ما بين كهف أم جرسان ومحيطه من التناقضات ما يستحيل تعداده، حتى ليشعر زائره أنه انتقل من كوكب إلى آخر. في الخارج، سهل صحراوي وفضاء لا يرتفع فيه شيء، ويمتد إلى ما بعد خطوط الأفق التي تراها العين. وفي الداخل، جدران وسقف صخري ثقيل يهدِّدك بالإطباق عليك كلما توغلت داخل الكهف. في الخارج، ضوء باهر تحتاج معه إلى نظارات شمسية، وفي الداخل ظلام تحتاج معه إلى المصباح الكهربائي. وفي الخارج حرٌ شديد، وفي الداخل برودة منعشة. وأكثر من ذلك، في الخارج كانت هناك الخيام الملونَّة والسيارات الحديثة، أما في الداخل فأحدث ما فيه كان يعود إلى بضعة آلاف من السنين..
الكهف القديم المكتشف حديثاً
مع بداية الألفية الجديدة، بدأت هيئة المساحة الجيولوجية في المملكة بتنفيذ برنامج علمي للكشف عن الكهوف في المملكة، وما تحتويه هذه الكهوف من كنوز أثرية وبقايا، تُسهم في إلقاء الضوء على ما استغلق على علماء الآثار والانثروبولوجيا من قصة الإنسان والحضارة، إضافة إلى إبراز ما تتمتع به هذه الكهوف على اختلاف أشكالها وتكويناتها الجمالية من مقوِّمات يمكن استغلالها كمناطق سياحية.
ومن بين نتائج ذلك المشروع كان الكشف عن موجودات أثرية عالية القيمة في أحد هذه الكهوف، وهو كهف أم جرسان الذي يقع في حرَّة خيبر شمالي المدينة المنورة، ويُعد من أكبر الكهوف في الوطن العربي.
يبلغ طول هذا الكهف 1500 متر، ويبلغ أقصى ارتفاع فيه 12 متراً، وعرضه 45 متراً. وعلى امتداد مساحته الكبيرة، يوجد عدد من الفتحات، بعضها نافذ حتى عمق يصل إلى 25 متراً تقريباً. وكشفت التقارير الأولية حينذاك أن من بين الموجودات التي عثر عليها داخله جماجم بشرية وعظام لحيوانات مفترسة وكتابات يعود تاريخها لآلاف السنين.
وفي عام 2008م، قامت الهيئة بجمع هذه الآثار وإرسالها إلى جامعة «سيليسان» للعلوم والتقنية في بولندا لتحليلها وتحديد أعمارها ونوعها. وأكدت نتائج تحليل المواد المكتشفة هناك أن أعمار بعض هذه الموجودات تصل إلى 2300 سنة، وذلك استناداً لبعض الأدوات التي كان يستخدمها البشر آنذاك مثل العصا الخشبية التي كانت تستخدم كأقواس، وبعض المواد التي كانت تُستخدم للرسم والكتابة على الجدران. أما الجماجم المكتشفة داخل هذا الكهف، فقد اختلفت أعمارها من جمجمة إلى أخرى. إذ أظهرت نتائج الدراسة أن أعمار بعضها تصل إلى 2150 سنة، في حين أن أعمار جماجم أخرى تتجاوز 5400 سنة. ووصل عمر أقدم جمجمة مكتشفة داخل هذا الكهف إلى 6440 سنة. بالإضافة إلى الترجيح بأن أعمار بقايا العظام لحيوان الوحش البقري الذي كان بين الموجودات الأثرية تعود إلى 4285 سنة. الأمر الذي يعني أن هذا الكهف كان مسكوناً منذ الألف السابع قبل الميلاد. ولكي يكون كذلك، فمن المرجَّح أن محيطه كان مختلفاً على الصعيد البيئي.
الاستكشاف العلمي الذي قادته هيئة المساحة الجيولوجية كان المقدمة لحراكٍ سياحي نشط، شهده الكهف المذكور، وعاملاً مهماً في صنع نجوميته وجاذبيته، وإذاعة صيته بين محبي الاستكشاف، والمغامرين، وسيّاح الصحراء في المملكة، الذين بدأوا يتوافدون على الكهف منذ العام 2010م بعيد انتهاء الدراسات الجيولوجية، والأبحاث الأثرية التي قامت بها الجهات المختصة مثل الهيئة العامة للسياحة والآثار في المملكة، فكان لا بد لنا من زيارته.
عملنا مع «فريق الرحلات العربية» على تنظيم رحلة شهدت إقبالاً كبيراً من شبان سعوديين متعطشين للمغامرة والاستكشاف. وبدأت الرحلة بالتجهيز والتحضير لزيارة منطقة وعرة في عرض الصحراء، وانطلقت قافلة المغامرين مجهزّة ومدججة بالتقنيات الحديثة التي تعينها على الوصول إلى الموقع، وبمعدات التسلق والاستكشاف.
الطريق يصوغ المزاج أولاً
للوصول إلى كهف أم جرسان، كان علينا أن نسلك الطريق المعبَّدة من المدينة المنورة إلى حرة خيبر في شرقها، ثم أن نقطع الطريق المعبَّدة بأكملها، ونتوغل شرقاً، حيث وصلنا إلى نقطة فراقٍ مع «الإسفلت»، ليبدأ حوار عجلات السيارات ذات الدفع الرباعي مع الصخور البركانية، والحجارة، على طريقٍ وعرة لمدةٍ لا تقلُّ عن ثلاثة أرباع الساعة. كان علينا أن نحرص على الإحداثيات الدقيقة للموقع ونعتمد عليها، لأننا إن لم نفعل، فقد نتجاوزه بسهولة لنتيه في صحراء وأرضٍ فضاء تتسع وتتسع، لكنها لا تتغير في معالمها الصخرية ولا الرملية، ولا تتباين فيها مناظر الاتجاهات على اختلافها. فللكهف ثلاث فتحات فقط تؤدي إليه، وجميعها تقع في منخفض أرضي لا يمكن رؤيتها سوى عند الاقتراب منها.
في البدء، لم تكن الطريق سيئة ولا جيدة جداً. شقتها مئات وربما آلاف سيارات الشركة المنفِّذة للخط الرابط بين قرية الثمد على طريق خيبر وصولاً إلى قرية الحايط. ولكن تدريجاً، راح حال الطريق يسوء شيئاً فشيئاً عندما وجدنا أنفسنا بمحاذاة طبقات الصهارة البركانية التي سالت من بركان جبل القدر وتصخَّرت، ومن ثم فوق الحطام الحجرية المتناثرة من هذه الصهارة.
لم يقطع الطريق الوعرة أي منظر سوى شجرة طلح واحدة، وبضع أشجار حمضية يابسة، والقليل جداً من الأعشاب الصغيرة المتفرقة. أما الحضور الطاغي فكان للفضاء الشاسع ولزرقة السماء، والأفق الذي يتحدَّى البصر في الوصول إليه. ولربما كان في ذلك ما عزَّز قوة وقع الكهف وما فيه عند وصولنا إليه.
أمام الكهف
يتكون كهف أم جرسان من ثلاثة أنفاق طولية، يفصل بينها انكساران صخريان. ويعتقد العلماء أن تكوّنه كان نتيجة انفجار بركاني. فسيلان الحمم المنصهرة يتم عبر ما يشبه الأسطوانات التي تُعرف بالإنجليزية باسم (Lava Tube System). وعندما وقفنا أمام فتحة الكهف الكبرى، كانت درجة الحرارة عالية والشمس ساطعة بشكل لا يُصدَّق. وكأن هذا الفضاء الرحب والضوء الباهر، ضُدٌ يحضرنا للتعرف إلى ضده.
وفي داخله
بمجرد أن خطونا الخطوات الأولى إلى الفتحة الكبرى للكهف، والتي يبلغ عرضها حوالي 45 متراً ويقارب ارتفاعها 20 متراً، حتى لاحظنا أن الأجواء والمعطيات بدأت تتغير بطريقة دراماتيكية.
انحسر الجفاف المحيط بالبوابة التي نمت بين صخورها شجيرات خضراء. وانخفضت درجة الحرارة بشكل ملحوظ ومنعش. أما الضوء الذي يبدأ بالخفوت شيئاً فشيئاً عند المدخل، فإنه يصل إلى الإعتام شبه الكامل على بُعد أمتار معدودة، والإعتام الكامل بعد ذلك بخطوات. ولعل ما زاد هذا الانطباع حدة، هو اعتياد بصرنا لساعات قبل ذلك على ضوء الشمس الباهر.
قيل لنا سابقاً إن درجة الحرارة داخل الكهف ثابتة صيفاً وشتاءً. وهي دائماً في حدود 24 درجة مئوية. وهناك لمسنا صحة ذلك. ولكن كان في الكهف ما ألهانا عن التفرغ للاستمتاع بهذا الجو المنعش.
كانت أرض الكهف قرب المدخل مغطاة بالحجارة الصغيرة والأتربة التي حملتها الرياح. ولكنها تدريجاً صارت صلبة. وكذلك أصبح الظلام دامساً، مما اضطرنا إلى استخدام الكشَّافات الضوئية التي كنَّا قد تسلَّحنا بها. خاصة وأن الكهف الذي بدا شاسعاً عند المدخل، راح يضيق أكثر فأكثر، ومساره أصبح متعرجاً.
كانت المصابيح ترسم دوائر من الضوء على الجدران الصخرية العالية حيناً، والمنخفضة أحياناً. وعلى الأرض، بدت تكوينات رسوبية عنقودية الشكل، قال لنا أحد الخبراء إنها ناتجة عن تبلور المعادن التي تحملها مياه الأمطار عندما تمر عبر طبقات سقف الكهف، وتسقط على أرضه. حيث تجف لاحقاً تاركة هذه المعادن لتتشكَّل، وتشكِّل هذه التكوينات الجميلة عبر آلاف وربما ملايين السنين.
وعلى جنبات الكهف، وإضافة إلى التشكيلات الصخرية المختلفة، الخشنة، والثقيلة، كانت أضواء المصابيح تكشف عن جحور للحيوانات، وبعض العظام الباقية مما نفق منها (حديثة بالطبع).
وفي ذلك العالم المظلم والبارد، لا يكتفي الذهن بما تراه العين. فقد عاد إليه ما سبق أن سمعناه حول اللُّقى التي خرج بها علماء الآثار من هنا، وتؤكد أن هذا الكهف كان مسكوناً منذ أكثر من ستة آلاف سنة.. فراح خيالنا يتأرجح بين ما تراه العين، وبين تصوّر حياة أولئك الذين عاشوا هنا في ذلك الزمن الغابر. وقادنا ذلك إلى الإحساس بشيء من الوحشة، وحشة بدَّدها جزئياً كون فريقنا كبيراً، إذ تألَّف آنذاك من أربعة وخمسين شخصاً من محبي الرحلات والعلوم والتخييم، ومن مختلف الجنسيات.
ولأن المجموعة كانت كبيرة، كانت هناك اهتمامات متنوعة. ففيما كان كثيرون يلتقطون مئات الصور الفوتوغرافية لجنبات الكهف، راح هواة التسلّق ينثرون حبالهم وأدواتهم لتسلّق جدرانه وفتحاته الكبيرة حتى هبوط الليل.
في ذلك المساء، نصب المشاركون خيامهم البلاستيكية في السهل المنخفض أمام البوابة الكبرى. وحول نار المخيم أسبغت السكينة مع منظر ملايين النجوم في السماء جواً غمر الحاضرين بغموضه. كانت لدى الجميع انطباعاتهم وأفكارهم الخاصة، التي اختلفت تبعاً لاختلاف شخصياتهم واتجاهاتهم في التأمل. ولكن ما كان مشتركاً بين غالبية الحاضرين، هو الإحساس بشيء من ازدواجية كل شيء.. ازدواجية الضوء والظلام، الحر والبرودة، الماضي والحاضر، الفضاء الشاسع والكهف الضيِّق.. ولربما أيضاً شيئاً من الوحشة في هذه البيئة غير المألوفة والاستئناس برفاق الرحلة.