميق مدخلاته المعرفية، وتوسيع مساحة رؤيته، كما هي الحاجة قائمة إلى خوض رحلة تجديدية لمناهجنا وأدواتنا التعليمية وأساليبنا التربوية، لتتمكن من بناء جيل جديد قادرعلى الانتساب إلى ثقافات العالم وعلومه ومعارفه، وأن تتجاوز المدارس وظيفتها التقليدية في رعاية المناهج وحفظها لتتحوَّل إلى بيئة تعليمية وتربوية تنمي مواهب التفكير والابتكار وتؤسس للمثل والأخلاق وفضائل التسامح والحوار واكتساب صفات المجتمع المدني.

والمصد الثالث هو: المؤسسات الاجتماعية والنفسية والسلوكية. وإذا كانت هذه المؤسسات قد عاشت دهراً في هامش المجتمع وعلى هامش الاهتمام العام، فإن هناك حاجة ماسة اليوم إلى دعم برامجها وتوسيع فروع أعمالها ومدّها بالكوادر المهنية المؤهلة وضخ الميزانية المناسبة لها، بحيث لا تقتصر أوجه نشاطها على المعالجة السطحية للمشكلات الاجتماعية، ولكن أن تضع الخطط لتطويق أسباب تلك المشكلات وأن تكون لها سُلطة رادعة حين تؤدي مهماتها.

واختصاراً، فإن العنف لا يمكن تخفيف آثاره على محيطنا الاجتماعي سوى بمزيد من التعاضد بين الأسر ومؤسساتنا التعليمية والاجتماعية، وبناء برامج عملية مشتركة وفعالة تقود إلى السلامة الاجتماعية المنشودة.

أضف تعليق

التعليقات