طاقة واقتصاد

المستهلك..
في عصر العولمة

  • Rayban
  • shutterstock_120850630
  • shutterstock_137342978
  • Ford_Car
  • Ford_Popart
  • Machine
  • map_3_copy
  • shopping cart of gifts

أصبح الاستهلاك سمة الحياة العصرية، ومنذ أكثر من قرن من الزمان لم يعد الاستهلاك يقتصر على نطاق الضروريات، بل امتد ليشمل كثيراً من السلع الترفيهية، عبر عملية ترويج هائلة قلبت في طريقها كثيراً من المفاهيم والقيم، وكونت ما أصبح يعرف بالمجتمع الاستهلاكي.
لقد توسعت أنماط الاستهلاك منذ أصبح متاحاً لكل فرد أن يشتري سيارة، ويحمل هاتفاً محمولاً، ويرتدي أحدث صيحات الموضة، ويكون عالماً افتراضياً من الأجهزة ووسائل التواصل والمقتنيات الرقمية، أصبح الاستهلاك ثقافة، كما أصبح محركاً جديداً للاقتصاد، وأصبح الاستهلاك يحكم الحياة الاجتماعية بكل أبعادها. من السلع الغذائية والخدمات إلى العلاقات الاجتماعية كما الثقافة والفنون.
ولم يعد الاستهلاك محصوراً بطبقة اجتماعية أو ثقافية محددة. فعمليات الترويج الاستهلاكي العملاقة تمكنت من أن تصهر الطبقات. فالمجتمع الاستهلاكي ينحو إلى صهر التباينات والاختلافات في ثقافة واحدة وسلوكيات متشابهة.
وإلى ذلك فإن النزعة الاستهلاكية تقوم بمهمة اجتماعية وإصلاحية أساسية؛ فهي تؤدي إلى إشباع رغبات وتطلعات الفرد في تحقيق ذاته.
في المقال التالي يتناول الباحث أمين نجيب ثقافة المستهلك، والنزعة الاستهلاكية، وتكوينها الثقافي والاجتماعي.

في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، 1835م، لاحظ الكاتب الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، إبان رحلته إلى أمريكا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، انتشار ظاهرة جديدة هي الديمقراطية، تلازمها ظاهرة أخرى متعلقة بها هي الاستهلاك. وهذا، يجلب «الراحة وحسن الحال». وتوقع بشكل مسهب وعبقري في الوقت نفسه، انتشار هذه الظاهرة على نطاق العالم. لقد أعطى دو توكفيل مدلولاً لغوياً للاستهلاك لم يكن شائعاً في ذلك الوقت يتصل بمفهومنا الحالي له.

لكن عندما أطلق ثورثتاين فيبلين الاقتصادي الأمريكي نظريته المعروفة حول الاستهلاك، في أواخر القرن التاسع عشر، بعد أكثر من نصف قرن على ملاحظة دو توكفيل، استهجنها كثير من المهتمين بهذا الحقل الجديد. خصوصاً أن تلك الفترة، كانت تُعد في أمريكا وأوروبا عصر النظريات الكبرى في علم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة، وكذلك الاختراعات العلمية والتكنولوجية الفذة. فتساءل كثيرون: ما هي هذه النظرية التي تنبثق من شيء تافه: الاستهلاك؟.

يقول فيبلين إن لبعض السلع، بجانب قيمتها الاستعمالية الأساسية كالغذاء والملبس وغيره، فإنها ترمز إلى «البريستيج» أو «المكانة». وظهر ما يعرف بـ«تأثير فيبلين». فيما بعد، تأثر كثير من علماء الاقتصاد والاجتماع بنظرية فيبلين وذهبوا بها بعيداً جداً لطرح فكرة المجتمع الاستهلاكي المختلف اختلافاً جذرياً عن المجتمع ما قبله في كافة تركيبته ووظائفه.

الإنتاج يغيِّر العالم
النزعة الاستهلاكية التي لاحظها دو توكفيل باكراً جداً، رغم كونها لمَّا تزل في طور جنيني، وغير واضحة للعيان، التقطها بعد حوالي سبعين سنة، وبشكل لا يقل عبقرية، هنري فورد صانع السيارات.

كانت حيازة السيارة في بداية القرن العشرين مقتصرة على أصحاب الطبقات العليا. وكانت صعبة الاستعمال. إذ كان صاحبها بحاجة إلى سائق وميكانيكي وعدة كثيرة لاستعمالها. فقلما تنجو رحلة واحدة من تعطلها. كانت بالفعل ترمز إلى ما وصفه فيبلين قبل أكثر من عقدين بـ«البريستيج». فسأل هنري فورد نفسه: لماذا لا تكون السيارة أقل تعقيداً وأسهل استعمالاً وسعرها بمتناول العامة؟ ولم تمضِ سنوات معدودة من بدئه صناعة أول سيارة حتى كان يتباهى سنة 1914م أن أي عامل لديه يستطيع شراء سيارة موديل «فورد ت» بمعاش شهرين فقط. إذ إنه استطاع تخفيض سعر سيارته من حوالي 1200 دولار سنة 1907م إلى حوالي 270 دولار سنة 1914م بواسطة ما يعرف اقتصادياً بإنتاج السلسلة. وكان قد رفع أجور العمال إلى خمسة دولارات للعامل في اليوم على الرغم من معرفته أن أجور العمال كانت تشكِّل نسبة كبيرة من تكلفة السيارة. وقد عمد فورد إلى الترويج لصناعته من خلال شركات الإعلان. لكنه في فترات لاحقة, عندما بدأ إنتاج السيارات بالملايين والطلب عليها فاق العرض, توقف لفترات طويلة عن الترويج إذ لم يكن بحاجة إليه. فقد كان حديث السيارات وإنتاجها شاغل الصحف والأمريكيين جميعاً. لقد حول هنري فورد السيارة إلى سلعة ضرورية لكل فرد أمريكي. فترك هذا أثراً عميقاً جداً على المجتمع الأمريكي. ويمكن أن يتخيَّل المرء ما يقتضيه، في ذلك الوقت، وجود عشرات ملايين السيارات من صناعات أخرى متصلة بها، من مصانع التعدين إلى المطاط والجلد والزجاج وغيره وغيره. دون وجود أي بنية تحتية لذلك. فشقُ الآف الكيلو مترات من الطرقات بحد ذاته يتطلب كثيراً من المشاريع الأخرى. وكذلك صناعة النفط، ومحطات الوقود، ومرائب التصليح، وغيره مما يرافق ذلك من نشاطات اقتصادية كثيرة. هذه العملية، أي الإنتاج على نطاق واسع، مع تمكن الأمريكي العادي من الشراء، غيرت وجه أمريكا، والبعض يقول إن هنري فورد غيَّر وجه العالم.

دور الإنتاج يتراجع
بعد مائة عام، ما هو حال الإنتاج ودوره في الاقتصاد وتغيير حياة الناس مقارنة بعصر هنري فورد؟ سنتناول سلعة حديثة أخرى واسعة الانتشار، ومعولمة من ناحية الإنتاج والاستهلاك ولها مغزى يتعلق بموضوعنا، خصوصاً قيمة الدلالة، التي سنتوسع بشرحها لاحقاً، هي جهاز الهاتف المحمول الذكي «الآيفون» الذي تنتجه شركة «أبل» الأمريكية. وسنعتمد على دراسة واسعة قامت بها ثلاث جامعات أمريكية، هي: جامعة كاليفورنيا – أيرفين، وجامعة كاليفورنيا – بيركلي، وجامعة سيراكوس سنة 2011م. ذلك، إثر الأصوات الصادرة من بعض الأوساط حول ابتعاد أمريكا عن الإنتاج الصناعي من خلال نقله إلى الخارج والاعتماد على الاستهلاك والخدمات. فجاءت نتيجة الدراسة مذهلة.

تصنع شركة «أبل» «الآيفون» في الصين بوساطة شركة «فوكسكون» التايوانية التي تشغل حوالي 240 ألف عامل صيني. وتبلغ تكلفة الإنتاج الإجمالية هي %27.1 من السعر النهائي «للأيفون»، موزعة على الشكل التالي: العمالة الصينية هي %1.8 فقط وتكلفة ما تبقى من الإنتاج في الصين هي %3.5. أما بقية كلفة الإنتاج فهي %21.9 موزعة عالمياً: الرقاقات الإلكترونية من كوريا الجنوبية وبقية المواد من شركات أمريكية ويابانية وأوروبية وتايوانية. أما حصة الأسد فتبقى لشركة «أبل» وهي %58.5. هذه هي قيمة الدلالة التي يدفعها المستهلك حول العالم ثمن الماركة «أبل» وتشمل الترويج والتصميم والإدارة. هذه كلها موجهة نحو المستهلك الذي أصبح يتصدر النشاط الاقتصادي وحل محل هنري فورد من ناحية الاهتمام والأهمية.

ضعف الاستهلاك مقابل قوة الإنتاج
في بداية القرن العشرين وصلت حُمى الإنتاج إلى حدود لم يكن في استطاعة النزعة الاستهلاكية الوليدة أن تستوعبها. فحصل إذ ذاك الكساد الكبير في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات. وانهار الاقتصاد بكامله، حيث امتدت آثاره إلى كافة الأسواق العالمية. أدى ذلك لإطلاق ثورات استهلاكية لا تزال تتوالى فصولاً بوتائر متزايدة. ويقارن بعض الباحثين عملية إطلاق حرية المستهلك، بعملية تاريخية أخرى، هي تحرير العبيد ابتداءً من القرن السابع عشر. إثر بروز الحاجة الماسة إلى اليد العاملة الجديدة التي لم تكن تعرف من قبل. إذ كان النظام الاجتماعي قائماً على ثنائية الأسياد والعبيد. فتم تحرير العبيد من النظام الإقطاعي ليعملوا في المصانع التي بدأت للتو بالتوسع. آنذاك تحوَّلت المجتمعات الغربية إلى ما يشبه الورشة الكبيرة لإزالة العوائق أمام تقدم المستهلك. ليس فقط الاقتصاد كله تحوّل من التركيز على الإنتاج إلى التركيز على الاستهلاك، بل مؤسسات التعليم والتربية والثقافة والمؤسسات الحكومية انتقلت للتركيز على المحاسبة، والتسويق، والمبيعات، وسلوكيات المستهلك..الخ. إن كليات ومدارس جديدة أصبحت تفرخ في كل زاوية، وأدى ذلك إلى إطلاق العنان لحرية المستهلك كسجين فك أسره.

تطور الاستهلاك
الاستهلاك هو سبب وجود الحياة. عالم الحيوان وعالم النبات يستهلك الغذاء ليبقى ويستمر. ولعشرة آلاف سنة خلت، كان الإنسان لا يزال في مرحلة الصيد والتفتيش عن الغذاء، كما بقية الحيوانات. وتمحورت علاقاته حول هذا النشاط. فإذا نظرنا إلى تلك المجتمعات من منظور عصري، فسنجدها مجتمعات فقيرة جداً. ولم يكن الفرد يمتلك أي شيء. لم يكن هناك عمل بالمعنى الحديث. ولم يحتاج الفرد لأي حسابات اقتصادية؛ ولم يجمع لنفسه أي شيء، فلم يكن هناك حاجة للتبادل.

ويقول «مارشال ساهلين» عالم الأنثروبولوجيا، إن هذه المجتمعات، بعكس الاعتقاد السائد، كانت مجتمعات الوفرة. لإن حاجاتهم كانت محدودة بالغذاء؛ والطبيعة كانت توفرها بشكل غير محدود. لم تكن اللغة تحوي كلمات كالفقر والغنى. وفكرة العمل لم تظهر بعدُ.

لكن الإنسان تفرَّد من بين الكتلة الحيوية كلها بربطه الاستهلاك بما عرف لاحقاً بالسلعة. التي هي شيء، بجانب قيمته الاستعمالية في غذائه وفي حياته اليومية، يمكن مبادلته مع أناس آخرين بسلعة أخرى. تطورت إدارة هذا التبادل مع الوقت لتصبح تجارة داخل البلد الواحد ولاحقاً مع البلدان الأخرى. وإنتاج السلع بدأ بالزراعة وتطور إلى الصناعة. إن إدارة إنتاج السلع ومبادلتها عرف لاحقاً بالاقتصاد. الكلمة العربية كما مرادفها الغربي، «الإكونوميكس»، تعني الإدارة والتوفير، ولاحقاً أصبح يُعرف الاقتصاد في أول درس جامعي أنه الموازنة بين حاجات لامحدودة وموارد محدودة. هذه العملية شكلت القاطرة للحضارة البشرية وتقدمها. لكن منذ حوالي 100 عام توسع الاستهلاك خارج نطاق الضروريات ليصبح شاملاً. فتحوَّل كثير من السلع الترفيهية، التي كان يقتصر استهلاكها من قبل الطبقات الميسورة، إلى ضرورية، عبر عملية ترويج هائلة قلبت في طريقها كثيراً من المفاهيم والقيم. هذا ما ندعوه المجتمع الاستهلاكي. هذا التحول في انتقال كثير من السلع من خانة الرفاهية إلى الضرورية على نطاق واسع، ليس بالمسألة البسيطة التي يمكن أن يتخيلها المرء. لقد أطلق هذا التحول مسار تغيير كبير في العادات والتقاليد والسلوك الفردي والجماعي، وامتد إلى الثقافة والعلاقات الاجتماعية.

والحال، أن ظاهرة الاستهلاك، في عصرنا الحالي، توسعت وتعمقت وتجانست لتصبح بحد ذاتها القيمة الأساسية للعولمة الحديثة. وخلال تطورها هذا لم تحدث فقط تغيراً جوهرياً في مسلمات علم الاقتصاد التقليدي، بتغيير اتجاهه من التشديد على الإنتاج إلى الاستهلاك، بل أحدثت تغيراً كبيراً في القيم الاجتماعية السائدة في كثير من المجتمعات على صعيد العالم.

أهم العناصر المؤثرة في انتشار الاستهلاك
1 – الترويج
يتمحور الاقتصاد السياسي التقليدي حول التنافس على صعيد الإنتاج من خلال تخفيض التكلفة وتوسيع المنتجات. والدعوة الأساسية في هذا النوع من النشاط كانت تتمحور حول التوفير لضخه في توسيع القاعدة الإنتاجية. بالمقابل، في المجتمع الاستهلاكي انتقل التنافس إلى الترويج من خلال ابتداع حاجات جديدة إضافة إلى الأساسية منها. مما أدى إلى ظهور ما يسمى «قيمة الدلالة» مثل الماركة. فالكثير أو معظم المستهلكين اليوم مستعدون لدفع سعر إضافي لسلعة معيَّنة من ماركة ما حتى لو امتلكت نفس القيمة الاستعمالية لواحدة من ماركة أخرى. الموضة جعلت المستهلك يختار الزي وليس الحاجة. كما جعلته في سباق محموم مع النسخة الجديدة.
هل يستطيع أي أب أن يقاوم رغبة ابنه أو ابنته في شراء الموديل الجديد لهاتف محمول «موبايل» معيَّن إذا رآه مع زميل له؟ أحياناً كثيرة تكون مسألة التقادم بالأشهر وليس بالسنين. والماركة تغني المستهلك أو المستهلكة عن هَمّ التفتيش عن الموضة السائدة؛ إذا ما لبست إمرأة معيَّنة لباساً من آخر ما أنتجته «برادا» مثلاً، فلن تقلق أبداً من أنها لا تتماشى مع الموضة.
لسد هذه الحاجات الإضافية تطلب ذلك نقيض التوفير. فاختفت الدعوات إليه، التي كانت محور الاقتصاد فيما سبق، وحل محلها الترويج إلى الاستهلاك حتى من سياسات الدولة. ومن أوضح مظاهر الترويج الرسمي للاستهلاك الظهور الأول لبطاقات الائتمان في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات من القرن العشرين التي انتشرت فيما بعد كالنار في الهشيم حول العالم. ولسان حالها: «اشتر الآن وادفع غداً». إن هذه البطاقة، التي هي أداة للدين، حررت المرأة من رقبة الرجل وأطلقت نزوعها الجامح إلى الاستهلاك. لم تحدث تغيراً كبيراً في عادات التسوق وحسب، بل أطلقت تغييراً اجتماعياً هائلاً. سنة 1880م صرف على الترويج الإعلاني في الولايات المتحدة 30 مليون دولار. ارتفع إلى 600 مليون سنة 1990م، وارتفع اليوم إلى 120 مليار دولار. هذا الإحصاء لا يشمل قيمة الترويج خارج الولايات المتحدة.

2 – المتاجر الكبيرة
المتاجر الكبيرة، التي كانت قد بدأت بالظهور في القرن الثامن عشر، اضطلعت بوظائف ثورية. أصبحت البضائع تعرض مع بيئة كاملة من الأضواء والموسيقى والأزهار والألوان. حضرت إلى المتجر الكبير الطبيعة بكاملها. وربما عرف مُروِّجو الدعاية بلاوعيهم وباكراً ما اكتشفه علماء الجينات لاحقاً من أن في جيناتنا موروثات من المعلومات تعود إلى ملايين السنين، حين كنا نعيش في الطبيعة التي كانت ترمز في أسطورة سيدنا آدم وحواء إلى الجنة التي طردنا منها، واضطررنا للعمل كي نحيا ونعيش. وها هو المتجر يعيدها إلينا بكل عبقها وألقها.
الوفرة هنا هي الكلمة المفتاح. التوجه إلى الأماكن التي تتراكم فيها السلع بكثرة، حيث ينجذب إليها المستهلك بقوة. الكمية الكبيرة توحي بالوفرة. الفرد في المجتمع الاستهلاكي يرتاح إلى الوفرة. لا يريد العودة مطلقاً إلى حالة الشح. بشرائه واحدة يشعر أنه ينتمي إلى هذا العالم الوافر. لذلك ترى الدكاكين الصغيرة غير قادرة على مقاومة إغراء الإحساس هذا عند المستهلك الجديد. فتراها تتساقط كأوراق الخريف.

3 – انتشار القيم الاستهلاكية
الإنسان المعاصر لم يعد محاطاً بأناس آخرين؛ برجال ونساء وأطفال، كما في المجتمعات السابقة أو حتى الصناعية، أكثر من إحاطته بالأشياء: بالسلع والآلات والأجهزة…الخ. إن الأجهزة في بيوتنا هي العبيد المعاصرين. نمسك الريموت ونمارس سلطة على القنوات التلفزيونية والفديو وألعاب الكمبيوتر..الخ، أين منها سلطات الاستبداد القديم. لقد أعطى هذا المستهلك ثقة بالنفس وشعوراً بالسيادة لم يعرفها من قبل. ما جعله يفض عزلته ويدخل غمار المجتمع بكل قوة. وهكذا لم نعد نشاهد كثيراً من الحركات «الاغترابية» التي كانت تنتشر بكثرة في فترات متباعدة من القرن العشرين كالـ«هيبيز» وغيرها في الستينيات والسبعينيات. لم يعد هناك وقت لذلك. فالوقت أصبح مادة للاستهلاك. أوقات الفراغ تصرف بالطريقة التي ننتج فيها العلاقة الاجتماعية الجديدة. إن آلاف، إن لم يكن الملايين، من الأفراد يلتقون اليوم في أوقات فراغهم في غرف الدردشة على نوع الشيء الذي يمتلكونه: مثلاً أولئك الذين يمتلكون سيارة من نوع معيَّن؛ حيث تدور الأحاديث حول هذا الموضوع. في أحاديثهم الخاصة، ويتماهى كثيرٌ من الشباب مع ما يمتلكون فيقولون إن فلاناً من جماعة «البراند» أو العلامة التجارية المعينة أو أولئك من جماعة المتجر كذا. هؤلاء يلبسون جينز كذا.
لقد أصبح الاستهلاك يحكم الحياة الاجتماعية بكل أبعادها. من السلع الغذائية والخدمات إلى العلاقات الاجتماعية كما الثقافة والفنون. الفرد هنا لا يستهلك في سبيل إشباع رغباته وتحقيق ذاته فقط، بل لإيجاد مكان له في النظام الاجتماعي الجديد.
لم يعد المطلوب التمرد على المجتمع بل الدخول إليه بشغف.

4 – ذوبان الفوارق الطبقية
في المجتمع التقليدي، الاستهلاك هو حقل تتفاعل فيه، وأحياناً تتصارع فيه مجموعة من القيم والثقافات والأذواق الاجتماعية المختلفة حسب أحوال مختلف عناصرها. إن الأفراد الذين ينتسبون إلى الطبقات العليا يحاولون، دون وعي منهم، تكريس سلم من الأذواق تكون فيه واضحة الحدود بين كافة المستويات كقواعد سلوك إزاء كافة الذين هم دونهم في المنزلة الاجتماعية.
يندرج في هذا السياق، وخصوصاً في المجتمعات الغربية، ليس فقط السلع الغذائية والمادية، بل أيضاً أنواع الموسيقى، والأوبرا، والمسرح، والكتب، ومعرفة اللغات الأجنبية، وفنون الرسم الحديثة…..الخ. هذه السلع لا يستخدمها أصحاب المداخيل المحدودة والعمال. بل أحياناً ينظرون إليها بازدراء.
سابقاً، كان المستهلك من الطبقة الدنيا يعتقد أن الثقافة والمعرفة مرتبطتان. يعتقد أن «هكذا تجري الأشياء». ما يستهلكه «الكبار» يأتي من معرفة لا تتوفر لديه. فيقول: «أنا لا أعرف في الفن، لكنني أعرف ما أحب».
لقد تنبَّه خبراء التسويق وعلماء سلوكيات المستهلك باكراً إلى هذه الخاصية المهمة وركزوا إعلاناتهم وكافة وسائل الدعاية المباشرة إلى هذه الناحية بالذات. فتحولت مؤسسات بكاملها إلى مدارس للتدريب وتعليم كيفية الاستهلاك، بما فيها التلفزيون والراديو والصحف والمجلات. حتى أن السينما دخلت في عملية التحول هذه، فظهرت أفلام مثل «سيدتي الجميلة»، «إمرأة جميلة»، «تثقيف ريتا» وغيرها وغيرها جعلت المستهلكين الصغار يتنبهون إلى أنه ما يميز بائع الشارع عن الفتاة الغنية، في هذا الخصوص، قليل جداً من الثقافة ودروس في كيفية التكلم. فالغاية من الاستهلاك لم تعد سد الحاجة والمتعة فقط، بل الانتظام في ثقافة اجتماعية سائدة. ذلك سمح بدخول جيوش هائلة من المستهلكين الجدد إلى السوق لم يشهده الاقتصاد أبداً.
قبل ثورة الاستهلاك هذه، كان هناك كثير من الأماكن المخصصة للنخبة. من الأسواق والمتاجر ومؤسسات التعليم إلى المسارح وحفلات الموسيقى وغيرها. أما اليوم، وعلى الرغم من وجود كثير منها، إلا أنها تنحصر أكثر فأكثر في مجالات معينة.
المجتمع الاستهلاكي ينحو إلى صهر التباينات والاختلافات في ثقافة واحدة وسلوكيات متشابهة، وهذه تتوسع إلى زوايا الأرض الأربع.

إيجابيات الاستهلاك
تقوم النزعة الاستهلاكية بمهمة اجتماعية أساسية لم يستطع الاضطلاع بها معظم المشاريع الإصلاحية التي سبقتها؛ إنها تؤدي إلى إشباع رغبات وتطلعات الفرد في تحقيق ذاته. بواسطة الاستهلاك الحديث، لم يتم فقط القضاء على البشاعة، خصوصاً عند النساء، بل القضاء على كافة سلبيات الجسد.

والحال أن النزعة الاستهلاكية أدت إلى إخماد كثير من الحركات المسببة للاضطراب، وكانت المساهم الأكبر في القضاء على النزعات التي طالما اعتبرها الغرب مضرة به. ما زلنا نتذكر كيف كان الناس في الاتحاد السوفياتي السابق يتلهفون على السلع الاستهلاكية الآتية من الغرب، إلى أن هدموا كل الأسوار التي حالت دون حصولهم عليها. ويقول بعض المحللين إنه لو كانت النزعة الاستهلاكية سائدة أيام النازية لما وُجدت الأخيرة.

والاستهلاك على نطاق واسع أدى إلى انتعاش اقتصادي كبير وأوجد فرص عمل كثيرة. بالإضافة إلى أن النزعة إلى شراء العلامات التجارية الجديدة باستمرار يؤدي إلى تحفيز التطور العلمي والتكنولوجي.

سلبيات الاستهلاك
يقول «معهد الرصد العالمي» ومركزه واشنطن دي سي في تقريره تحت عنوان «حالة العالم 2010»: أن النزعة الاستهلاكية القوية السائدة هي المسؤولة الأولى عن تدهور البيئة واحترار الكرة الأرضية. و«لمنع انهيار الحضارة الإنسانية فلابد من تغيير إتجاهات الثقافة السائدة، التي يجب أن ترفض النزعة الاستهلاكية وتستبدلها بأخرى تركز على الاستدامة». وتعقب جريدة «الإندبندانت» البريطانية على هذا التقرير بعنوان: «نهاية النزعة الاستهلاكية: أسلوب حياتنا ليس قابلاً للاستمرار». ثم تستطرد: «يجب الرجوع إلى أسلوب حياة أساسي مثل استعارة الكتب وألعاب الأطفال من المكتبات بدلاً من شرائها، وأن يعود كل مواطن لإنتاج جزء من غذائه في الحديقة».

لقد أضيف المدمنون على التسوق والاستهلاك إلى لائحة أمراض أطباء النفس. يقول الدكتور «لورين كوران» أستاذ علم النفس في جامعة «ستانفورد»، «إن المدمنين على التسوق في الولايات المتحدة والذين يتم علاجهم هم بالملايين». ثم يعلِّق «أنه ليس فقط الأفراد مدمنون على التسوق والاستهلاك، بل أيضاً الاقتصاد هو كذلك».

بالأمس، كان تلمس الخلاص يتم من خلال الروح، اليومَ من خلال الجسد وإشباعه، وتجميله بالمواد الاستهلاكية وبالوصفات والعلاجات وأنظمة الريجيم. هكذا حلت المتاجر الكبيرة مكان الكاتدرائيات في المجتمع الغربي المعاصر.

أضف تعليق

التعليقات