قول في مقال

التربـص باعتبـاره مفتــاحاً للفتنة..!!

مفاتيح الفتنة تصعب على الحصر، خاصة حين يكون الناس أقل علماً بالأشياء التي تحيط بهم، وحين ينخفض مستوى «الاستبصار» نتيجة ضغوط لا تمكن العيون والعقول من أن تنفتح كما يجب لتدرك حجم الأخطار التي تهدِّد سلامة الأفراد والأوطان. الكاتب محمد العصيمي، يتناول فيما يلي «التربص» باعتباره واحداً من أبرز وأثقل مفاتيح الفتنة، موضحاً أن أخطر مثيرات التربص هي سلطة الجماهير الهادرة في الميدانين: الواقعي والافتراضي.

التربص في معناه اللغوي المبدئي العام هو تحيُّن وقوع الشيء، خيراً أم شراً، فأنت تتربص بطبيبك بعد الكشف عليك لتستقبل الخبر، خيره وشره. لكنه، فيما يبدو، من ممارسات لغوية ومناجزات حوارية انتهى إلى ما وقر في أذهان الناس من معنى سلبي للكلمة، وهو أن (المتربِّص) من يستخدم إما المكان وإما الزمان أو كلاهما معاً ليوقع بضحيته. ولذلك جاز أن يكون التربص بالسلاح الخفيف والثقيل وبالمواقف، كما جاز أن يكون بالكلمة التي لا يسعى صاحبها إلى تحقيق فهمك بقدر ما يسعى إلى الإيقاع بك وهزيمتك.!!

إذن فإن (الكلمة) سلاح من أسلحة التربص وناطقها أو كاتبها يعلن عن نفسه متربصاً بالآخر متى استدعى مخزونه من اللغة ليسفه هذا الآخر أو يسحله لفظياً لكي يشوهه شخصياً بعد أن يشوه فكرته وأطروحاته التي تناجز ما لدى المتربص.

وهذا يبدو جلياً في وسائط التواصل الاجتماعي التي فَتحت، عربياً، أبواباً واسعة لطرح الآراء. كما يظهر، أيضاً، في برامج التلفزيون الحوارية، التي كثرت وتنوع ضيوفها من كل التيارات، وصار ممكناً في هذه البرامج، على نقيض ما كان سائداً في السابق، أن يتجاور المحافظ مع الليبرالي والمنفتح مع المنغلق في الاستوديو الواحد ليناقشوا قضية سياسية أو اجتماعية ساخنة.

لكن ما يبدو أنه غير ممكن، أو أقرب إلى المستحيل أحياناً، أن يأتي المتحاورن في الفضاء الافتراضي أو التلفزيون وهم يحملون هم التفاهم، فالغالبية، إن لم أقل الكل، يدخلون ساحات الحوار المتاحة ليزيدوها اشتعالاً. وهم في تصرفاتهم المشهودة الأعم يتربصون ببعضهم وكأنهم في ساحة حرب وليس في ساحة كلام ونقاش يجوز فيها ما تركته لنا حكمة الإمام الشافعي الخالده، من أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.

وهذا الحوار المتربص، إذا اتفقنا على وجوده وتراكم ظواهره، له أسبابه المتعددة التي تصعب هنا الإحاطة بتفاصيلها، لكن أهم هذه الأسباب هو ما يبدو ظاهراً من سلطة الجماهير على الرموز، فقد وقع كثيرون في حبائل الإغراء الجماهيري، لتصبح الجماهير ورغباتها وشهواتها هي التي تقودهم بدلاً من أن يقودوها هم بالحكمة والقول الحسن. وقد حدث، وهذا طبيعي من وجهة نظري، من جراء الوقوع في أسر الجماهير سباق واضح محموم على (الأنا) أدى إلى ظهور حرص شديد وأولوية قصوى، لا تسبقها أية أولوية، على (أيُّنا) جماهيريته أوسع وأسرع نفاذاً إلى ما يشتهي الناس ويترقبون.

ولذلك، أيضاً، أصبح واضحاً أن قائد الرأي، أو من يحسب على قادة الرأي، صار همه أن يرى، مثلاً، أكبر عدد من إعادة التغريد في تويتر لكلمة أو جملة قالها وكم أضافت له من التابعين وتابعيهم وتابعي تابعيهم. وهذا حتماً سيفوت عليه الفرصة بأن يكون أكثر حكمة وحذراً، بل ويجعله أكثر تسرعاً وخفة حين يلقي خطابه أو يرسل كلماته عبر وسائل الاتصال إلى الجماهير التي يخضع راضياً، أو مغيباً، لسلطتها. كما أن مصيدة الجماهير هذه، وأنا من شهود العيان عليها، أوقعت بعض الناس في أخطاء متوالية تراجعوا عنها قبل أن يجف حبرها.

وما هو أخطر أو أسوأ من ذلك أن السباق أمام المدرجات المكتظة بالمريدين، بالملايين أو بالآلاف، جَرّأت بعض الناس، الذين نحسبهم أعقل وأحكم، على بعضهم إلى درجة التنابز بالألقاب والتقليل من شأن الآخرين على أساس المحتد القبلي أو المذهب أو اللون أو الجنس. وكذلك كانت (الغيبة) المفرطه بحق أشخاص بعينهم رأى فيهم المتربصون، المتكسبون جماهيرياً، لحماً سائغاً للمضغ.

الأدهى والأمر من ذلك أن (النجم) المتربص الذي غيبته الجماهير عن إدراك خطورة الكلمة كسلاح فتَّاك بات مستعداً للمخاطرة حتى بنفسه لكيلا يسبقه أحد إلى الأضواء التي تخطف أبصار الناس. ولو أخذنا أمثلة من رسائل بعض نجوم التواصل الاجتماعي، سنجد كثيراً من (التضحيات) الشخصية غير المحسوبة على المستوى الشخصي ولا المعقولة على المستوى الاجتماعي. والبطولة، كما نعلم، شأن نفسي لايوجد بشري لا يسعى إليها أو يتمثلها، لكن ما يحوِّل البطولة إلى سفاهة هو أن تعتقد أنك ستلقي كلمتك القاتلة ثم تنفذ من سلطة النظام أو ردة فعل الجماهير المضادة الغاضبة. وهذا هو ما يفسِّر لنا وقوع كثيرين في العالم العربي كله في قبضة العقاب، سواء أكان سجناً أم جلداً أم تشهيراً.

الاستعداء، أيضاً، من نواتج أسباب التربص، فأنت حين تكون مصاباً بشهوات الأضواء ورغبات الجماهير تكون أكثر استعداداً لإيجاد العداوات لشخصك أولاً ثم للتيار الذي تنتسب إليه. ولا يستثنى من ذلك، بالمناسبة، أي تيار من التيارات التي تتصارع أمامنا، فكلها تستعدي على بعضها بعضاً وتبتعد بآلاف الكيلو مترات عن احتمالات التفاهم والالتقاء على كلمة سواء. وقد جربت شخصياً في أكثر من حوار تلفزيوني هذا الاستعداء، الذي يسبقه إصرار وترصد، إذ بمجرد أن أبدأ الكلام أشعر بأن من بجواري يلتقط كل حرف أقوله ليجعل منه مادة للهجوم اللفظي المسلح علي وعلى أفكاري.

وفي بعض البرامج التلفزيونية، التي شاركت فيها مع نجوم مستعدين سلفاً للتصادم، شعرت، أحياناً، أننا قاب قوسين أو أدنى من التعارك بالأيدي، أو أن كوب الشاي الذي يجلس أمامنا سيكون له حالاً وظيفة بيننا، حيث يمكن أن يهوي على وجه أو رأس أحدنا. وهذا يعني أن من دخلوا الاستوديو أتوا متربصين ولم يأتوا متفاهمين حتى لو ادعوا ذلك أو حاولوا أن يظهروا على غير طبيعتهم.

وعليه، نتيجة لكل ما سبق، يجب أولاً أن نعترف، وقد قدَّمت لكم بعض الأمثلة، بأننا نعيش في هذا الزمن حالة مزمنة من التربص ببعضنا، وأن كلاً منا يسن سكاكينه (اللفظية) ليسحق الآخر المضاد له في الأفكار والآراء والرؤى الوطنية، التي نقول أو نزعم أننا معنيون بها وببلورتها لتحقيق الصالح الاجتماعي العام على كل صعيد.

وإذا حدث هذا الاعتراف، وأنا شخصياً أعتقد أن حدوثه سيتأخر كثيراً، سيمكننا وقتها أن نحصل على المادة البديلة الصحيحة لجدلنا وحواراتنا وهي مادة (التفاهم) النافية قطعاً لرغبات التربص، لما تتمتع به من خواص حميدة أهمها أن المتحاورين صادقي النية في حواراتهم والوصول إلى حلول لاختلافاتهم تجنباً لموبقات التفرق والتمزق والفتن. وهذا سيتطلب جهداً وطنياً كبيراً يشارك فيه الجميع، يبدأ من رياض الأطفال وينتهي بمراكز القرار.

أضف تعليق

التعليقات