قول آخر

صفحة .. في مقدمة ابن خلدون

يُتحفنا الكاتب زكي نجيب محمود في كتابه «هذا العصر وثقافته» بعبارة يقول فيها: «في دارنا تراث نعتز به، وفيه انعكاس لخصائص نفوسنا، غير إن حضارة جديدة اقتحمت علينا الأبواب ودخلت بقوادمها، وإن تكن بقية أعجازها ما زالت منحشرة عند أبواب الدخول».
أحببت أن أتخذ من تلك العبارة مفتاحاً ألج به مائدة ابن خلدون (732هـ/ 1332م – 808هـ/ 1406م)، تلك المائدة التي لا أظن أن مثقفاً بمنأى عن الالتفاف حولها للفوز بكؤوس لذائذها الذهبية, والكشف عن بعض مكنونها.
ومن جميل الأقدار أن بحثي في الدكتوراة تضمَّن الفكر التربوي الإسلامي من جميع الجوانب المعرفية والعلمية، ومنها ما يتعلَّق بالمعلِّم والمتعلم، والمنهج وطريقة التدريس، والتعزيز والتحفيز، وغير ذلك.
وقد كان لابن خلدون نصيب الأسد من تلك الدراسة، وقد ذهلت عندما وجدته جمع ذلك كله في صفحة واحدة، في الفصل التاسع والعشرين التي يخاطب فيها كل تربوي واصفاً رسالته بـ«الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته»، فإن كنتَ مسؤولاً تربوياً أو مشرفاً أو معلِّماً أو تحت يدك من تربي عقولهم، فما عليك إلا أن تقرأ هذه الصفحة وتتأمل ما فيها.
يقول ابن خلدون: «واعلم أن تلقين العلوم إنما يكون للمتعلمين على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً»، وهذا ما نسميه تدرج في التعليم، منطلقاً بعد ذلك إلى سبيكة أخرى بقوله: «ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد»، ويعني مراعاة الفروق الفردية.
ثم ما يلبث أن يؤكد على ضرورة العناية بعقل الطالب حين يكون متقبلاً، نظيفاً، مستعداً بقوله: «ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته»، وهذه طريقة التدريس المقننة بـالتوسع والشرح والتفصيل.. الطريقة التي يفصلها أكثر بقوله: «ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مهماً ولا مغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته» وفي ذلك أجملَ مهارة جودة التعليم! داعماً إياها بقوله: «التقريب والإجمال والأمثال الحسية» ما يعني به تقريب المعنى.
وتعريجاً على الجانب النفسي يقول ابن خلدون في هذه السبيكة: «إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له. كلًّ ذهنه، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله»، وهذا يعبِّر عن مراعاة للجانب النفسي للمتعلم، التي تُعد من أهم مبادئ التعليم.
ولعل من أهم القواعد التي أصَّلها ابن خلدون في مقدمته، هي حاجة الطالب إلى العالم، فيقول: «لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم، استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب مزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم»، تلك الغايات التي تثبّت بالقاعدة الخلدونية، حيث يقول: «وينبغي ألاَّ تطوّل على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان».
وما أجمل تعبيره عن قاعدة التأكيد والتغذية الراجعة بقوله: «لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه»، أما عن التخصص والتسلسل المنطقي للمادة من العام إلى الخاص فيقول: «ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم ألاَّ يخلط على المتعلم علمان معاً فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال».
ويختم مائدته الغنية بكأس من تجربته الفريدة في التعليم، وقد خصَّ بها المتعلم تعزيزاً وتحفيزاً بقوله: «إني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناع تظفر بكنز عظيم وذخيرة شريفة».
ولعل ما أدهشني هو أن ابن خلدون يعيب على معلمي عصره، فيقول: «وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا، يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه فيحلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها».
لقد جمعت هذه الصفحة إضاءات وإشارات بأيها نعمل نتقن! فإصلاح الأمم وصناعة الحضارة لا يكون إلا بإصلاح التعليم وشأن المعلم، وهذا هو شأن الأمم المتقدمة.
لا يقتصر الأمر على سبورة ذكية ولا حاسب آلي أو جهاز لوحي محمول تثبت فيه البرامج، وإنما هي روح العلم وطرائقه التي تحدث عنها ابن خلدون، تلك الروح التي تحرك الكون في نفوسنا.
إذا تشرَّب العاملون في المؤسسات التعليمية تعاليم تلك الصفحة، فإننا سنصنع نماذج محرِّكة في معلمينا، وسنوفر كثيراً من الأموال والأوقات وسنجني الثمرات ونبني العقول ونريح النفسيات ونراعي الحاجات ونؤهل أصحاب الاختصاصات.
وإذا أردنا أن نغير وجه الحياة التي نحياها، فلن يكون ذلك بفتح كتب من سبقوا، لنروي عنهم ما قالوا، وننقل عنهم ما صنعوا، بل لنستشرف المستقبل ممن سبقونا لنجعل منهم أنموذجاً يُحتذى، ومصدراً للإلهام فيما ينبغي أن نصنع.

أضف تعليق

التعليقات