الحياة اليومية

بناء الإنسان.. يوماً بيوم

  • 1_1284
  • 1_1788
  • img02888
  • img027932-ٌ2
  • 1_1a
  • 1_166-167(1)
  • 1_174 b
  • 1_844
  • 1_854

استمراراً للاحتفاء بمرور ثمانينية أرامكو السعودية هذا العام، تعرض الصفحات القادمة رؤى ومشاهدات وذكريات عن بناء إنسان أرامكو، تشكيل وعيه الوظيفي، تطوره الوظيفي ومهاراته، تأثيره في المنطقة وتأثره بكافة العوامل المتشابكة من حوله: تعدد الجنسيات، العوامل الاقتصادية، الظروف الاجتماعية والبيئية، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال قيام منشأة بهذا التمدد والعمق والتاريخ دون أن يكون الإنسان هو ركيزتها الأولى الذي تثق أن الاستثمار فيه ليس له إلا نتيجة واحدة لا تحتمل المضاربة.. الربح! وفي هذا الصدد يقول السيد « سكوت مكموري» كاتب قصة تاريخ أرامكو في مقدمته: « إن بناء الأمم يبدأ من بناء مجتمعاتها ممثلة في الإنسان المنتج، فإذا ما أقصينا العنصر البشري عن تلك المهمة الوطنية النبيلة، فلن يتحقق شيٌ على الإطلاق».
من جانبه يسترجع الأستاذ علي الدميني بعضاً من ذكرياته في المقالة التالية.. يروي قصة حياة وطن من خلال التغلغل داخل موظف أرامكو ويعد ذلك مجلداً آخر من مجلدات الحضارة، التي ارتكزت على العقل والعلم والقدرات البشرية ومكاسب التقنية الحديثة.
أما الأستاذ محمد العباس ففي مقالته «ألبوم العائلة الأرامكوية» فيستقرئ المسافة الشاسعة بين ما كان عليه حال ووعي ومزاج ذلك الفصيل من القرويين والفلاحين والمزارعين والبحارة والرعاة والعاملين في الحِرَفْ اليدوية من الذين التحقوا بالعمل في أرامكو، وبين ما صاروا عليه من مكانة وأناقة واحترافية. رحلة طويلة وجديرة بالتأمّل والدراسة، كما يلتقط بمجهر دقيق مجموعة من المقاربات المدهشة لاكتشافات منطقة ليست فقط مأهولة بالزيت.. ولكن بطاقة بشرية موهوبة.

1
وقفات على «دروازة» أرامكو
علي الدميني

«الدروازة» و«أرامكو»، كلمتان وافدتان على اللسان العربي من خارج محيطه، فكلمة «الدروازة» تعود إلى أصول فارسية أو هندية، و قد تسلّلت إلى اللهجة العامية في منطقة الخليج العربي لتغدو علامة لغوية تدلّ على «الباب».. باب البيت أو المجمّع أو المدينة. أما «أرامكو» ، وغالباً ما يتداولها الناس بـ «رامكو» ، فقد سمّتها الشركات المؤسسة لعملية التنقيب عن البترول في المملكة، باسم «شركة الزيت العربية الأمريكية»، التي لم تكن شراكة عبر عدة عقود، ولكنها بعد ذلك تحوَّلت تدريجياً إلى شراكة حقيقية، ولم تبق كعلامة لسانية، وإنما أحالتها الظروف إلى دلالة على زمن البترول والرفاهية والتقدم لشعب المملكة.

ولذلك لم تعد «الدروازة» باباً لحراسة ما يقبع خلف «شبك أرامكو» وإنما استحالت إلى بوابة عين رائية تتأمل الذاكرة والماضي والحاضر، الذي كانت فيه «أرامكو» ، باستخراجها للذهب الأسود، رفيقاً لإعلان تأسيس وحدة المملكة، وتقدمها، خلال ثمانين عاماً.

هذه العين الرائية -كما أراد لها القائمون على إعداد هذا المحور- ستحاول الوقوف على العناصر الأساسية التي أعانت «أرامكو» على توظيف مختلف القدرات والطاقات البشرية ، من المستوى البسيط حتى المستويات العالية، التي جاءت من مختلف أرجاء المملكة، ومن مختلف دول العالم، لتحقيق هذه المنجزات، رغم ما اعتور مسيرتها من سلبيات – سأشير إليها في ثنايا حديثي – كان قد تم التعاطي معها، ومعالجتها تدريجياً، من قبل الحكومة السعودية ، وشركة «أرامكو»، وسأعرض –من وجهة نظري– لكل ذلك خلال الوقفات التالية:

زمن «أرامكو»
حين فرغتُ من قراءة المجلدين الضخمين الذين أصدرتهما (أرامكو السعودية) عن تاريخها بعنوان « قصة أرامكو السعودية» رأيت أن الصواب يقتضي تعديل العنوان إلى « قصة أرامكو وأرامكو السعودية»، حتى لا تنفرد إحداهما بمجد الإنجازات، ومع ذلك فقد تذكرت –وإن على مستوى مختلف– مجلدات قصة الحضارة التي أنجزها الكاتب العظيم «ول ديوارنت»، والتي ختمها بكلمة أختار منها قوله: «الثورة الصناعية تبدأ بذلك السيل المتدفق من المخترعات التي تحقق –قبل أن نصل إلى الألف الثاني للميلاد– حلم أرسطو بالآلات التي تحرر البشر من كل عناء يدوي. ولقد سجلنا المراحل التي خطتها علوم كثيرة صوب فهم أفضل للطبيعة وتطبيق أجدى لقوانينها. ولقد رحبنا بانتقال الفلسفة من الميتافيزيقيا العقيمة إلى اجتهادات العقل في الشؤون البشرية».

ولا غضاضة عندي في القول بأن هذا السفر عن «قصة أرامكو السعودية» هو مجلد آخر من مجلدات الحضارة، التي ارتكزت على العقل والعلم و القدرات البشرية وإنجازات التقنية الحديثة، الذي قدّر لمحتواه بأن يقوم على أرض بلادنا خلال ثمانين عاماً، لا سيما في اهتمامه بتوظيف الطاقات البشرية المحلية، وفي هذا الصدد يقول السيد « سكوت مكموري» كاتب هذا السفر في مقدمته: «إن بناء الأمم يبدأ من بناء مجتمعاتها ممثلة في الإنسان المنتج، فإذا ما أقصينا العنصر البشري عن تلك المهمة الوطنية النبيلة، فلن يتحقق شيء على الإطلاق».

وإذا كان هنالك مكرٌ للتاريخ وأوجاع غائرة في ثناياه، فإن له أيضاً مصادفات سعيدة! إذ حين خرجت كثرة من دول العالم من الحرب العالمية الأولى وبدأت تحاول استعادة أنفاسها في زمن تغير موازين القوى وانهيار إمبراطوريات وقيام دول قوية جديدة، كان الملك عبدالعزيز يستكمل توحيد بلاده، ويرنو إلى أفق امتلاك مقومات البناء والتطوير من خلال حلم اكتشاف البترول وتصديره.

وحين نطلّ على نهاية تلك الحرب المدمرة التي انتهت إلى استسلام ألمانيا بتوقيع الهدنة في 11/نوفمبر/1918م، نرى أن الحلفاء المنتصرين يعقدون معاهدة فرساي في عام 1919م، لتقاسم الغنائم، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي دخلت الحرب في أواخر عام 1917م، وخرجت من عزلتها خلف المحيطات، وقررت البحث عن دور جديد لها في أوروبا وفي مختلف أرجاء العالم.

وإذ ركز الحليفان الاستعماريان القديمان (بريطانيا وفرنسا) على تنفيذ معاهدة سايكس بيكو التي كانا وقعاها في عام 1915م، لتقاسم مناطق النفوذ في العالم العربي، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تكن من قبل دولة استعمارية خارج قارتها، تعمل وفق رؤية استراتيجية جديدة على تبنّي فكرة قيام عصبة الأمم، بهدف تعزيز الأمن والاستقرار في مختلف أرجاء العالم، بما يتيح لها استثمار مقدراتها الصناعية والاقتصادية والتقنية، التي لم تدمرها الحرب.

أما سلطان نجد وملحقاتها (الملك عبدالعزيز) الذي لم يدخل طرفاً في تلك الحرب، فقد استطاع استكمال إنجاز طموحه في توحيد معظم أرجاء الجزيرة العربية، منذ استيلائه على الرياض ومروراً بمؤتمر العقير (1922م) الذي رسم الحدود بين مناطق نفوذه من جهة وبين الكويت والعراق، حتى أتم رسم خرائط بلاده الجديدة وإعلان قيام المملكة العربية السعودية في عام 1932م.

ومنذ مؤتمر العقير، كانت الشركات البريطانية والأمريكية، ممثلة في شخصيات متنفذة ،تحاول كسب ود الملك عبدالعزيز لعقد اتفاقيات التنقيب عن النفط، ولكنه كان يتريث في اتخاذ قراره الحاسم في هذا الأمر. وحيث لم يكن الملك عبدالعزيز ولا معاونوه (من أمثال أمين الريحاني، والشيخ ياسين، والشيخ ابن سليمان) يرتاحون للعجرفة البريطانية ذات الإرث الاستعماري ، فقد فضلوا إبرام الاتفاقيات مع الشركات الأمريكية. وفي هذا الصدد يقول «سكوت مكموري» مؤلف «قصة أرامكو السعودية»: «إن السعوديين كانوا صريحين حين قالوا إنهم يفضلون أمريكا، وأخبروا هاملتون بأن أمريكا ليست لها مخططات استعمارية، فضلاً عن أنها بعيدة جداً عن المملكة» ( قصة أرامكو السعودية –الجزء الأول – ص 55)، ولذا فقد تم توقيع الاتفاقيات التاريخية مع الشركات الأمريكية، في عام 1932م.

أرامكو في بيتنا!
حين ألفيتني أتذكّر ما يحدث حولي، كنت في الرابعة من عمري (ربما في عام 1952م) كنت أشعر بشيء من القلق والارتباك في هذا البيت، الذي يعمره طفلان، وأم وجدّة. أين أبي يا أمي؟ أين أبي يا جدتي؟، وكانت الإجابة تتكرر دائماً «سافر ظهران يا ولدي، واشتغل في «رامكو» وبياجينا قريب إن شاء الله».

كان الأب يرسل لنا رسائل ومبالغ من المال تكفي لسد حاجتنا، مع القادمين من الظهران إلى منطقتنا (الباحة)، وكان فقيه القرية وإمام مسجدها هو الوحيد القادر على قراءة تلك الرسائل على جدتي، وهو القادر أيضاً على احتمال كتابة رسالة مقابلة للوالد. وحين كنت في الصف الأول الابتدائي رأيته يكتب على غلاف ظرف الرسالة: جبل ظهران!!، فظننت والدي يعمل في جبل قريب من جبالنا الصخرية العالية، ولم أكن أعلم أن جبل ظهران هو سلسلة من تلال تكوّن ما سمَّاه الجيولوجيون بـ «قبة الدمام» التي اختاروها لبدء التنقيب عن الذهب الأسود، من عام 1933 وحتى عام 1938م، حين تفجرت بئر الدمام رقم (7)(بئر الخير بحسب تسمية الملك عبدالله ابن عبدالعزيز) بنافورات الأمل والوعد بإنتاج كميات تجارية من ذلك الذهب!

ولما عاد أبي من الظهران، بعد أربعة أعوام، كانت أرامكو حقاً تدخل بيتنا من خلال ما جلبه والدي من أرزاق، وسجاد لفرش البيت، وملابس، وأكملها بالدافور، والأتريك، وبالراديو الجديد الذي لا يحتاج لشبكة من الأسلاك لاستقبال الإرسال فوق سطح البيت، ولا إلى بطارية ضخمة تشبه بطاريات السيارة الآن، وإنما كان وقودها بطاريات صغيرة كانت تسمى «أحجار الكشاف»!

والدي، لم يكن أول الذاهبين من قريتنا أو منطقتنا إلى وعود جبل ظهران، بل سبقه آخرون إلى الجنة الموعودة على الأرض، ولكن كثيرين أيضاً مازالوا في تلك الأيام يغادروننا إليها كل عام، فهذا قريبنا ترك مهنة الزراعة الفقيرة ليصبح في أرامكو من أمهر عمال منصات التنقيب عن البترول، وذاك من أخوال أبي يلتحق بالشركة ليصبح من أمهر فنيي صيانة المعدات الثقيلة، أما أحد معارفنا من قرية مجاورة فقد حصل على بعثة من أرامكو للدراسة في الجامعات الأمريكية (د. مبارك البريك)، وكنت أكتب رسائل والدته إليه، وهي تبكي حنيناً وشوقاً له من قريتنا، وغيرهم كثيرون..

كانت أحاديث العائدين إلينا في إجازاتهم التي كانوا يحصلون عليها كل عامين تشعل في قلوب الشباب والصغار قناديل التشوف إلى هذا العالم الذي يمنح الفرص لكل القادرين على العطاء، لاكتساب مهارات جديدة في النجارة، وقيادة السيارات، والكرينات الضخمة، وتعلم اللغة الإنجليزية، والحصول على الرعاية الصحية، والرواتب المجزية، وإكمال الدراسة المتقدمة.

أما مجلة «قافلة الزيت» التي كان يجلبها القادمون إلينا وفيها صورهم وهم يقومون بأعمالهم التقنية، فقد كانت تفتح الباب لأمثالي على فتنة الكتاب والكتابة وجماليات المجلة والجريدة، التي رافقتني منذ زمن الطفولة وحتى اليوم!

الوَعَد «رأس تنورة»
يتناقل العاملون في أرامكو، منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، أبيات قصيدة مجهولة النسب، أختار منها البيتين التاليين:
وين انت يا اللي تبي ظهران
ترا الوعد راس تنوره
قل له ترانا تمدنَّا
كلٍّ يولّع بدافوره

ومثلما كان البترول وعداً بالخير والتطور الذي كان يطمح إلى تحقيقه مؤسس وحدة بلادنا الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فقد كانت أرامكو التي أنتجته، تشكّل بالنسبة لكثيرين من أهالي القرى، ولنا كأطفال أيضاً، جنتنا الأرضية القادمة.

ولذا كان هذا المخيال الحلمي بالنسبة لي، محركاً كامناً قادني منذ كنت طالباً في الثانوية إلى اختيار القسم العلمي، لكي ألتحق بعد تخرجي منها في كلية البترول والمعادن في الظهران، لأكون قريباً من ذلك المخيال. وحين اخترت تخصص الهندسة المدنية علمت بعد ذلك أن هذا التخصص لا يحظى بفرص أكيدة للعمل في أرامكو، ولذلك غيرته إلى الهندسة الميكانيكية.

وفي صيف عام 1974م، تخرجت في كلية البترول والمعادن، وعملت كطالب متدرب في الصيف مع أرامكو في رأس تنورة، وكانت الفرص واسعة أمامي لأعمل فيها ضمن حقلي التخصصي، ولكنني فضلت وعود الظهران، لأعمل في عدة إدارات خلال أكثر من ثماني سنوات. وعلى الرغم من عدم تميزي في أي عمل خلال تلك الفترة ، إلا أنني، على رغم ما حققته من إنجازات وظيفية متقدمة في عدة مؤسسات كبيرة أخرى خارج محيط أرامكو، ما زلت أحمل أجمل مشاعر الحنين إلى تلك البيئات العملية المنظمة، والدقيقة في الإنجاز واحترام العمل والنظام، في أرامكو التي غادرتها في عام 1983م.

الطريق إلى القمة
لم يكن الطريق، أو الطرق العديدة التي تنكّبت «أرامكو» سيرها فيها، ممهّدة أو مستقيمة أبداً، و لكن هذه المؤسسة التي انتهجت رؤية إدارية متطورة، استطاعت التكيّف مع التحديات، وتفهّمها، والعمل على تجاوزها صوب قمة جبل ظهران، التي غدت مقراً لأكبر شركة بترولية في العالم.

و قد نجَحَت في ذلك لأنها صنعت بيئة عمل شديدة الكفاءة، استطاعت عبرها إدماج كل الطاقات البشرية التي عملت معها، من خلال برامج التدريب والتأهيل والتحفيز، وترسيخ قيم الجدية و الالتزام والإنجاز في العمل، كأسلوب إداري حديث، يجعل الكفاءة فيصلاً في إمكانات التطور وآفاق التمكين الوظيفي في كافة المجالات. ويبدو لي أن عوامل عديدة ، ومنها ما أحدده الآن – في تكاملها وفي تعارضاتها أيضاً- قد أعانت «أرامكو» على بلوغ هذا الإنجاز، ومنها:

1 – في عام 1932م تم الإعلان عن قيام « المملكة العربية السعودية» كدولة حديثة مستقلة، و في عام 1933م تم توقيع اتفاقية امتياز التنقيب عن البترول. وهذا الترافق، الذي يشير إلى البدء من الدرجة صفر في مواجهة التحديات، كان نبتة جديدة ، لا تحمل آثاراً سلبية من علاقات سابقة بين طرفي الاتفاقية، وهو ما سهّل مهمة تدشين مرحلة الأمل في غدٍ أفضل لحكومة المملكة وشعبها، وللشركة أيضاً!

2 – على مدى قرون طويلة، كان سكان الجزيرة العربية يعيشون على حياة الكفاف، في مجالات الزراعة و رعي المواشي، وصيد السمك، وتبادل السلع والخدمات البسيطة، أما حين تفجرت آبار البترول بوعود الخير، فقد كانت أدنى الأجور التي يحصل عليها العامل في أرامكو ، حافزاً كبيراً يغري الآلاف من أبناء المملكة للالتحاق بالعمل فيها، أو بممارسة أعمال مساندة أخرى إلى جوارها. لذلك فقد كانت جدية العمال السعوديين ورغباتهم في تطوير مهاراتهم أمراً طبيعياً لتحسين مستوى معيشتهم وضمان مستقبل عائلاتهم، وكان ذلك مدعاة لتقدير الشركة وعملها على الإفادة منه، واستغلاله أيضاً.

3 – تشكّلت الكوادر القيادية في أرامكو وفي مختلف التخصصات والمهن من مواطني الشعب الأمريكي، الذي يتحدّر معظم أفراده من جنسيات وأعراق مختلفة. وقد ورث هذا الشعب ثقافة الدستور (1788م) و وثيقة الحقوق (1791م)، فتجاوزوا عقدة إبادة الهنود الحمر، ومأساة استعباد السود الذين تم تحريرهم في عام 1862م، ليدشنوا مرحلة حضارية جديدة ، تؤمن بالتعددية واحترام الأقليات، واحترام المعتقدات، وحقوق الإنسان، والتأكيد على أن قيم العمل والجدارة والكفاءة هي أساس حقوق المواطنة. لذلك استطاعت تلك النخب الأمريكية أن تتأقلم بفاعلية عالية مع العمال السعوديين وغيرهم من الجنسيات الأخرى، وأن تؤهلهم إلى مستويات عملية أعلى.

ومن ضمن الأمثلة على استثمار الطاقات الكامنة في المواطن السعودي، نورد ما دوَّنه مؤلف كتاب «قصة أرامكو السعودية» عن الاستفادة من مواطن ذكي ونبيه وغير متعلِّم، هو خميس ابن رمثان حيث يقول في هذا الصدد: «أمضى بارقر (رئيس الشركة فيما بعد) وستاينكي (الجيولوجي الكبير) وخميس بن رمثان أسابيع عديدة على مدى السنوات القليلة التالية (لعام 1934م) جنباً إلى جنب في أثناء النهار وهم يعدون خرائط الارتفاعات ويبحثون عن النتوءات الجيولوجية وغيرها من العلامات «…» وخميس لا يمكن أن يتوه في الصحراء أبداً، فبالإضافة إلى حاسته السادسة التي هي بمنزلة بوصلة داخلية لا تخطئ، فإنه يتمتع بذاكرة غير عادية تمكّنه من تذكّر شجيرة مرّ بها عندما كان شاباً، أو طريق إلى بئر أخبره بها أحدهم قبل عشر سنوات». ( المجلد الأول ص 84، 85).

وأخيراً
سأقول، وبيقين متجرد من التحيز، إن أرامكو كانت مدرسة صناعية وتقنية وإدارية لبلادنا، حكومة وشعباً، أسهمت في إرساء دعائم تقدم بلادنا وازدهارها، وخلّفت لنا إرثاً مهنياً وتقنياً وإدارياً متمثلاً في «أرامكو السعودية»، وكان على مؤسساتنا الحكومية والأهلية منذ زمن بعيد أن تستفيد من تلك التجربة، في كافة الحقول المعرفية والإدارية، وأن تفتح «دروازتها» على منجزها الاجتماعي والحضاري في داخل السياج الذي أحطناها به، للإفادة منه في كافة المجالات!

2
ألبوم العائلة الأرامكوية
محمد العباس

لا يمكن للفرد أن يغير مهنته بدون أن تتبدل نظرته إلى نفسه وللحياة التي يعيشها، فهناك تناسب طردي ما بين وظيفة الإنسان وما يجري عليه من تحولالت في مستواه الثقافي والسلوكي. وهذا هو جانب مما يُعرف بالجسد الاجتماعي الذي يمكن قراءة تحولاته واستنباطاته من خلال خطاب الصورة. فمن يطالع صور أرامكو على مدى عقود، سيجد نفسه أمام إعلان عما سيأتي في المستقبل، ويحس في لحظة من اللحظات بأنه يقلّب ألبوماً عائلياً. فهو سجل اجتماعي مشترك يعني الجميع ويمثلهم. خصوصاً أن هناك بعض الأسر التي توارثت العمل في الشركة بأربعة أجيال.

هكذا هي الصورة في أصلها الثقافي. إذ تشكل الذاكرة الحضرية والفضاء المعاش. فمن يتأمل صورة الشابين القرويين وهما يساعدان ملاحظ أعمال الحفر، لس هليارد في تجهيز مثقب حفر البئر رقم 7 سنة 1937م. وكان حينئذ هو مشروع الحفر الوحيد القائم، سيدرك أنهما مجرد عاملين من ضمن فريق يقوم بالأداء العضلي في عملية التنقيب المعقدة التي يؤدي الدور الأبرز فيها خبراء التنقيب المتمرسون. فهما لا يتوليان أي مهمة تذكر سوى مساعدة الطاقم الفني المحترف. وهو أمر يمكن تفهّمه واستيعابه على اعتبار أن صناعة النفط بالنسبة لأبناء المنطقة تُعد في تلك الحقبة بمنزلة الأرض الغامضة التي يجهلون أبجدياتها.

وعند تأمل صورة الاحتفال بإنجاز مهمة حفر البئر رقم 12 في شدقم سنة 1954م بوساطة فريق عمل سعودي بالكامل بعد تلقيهم التدريب المهني المناسب والمكثَّف، ينبثق سؤال مفرح عن المسافة التي قطعها إنسان هذه الأرض للوصول إلى ذلك المرقى العلمي والمهني. فالوجوه كما تفصح الصورة تنم عن الثقة والبهجة والمكانة التي صار يحتلها موظفو أرامكو من أبناء الوطن. الأمر الذي يستدعي تثمين تلك اللحظة من خلال الانفعال الواعي بما تؤديه تلك الصورة العتيقة من إثارة حسّية بالحاضر، وما يمكن أن يكون عليه المستقبل.

على هذا الأساس يمكن قراءة متوالية من الصور التي تدفع بها أرامكو للنشر بين آونة وأخرى للتعريف بتحولات الشركة ومنجزاتها. بما هي السجل الذي يمكن الاعتماد عليه لاستقراء الصيرورة التاريخية والاجتماعية والمهنية والثقافية للموظف الأرامكوي وأناه المجتمعية. فمن يتفحص صورة علي النعيمي في مدرسة الجبل سنة 1946م ويلاحظ ما كانه هذا الطفل البسيط، لا يمكن إلا أن يُصاب بالدهشة والإعجاب عندما يلمح صورته بعد عقود، حيث شغل منصب رئيس أرامكو وكبير إدارييها التنفيذيين، إلى أن صار وزيراً للنفط والثروة المعدنية. وكأن تصويراته تلك تريد القول إن شركة أرامكو قد أوكلت لنفسها نظام يُعلي من قيمة العمل والانضباط والمثابرة.

هناك مسافة شاسعة بين ما كان عليه حال ووعي ومزاج ذلك الفصيل من القرويين والفلاحين والمزارعين والبحارة والرعاة والعاملين في الحِرف اليدوية من الذين التحقوا بالعمل في أرامكو، وبين ما صاروا عليه من مكانة وأناقة واحترافية. فهي رحلة طويلة وجديرة بالتأمّل والدراسة، إذ لم يتغير ذلك العامل الذي كان يخجل في بداية عمله في الشركة من ارتداء الزي الأجنبي بين ليلة وضحاها. حيث كان يلجأ لحيلة حشر ثوبه الأبيض داخل بنطاله في أثناء العمل حتى إذا انتهى دوامه في الشركة أخرجه وغطى به البنطال لئلا يعيره أهله وأقرانه، بل تغيرت وتطورت أدوات تماسه ووعيه بالحياة عموماً، وليس متطلبات الوظيفة وحسب. وذلك نتيجة تدريب ودراسة ورعاية نفسية وطبية واجتماعية جعلت منه في نهاية المطاف كائناً لافتاً يحمل قيمة مهنية انضباطية عالية. بمعنى ظهور شخصية أرامكوية ذات أثر رمزي وواقعي بارز ومثير للإعجاب.

ولا شك أن أرامكو لم تطأ أرضاً فارغة من الإمكانات البشرية، ولم تتعامل مع كائنات خالية من المواهب والقدرات. بل العكس هو الصحيح فهذه الأرض كانت مأهولة بمخلوقات على درجة من الرغبة والقدرة في تغيير معادلة الحياة نحو الرفاهية، كما يشهد تاريخها المهني وتنظيمها الاجتماعي سواء في عوالم الغوص أو الفلاحة أو الخبرة بالصحراء. ولذلك انطلقت أرامكو من حيث توقفت حياة أولئك بفعل انهيار تجارة اللؤلؤ غيرها من المهن التي تأثرت نتيجة الحروب والمجاعات والتغيرات الصناعية الدولية. أي من لحظة التخثّر الحضاري للمكان. ولكنها أرادت أن تسبغ أسلوبها على كل شيء، أي أن تحفر بصمتها الحضارية في المكان وناسه، كما يشهد بذلك التاريخ الاجتماعي لهذه الأرض.

وهنا يمكن التمثيل بقصة خميس بن رمثان وعلاقته بتوم بارقر، أحد أهم الرؤساء التنفيذيين في تاريخ شركة أرامكو. حيث ساوى بينه وبين الجيولوجي ماكس ستاينكي كما يظهر ذلك جلياً من حميمية الصور التي تجمعهم وتساوي بين قاماتهم. فهو دليل موهوب، حسب رأيه، ولا يمكن أن يتوه في الصحراء أبداً. كما أنه متمكن من قراءة العلامات الصحراوية بنفس قدرة الخبراء على قراءة الخرائط. بالإضافة إلى قدراته على فحص النتوءات الصخرية وربطها بالتقارير الجيولوجية. وهذا هو بالتحديد ما مكنّ هذا البدوي من الحصول على وظيفته أوائل الثلاثينيات. فمهارته هي أوراق اعتماده واستحقاقه للوظيفة والمنزلة التي نالها. لدرجة أن الشركة أطلقت اسمه (الرمثان) على الحقل الذي تم اكتشافه في القيصومة.

إن قراءة ذلك الكم الهائل من الصور الأولية لمساكن موظفي أرامكو في حي السعوديين، ووسائل مواصلاتهم، وملبوساتهم، وكل ما يتعلق بحياتهم يكشف عن الوظائف والمكانة المتدنية التي كانوا يقبعون فيها قبل أن يتلقوا التأهيل المناسب. فصورة ذلك الحشد من الشباب أمام مدرسة الحي السعودي التي كانت بمنزلة خيمة (برستي) سنة 1940م تشي بما قررته الشركة من مستقبل علمي ومهني واجتماعي لأولئك القادمين من الأرياف والبوادي. كما أن صور البدو من أصحاب الإبل الذين استعانت بهم أرامكو ووظفتهم سنة 1942م لنقل اللوازم ما بين الرصيف البحري في الخبر ومستودعاتها في الظهران تفصح عما سيكون عليه حال أولئك بعد دمجهم في برامج الشركة وإعادة تأهيلهم وفق حاجاتها ومخططاتها الاستراتيجية.

بالمقابل، تُفصح صور المبتعثين إلى بيروت والولايات المتحدة الأمريكية، ما كان يدور في عقل القائمين على الشركة من خطط للتنمية البشرية. فصورة هاري سنيدر، مخطط جهود السعودة الأولى في أرامكو سنة 1949م، وهو يودّع ثلاثة من المبتعثين العائدين من نيويورك إلى السعودية بعد تلقيهم دورات تأهيلية في مركز التدريب التابع لأرامكو في ريفرهد، تقول كثيراً عن المستقبل. تماماً كما تنطق صورة مجموعة من الطلاب الذين التحقوا ببرنامج الدراسات العليا قبالة البيت الأبيض، وهم في كامل أناقتهم بالمعنى الذي أرادت الشركة توطينه في أذهان أولئك والمهمات الملقاة على عواتقهم. حيث تكشف تلك الصورة ومتوالياتها عن واقع ومظهر موظف أرامكو اليوم. وتلوّح بشريحة اجتماعية ناشئة وواعدة بحداثة الحياة.

إذاً، هنالك علاقة طردية عميقة بين المظهر البدائي الذي كان يبدو عليه موظف أرامكو في بداية فترة التنقيب عن النفط، وبين ما صار عليه اليوم هذا الموظف. فالصورة أو الهيئة الشكلية اللافتة تخبئ تحت طياتها كائناً على درجة من التأهيل العلمي والمهني. بل تقترح وبقوة الشكل الجديد للمجتمعية الحديثة. حيث عزَّزت الشركة إنسان هذه المنطقة مع ما يتوافق مع حاجاتها كأكبر شركة منتجة للطاقة. وهي مهمة يمكن رصد تحولاتها على حافة فكرة السعودة. حيث تفصح لغة الأرقام عن وجود خطة مدروسة يكمن سرها في التدريب الذي سجلت آلة التصوير وعدسات المصوّرين كل تفاصيله.

نعم التدريب، إذ لا يمكن لأي موظف من موظفي أرامكو أن يُستثنى من التدريب. ليس على ما يتعلق بوظيفته وحسب، بل على ما يتعلق بسلامته ووقاية أسرته من المخاطر خارج وداخل نطاق العمل، فهو ذخر الشركة وفخرها وعنوانها الذي تباهي به. حيث يتلقى كل موظفي الشركة تدريباً دورياً على طريقة القيادة الآمنة وأصول السلامة في أدق تفاصيل حياته، بالإضافة إلى ما يتلقاه من تأهيل ثقافي على مستوى اللغة وإتقان استخدام المعدات الصناعية والوسائل الإلكترونية الحديثة، التي تضعه دائماً في المقدمة نتيجة اكتسابه لخبرات غير متأتيه لغيره.

ولتحليل كُنه اللحظة الثقافية التي أسست لها أرامكو وما احتوتها من قيم حياتية حديثة، لا بد من العودة مرة أخرى إلى إرشيف الصور الذي سجل كل ذلك التحول نحو الحرفية العالية، والأداء الوظيفي المتقن. فالصور الأولى كأثر فني تختزن بيانات وأدلة موضوعية. فهي تتحدث عن عمال أميين غير مهرة يقبعون في سلم الدرجات الوظيفية الدنيا بوظائف متدنية في الشركة. ولرفع كفاءة أولئك تم المضي في تصفية مدرسة الجبل، التي لم تعد كافية للإيفاء بحاجات الشركة. وتم دفع السعوديين إلى حقل التدريب الصناعي، من خلال معهد فني مهني للتدريب على أعمال الزيت، مع ما يحف بذلك التأهيل من تنمية لشخصية الموظف الاجتماعية وحضوره الثقافي. كما تُشاهد تلك التغذية المدروسة للشخصية الأرامكوية من خلال إرشيف من الصور الدّالة والثرية بالمعاني لموظفين يمارسون الرياضة البدنية ويرتادون أماكن الترفيه أو يتبضعون في مراكز التسوّق وهكذا.

وبالتأكيد يؤدي ذلك الكنز من الصور مهمة تسجيل اللحظة بأمانة. فمن يرتد إلى الماضي عبر هذه الوثائق البصرية لا بد أن يمارس شيئاً من الربط ما بين الواقع الذي كان عليه إنسان هذا المكان وما راودته نفسه به من أحلام وأفكار وخيالات. ليتمكن من إعادة تشييد تلك الحقبة في الذاكرة، ويتعرف إلى ناسه ومكانه. ومن خلال تلك الصور الأثرية يمكنه الاقتراب أكثر من سر هذه الحياة المجتمعية الجديدة. فهذا الألبوم العتيق المتجدد للعائلة الأرامكوية، ما هو إلا السطح المرئي لما لا يُرى من أعماق تلك الشخصية. وما حظوة المظهر الشخصي الذي يبدو عليه موظف أرامكو اليوم، وأسلوب الحياة التي يشيد بها الآخرون، إلا نتاج تبلور ثقافة ذات مضامين وقيم عالية على كل المستويات. الأمر الذي يفسر ما يُصاب به من يقلّب ألبوم هذه العائلة من عدوى عاطفية.

أضف تعليق

التعليقات