كثيرة هي الكتب التي لم يصلنا منها إلا إشارة البعض إلى أنها كانت موجودة في زمن ما. وهذه حقيقة يعرفها الباحثون في أي موضوع قديم سواء أكان في الأدب أم العلوم، فيعتمدون في دراساتهم على ما نقله أحد المؤلفين عن كتاب فقدنا كل أثر له لمؤلف آخر.
سهى محمد أحمد تحدثنا عن بعض هذه الكتب المفقودة، وتتوسع في تناول الأنماط المختلفة من فقدان الكتب وصولاً إلى تلك التي تسجن نسخها المحدودة في أماكن مظلمة، وحتى تلك التي لم تكتب.
نبدأ رحلتنا إلى عالم الكتب الضائعة مع الدكتور إحسان عباس، يرحمه الله، الذي يروي لنا في مقدمة سيرته الذاتية “غربة الراعي” أنه حين أراد أن يكتب هذه السيرة استشار أخاه بكراً، فكان أن قال له: “لا أنصحك بذلك، لأن حياتك تخلو أو تكاد من أحداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته”.
لكن، من حسن حظنا، أن الدكتور إحسان لم يعمل بنصيحة أخيه، رغم أنه يوافقه تماماً، فكتب يقول: “وجدتني أميل إلى كتابة سيرتي… لا لأن ما أكتبه تاريخ مهم، بل لأنه يمثل تجربة إنسان حاول في كل خطواته أن يخلص للعلم بصدق ومحبة”.
وإقدام الدكتور عباس على كتابة سيرته هو جزء من طبيعته التي تحتفي بالكلمة وبفعل الكتابة، وهي تتسق تماماً مع هواية قيِّمة مارسها لسنوات طويلة في جمع منقولات متفرقة عن كتب مفقودة ويضعها في أطر معينة، لكي يتمكن لاحقاً من تصور المصدر الأصلي الذي أخذت عنه. وكانت هذه الهواية أو “الأُلهِيةْ” كما يسميها الدكتور عباس، أساساً ليضع كتابه “شذرات من كتب مفقودة في التاريخ”. (من منشورات دار الغرب الإسلامي)، ولينبهنا من خلاله إلى حتمية إعادة النظر في “تاريخ التاريخ”، وعدم الاكتفاء في تصور التاريخ والتأليف التاريخي على ما هو مطبوع.
النار في الكتب.. لا تنطفئ
حين نتحدث عن الكتب المفقودة، تتماثل أولاً أمامنا صورة الإهمال متحالفاً مع ما هو أخطر: الجناية المتعمدة وسلاحها النار. إذ نكاد نشم رائحة الحرائق التي حدثنا التاريخ عن التهامها لآلاف الكتب على مر العصور وفي مختلف الثقافات. ويخنقنا هذا الدخان المنبعث من مكتبات بغداد التي سقطت في أيدي المغول، ومن مكتبات الأندلس عند جلاء المسلمين عنها، إذ لم ينج من ألسنة اللهب سوى القليل الذي تم تهريبه إلى خارج المكتبات، كما يقول الكاتب البريطاني ذو الأصل الآسيوي طارق علي في مستهل روايته المعروفة “تحت ظلال شجرة الرمان”.
والواقع أن الحروب على مر التاريخ كانت تلتهم الكتب بالشراهة نفسها التي التهمت بها ضحاياها من البشر وصولاً إلى العصر الحديث. إذ يروي لوسيان بولاسترون مؤلف كتاب “كتب تحترق” أن الحرب العالمية الثانية أبادت عدداً لا يحصى من المكتبات، ويذكر على سبيل المثال أن غارة على طوكيو أدت إلى حرق 220 ألف كتاب في المكتبة العامة خلال ساعة واحدة فقط. غير أن حرائق ما قبل عصر الطباعة كانت أخطر من غيرها، لأنها كانت تلتهم المخطوطات والنسخ القليلة من الكتاب الواحد. ولذا فإن الأكثرية الساحقة من مؤلفات كبار العلماء العرب التي وصلتنا، كانت عبارة عن نسخ من كتبهم، في حين أن النسخة الأصلية التي خطها المؤلف بقلمه ضاعت أو أتلفت..
تعدد عوامل فناء الكتب
الأحساء مثلاً
لا يمكن لباحث أن يحصر العوامل التي تؤدي إلى فقدان الكتب. فالكاتب السعودي ناصر الحزيمي يحدثنا في كتابه “حرق الكتب في التراث العربي” عن بعض أكثر أشكال إبادة الكتب إيلاماً، وهي تلك التي تعود إلى ضيق ذات اليد، فيقول إن بعض الكتَّاب كان يعمد إلى غسل ورق المخطوطات للاستفادة منه مرة أخرى. ويبدو الأمر مؤلماً أكثر عندما يقوم الأبناء بالتخلص من الكتب التي ورثوها عن آبائهم لأنهم لا يهتمون بموضوعاتها ولا يدركون قيمتها.
فالمؤرخ جواد الرمضان، صاحب كتاب “مطلع البدرين في تراجم علماء الأحساء والقطيف والبحرين” الذي يقع في اثني عشر مجلداً وطُبع منه مجلدان فقط، يحدِّثنا عن شرائه عدداً من المخطوطات التي تركها عدد من علماء الأحساء، وتخلَّى أبناؤهم عنها. غير أن أغرب ما يرويه هو ما يتعلق بمخطوطات جبل القارة، إذ يقول: “كانت الناس قديماً تضع المصاحف القديمة والأوراق التالفة في هذه الكهوف حفاظاً عليها من الضياع والعبث، بعد أن تنقل من محاريب المسجد. إذ كان الناس يضعون كل ورقة مقطوعة من القرآن الكريم عند محراب المسجد. ونظراً لقلة الذين كانوا يعرفون القراءة، كان الناس ينظرون إلى كل الأوراق المكتوبة سواء أكانت من القرآن الكريم أو من غيره بمهابة واحترام. وعندما كان يمتلئ محراب المسجد، كانوا يرفعون الأوراق ويضعونها في مكان معيّن في كهوف جبل القارة، أو يتم تذويبها في عيون الأحساء”.
ويقول الشيخ الرمضان إنه عثر داخل هذه الكهوف على مخطوطات وأوراق أفادته كثيراً في بحثه عن أسماء وتواريخ عدد من الشعراء والمشايخ. غير أنه يلفت في حديث صحافي أدلى به قبل سنوات قليلة إلى جريدة “الشرق الأوسط” إلى أننا لا نعرف شيئاً عن عهود كاملة من تاريخ الأحساء، مثل إمارة “بني جروان”، وهي أسرة حكمت تلك المنطقة لأكثر من قرن من عام 705هـ وحتى عام 820هـ. إذ ليس لهذه الأسرة أي ذكر في التاريخ سوى إشارة من ابن حجر العسقلاني في كتابه “الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة”، الذي ترجم لرجل من هذه الأسرة يدعى إبراهيم
ابن ناصر بن جروان. ولولا حجر هذا، لما عرف أحد بوجود هذه الأسرة جملةً وتفصيلاً.
وليس الكتاب العربي وحده في مواجهة أحداث غير متوقعة تؤدي إلى ضياعه وفنائه. فمن الحوادث الشهيرة التي وصلتنا تفاصيلها أن الروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو جمع عدداً كبيراً من قصائده المخطوطة في حزمة ضخمة استعداداً لإرسالها إلى النشر، ولكن أولاده أخذوها في غفلة منه ولعبوا بإحراقها في المدفأة، فضاع هذا الكنز الشعري إلى الأبد، لأن الشاعر لم يكن يحتفظ بنسخ أخرى عن هذه القصائد.
ويروي الكاتب ستيوارت كيلي في مؤلفه “كتاب الكتب المفقودة: تاريخ غير مكتمل لكل الكتب التي لن تقرأها أبداً”، أن توماس كارلايل أعار الفصل الأول من كتابه “تاريخ الثورة الفرنسية” لصديقه جون ستيوارت ميل الذي أعاره بدوره لصديق ظنت خادمته أن المخطوط هو مجرد أوراق لا قيمة لها، فرمت بها في نيران المدفأة.
المضنون به على غير أهله
ومن أغرب حوادث حرق الكتب في التاريخ، هو ما نقله إلينا ياقوت الحموي في معجم “الأدباء” عن أبي حيان التوحيدي الذي أقدم على إحراق كتبه بنفسه في آخر سني عمره.
فتاريخ الكتابة والتأليف يشير إلى أن إدراك المرء لقيمة ما لديه، قد يجعله يضن به على غير أهله. ومن ذلك ما ذكره الغزالي في خطبة الكتاب الذي ينسب إليه “المضنون به على غير أهله”، وجاء فيه: “اعلم أن لكل صنعة أهلاً يعرف قدرها. ومن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها. وهذا علق نفيس مضنون به على غير أهله. فمن صانه عمن لا يعرف قدره فقد قضى حقه”.
غير أن ضن المؤلفين والعلماء بالمعرفة على عامة الناس بقي في الحضارة العربية والإسلامية محصوراً في حالات فردية. في حين أنه شكَّل صفة بارزة ومدهشة في حضارات عديدة، ومنها على سبيل المثال الحضارة الفرعونية.
ففي المؤتمر الدولي الخامس للمخطوطات المطوية الذي عقد في مايو من العام الجاري، تحدث الدكتور حسين زيدان عن طي أغلب العلوم في مصر القديمة، التي أخفت معارفها خلف جدران المعابد. ولولا برديات متفرقة نجت من فعل الزمن بفضل فعل الإخفاء والطي، لما عرفنا أي شيء عن علوم مصر القديمة. وهذه البرديات هي ثلاث فقط: بردية إدوين سميث، وبردية كاهون، وبردية برلين. وهذه البرديات على الرغم من قيمتها الكبيرة، لا تدل دلالة كافية على ما وصلت إليه مصر القديمة في مجال الطب مثلاً، إذ إنها لا تكشف لنا عمَّا نسميه اليوم “سر التحنيط” المرتبط بالمعارف الطبية التي كانت مطوية في أيدي الكهنة، فصارت مخفية عن الأجيال اللاحقة، ثم غدت مجهولة تماماً. الأمر نفسه ينطبق على الهندسة المعمارية، فمن المعارف الهندسية التي اعتمدها المصريون القدماء في بناء الأهرامات، لم يصلنا أي شيء على الإطلاق، ولذا لا تزال طريقة بناء الأهرامات أحجية يسعى المهندسون في عصرنا إلى حلها عبر تكهنات غير محسومة…
والكتب التي لم تُكتب
ويذكر ستيوارت كيلي الذي أشرنا إليه سابقاً أن المؤرخ إدوارد جيبون صاحب الكتاب الشهير “انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” اكتشف أن أحد فراعنة مصر (مجهول الهوية) كان صاحب إنجازات في علم الزراعة أدت إلى اختراع الهندسة. ومما لا شك فيه أن باحثاً معروفاً برصانته وجديته ما كان ليطلق مثل هذا الحكم لولا امتلاكه بعض المعارف والملاحظات التي تسمح بذلك، وسواء أكانت هذه المعارف قد ظلت شفهية (على الرغم من وجود بعضها مكتوباً هو الأرجح)، فإننا لم نقرأ كتاب جيبون حول هذا الموضوع، لأنه لم يكتبه أصلاً، بل ظل مشروعاً في ذهنه.
ومما لم يُكتب أيضاً نذكر خاتمة كتاب تشارلز ديكنز “لغز إدوين برود”. فقد نقل الرواة من القرن التاسع عشر أن ديكنز عرض على الملكة فيكتوريا أن يكشف لها عن نهاية الكتاب. ولكن الملكة ماتت قبل أن تعرف هذه النهاية التي بقيت في ذهن ديكنز الذي لم يكمل كتابه.
ونجد في عالم الشعر حالات من التقاعس عن الجمع والنشر أكثر بكثير مما هو حاصل في عالم الأبحاث والروايات. فبعض الشعراء يجد الاكتفاء بمجرد انتهائه من نظم القصيدة، ولا يعود أمرها يهمه في شيء، تاركاً مهمة نشرها والاحتفاء بها للآخرين إذا كان يهمهم الأمر. والأدهى من ذلك، هو عندما تكون القصيدة شفهية أو مرتجلة فتختفي من الوجود وتدخل طي النسيان من دون أثر. فالشاعر السعودي المعروف جيداً حسين سرحان لم يكن يهتم بجمع أشعاره، ويقول الدكتور عبدالمحسن القحطاني في كتابه “شعراء جيل” إن كثيراً من هذه الأشعار لم يكن ليصل إلينا لولا المتابعة الجارية من محبي شعره ونثره، الذين كانوا يطلبون منه إنتاجه حتى يتسنى لهم تقديمه إلى القرَّاء. وقد أفلح علاَّمة الجزيرة العربية حمد الجاسر في حصوله من الشاعر على كرَّاس يحوي 269 بيتاً من الشعر بعنوان “أجنحة بلا ريش”، فكان له الفضل في إنقاذه من الضياع.
الضياع المزدوج
“التعمية” مع وعائها
كان الدكتور إحسان عباس يرى أن الكتب المفقودة ليست فقط تلك التي لم تصل إلينا أصلاً، وإنما تشمل التي لم تتوجه إليها العناية بطبعها وإخراجها من صورتها المخطوطة. فأي دور يمكن لأي كتاب، مهما كان محتواه العلمي أو الأدبي عظيماً، أن يلعبه في ثقافتنا إذا بقي في نسخة واحدة مقفل عليها في إحدى خزائن مكتبة وطنية في الهند أو تركيا أو المغرب؟ وإذا كان هذا القول ينطبق على أي مخطوط نادر في أية ثقافة، فإن لبعض المخطوطات العربية خصوصية تستحق التوقف أمامها، لأنها تمثل ضياع كتابين اثنين بضياع الكتاب الواحد.
يؤكد الدكتور محمد حسان طيان أن عدم الالتفات إلى الكنوز المخطوطة يحرمنا من الاستفادة من علوم كاملة حواها تراثنا، ومن هذه العلوم ما يعرف باسم “علم التعمية” الذي قلما يدور الحديث عنه. وعلم التعمية هو تحويل نص واضح إلى نص غير مفهوم، باستخدام طريقة محددة، وحده من يعرفها يستطيع أن يفهم النص.
وفي كتابه “علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب -الجزء الأول- دراسة وتحقيق لرسائل الكندي وابن عدلان وابن الدريهم” يروي الدكتور طيان رحلته الطويلة للبحث عن هذه المخطوطات وتحقيقها، بعد أن قرأ ما كتبه البروفيسور دايفيد كهن، وهو من كبار مؤرخي علم التعمية، عن تطوير المسلمين لمعرفة نظرية في استخراج المعمَّى، لكن ذلك لم يدرس بعد حتى الآن بشكل وافٍ، لأن التراث الإسلامي المخطوط لا يزال غير مكتشف في معظمه حتى يومنا هذا. وقد اعتمد البروفيسور كهن في كلامه هذا -كما يقول الدكتور طيان- على ما جاء في كتب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقلقشندي الذي خص هذا الموضوع بباب سماه “باب إخفاء ما في الكتب من السر”.
لقد حول الدكتور طيان شغفه بالكشف عن هذا العلم المفقود إلى جهد حقيقي: “لقد وجدنا المخطوط الضائع، عثرنا على مفتاح الكنوز، فما كان أشد فرحتنا.. أرأيت إلى الأعرابي يضل بعيره في الصحراء ثم يجده بعد طول يأس واغتنام؟ أرأيت إلى الأم تفقد فلذة كبدها في متاهة بعد طول بُعد وغياب؟.. كذلك كانت فرحتنا يوم لقينا مخطوطنا الضائع “مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز” لابن الدريهم الموصلي”.
الفقدان النسبي للكتب
وعرفت كل المجتمعات عبر تاريخها فقداناً نسبياً للكتب. نقول نسبياً، لأن الكتاب لا يكون قد تعرض للضياع النهائي، بل لحظر نشره، بسبب تعديه على القيم المقبولة في هذه المجتمعات أياً كان شكل هذا التعدي.
فكُتب ابن رشد التي كتبت أصلاً بالعربية أحرقت كلها في قرطبة. أما محتواها فقد وصلنا بفضل إنقاذ ترجمات لها إلى اللغة اللاتينية. وكتاب المفكر الفرنسي جان جاك روسو “اعترافات” الذي يدرَّس اليوم في الصفوف الثانوية في فرنسا، كان ممنوعاً في عام 1929م، لأنه “يخدش حياء فرنسا”!؟ الأمر نفسه ينطبق على أكثر الأدباء شهرة الذين حوصرت بعض أعمالهم لأسباب سياسية أو اجتماعية حتى في أكثر المجتمعات انفتاحاً، أو زعماً أنها كذلك. فمسرحية شكسبير “تاجر البندقية” على سبيل المثال لا تدرَّس في المدارس الأمريكية، ويمنع عرضها في مسارح برودواي، لأن الشرير فيها هو رجل يهودي، ويرى البعض أنها معادية عنصرياً لليهود.
على كل حال يبقى هذا النوع من فقدان الكتب مؤقتاً،
لا يؤلم أحداً إلا في وقت محدد ومكان محدد، لأن عودة هذا النوع من الكتب إلى الظهور يمكنها أن تحصل بمجرد تبدل الأحوال التي أدت إلى حجبها.
ظلم ذوي القربى
ولكن، لو عدنا إلى كتبنا العربية والإسلامية التي فقدناها نهائياً، ولم نعرف بوجودها إلا لأن البعض أشار في وقت مضى إلى أنها كانت موجودة، لقلنا أنها تمثل خسارة فادحة. ولكن حجم ما فقدناه خلال قرون من الزمن، قد يشير إلى وجود خسارة أكبر في مكان آخر: إنها الكتب التي ضاعت من دون أن يأتي أحد على ذكرها، فلم يصلنا أي شيء عنها ولا عن مؤلفيها.
التعزية الوحيدة في عالم الكتب المفقودة تكمن في بارقة الأمل التي تتكرر من غير إيقاع محدد، عندما نسمع بين الحين والآخر عن عثور أحد الباحثين على مخطوط بالغ الأهمية في شأن معين في هذه المكتبة الوطنية أو تلك. ولو وضعنا جانباً الكتب التي فُقدت بالفعل تماماً ولم يبق منها أية نسخة في العالم، فمما لا شك فيه أن هناك كتباً عديدة نعتقد أنها مفقودة هي في الواقع موجودة في إحدى المكتبات الكبرى أو النائية. ولو تخيلنا أن الواحد من هذه الكتب قادر على أن يسمع صوت المتأسفين على فقدانه، لسمعناه بدوره يهتف لنا: “أنا هنا..”، ولكن جدران المكتبات الوطنية الكبرى وأبواب الخزائن المعدنية تتحالف مع تقاعسنا في السعي إليه، على خنق صوته وإبقائه في مكانه الذي قبع فيه لمئات السنين.
ماذا لو فتَّشنا أكثر؟
إذا كان الكتاب مفقوداً فكيف نعرف أنه كان موجوداً أصلاً؟ سؤال بسيط، لكن الجواب أبسط، وإن كان يطرح مشكلة ليست بسيطة.
نعرف عن الكتب المفقودة من كتب أخرى استندت إليها أو ذكرتها. وأشهر مثال على ذلك في الأدبيات الإسلامية العربية، أن السيرة النبوية الشريفة لابن هشام، تستند في معظم متنها إلى السيرة النبوية الشريفة لابن اسحق. وكان ابن اسحق أستاذ ابن هشام، لكن كتابه فُقد، وبقي لنا كتاب تلميذه.
ومن أشهر وأعظم الكتب التي تحدثنا عن كتب أخرى في التراث الإسلامي العربي، كتاب الفهرست، لابن النديم الوراق، الذي يعد سجلاً زاخراً عن الكتَّاب العرب الذين سبقوا عصر ابن النديم، أو عاصروه، فهو يسرد في باب كل كاتب، مجموعة الكتب التي وضعها، ومنها بالطبع كثير ضاع الآن، إما بالإهمال، أو بالحادثة الكبرى التي أودت بخزانة العرب في بغداد يوم غزاها التتار.
وفي بطون الكتب العربية الموجودة بين أيدينا وفي المكتبات المتخصصة إذن، يمكننا أن ندون قائمة طويلة من كتب كانت متداولة في يوم من الأيام.
أما معرفة الكتب التي لا تزال موجودة اليوم، ولو في نسخة وحيدة في متاحف العالم ومكتباتها التاريخية فضرورية، حتى نقارن بين ما كان، وما بقي، وتكون الكتب المفقودة هي حصيلة المقارنة بين القائمتين.
من أهم المواقع التي تحتوي على مجموعات كتب عربية قديمة في العالم اليوم، مكتبة الإسكوريال في مدريد، وفيها مخطوطات بقيت في الأندلس، بعد سقوط دولة بني النصر في غرناطة سنة 1492م. ومنها متحف الأرميتاج في سان بطرسبرج في روسيا، الذي يضم مجموعة أخرى مما اجتمع للروس خلال صراعهم مع العثمانيين في القفقاز والبلقان.
وتهتم مؤسسات عربية الآن بترميم الكتب والمخطوطات النادرة، حتى يتوقف نزف التراث في هذا المجال، ومنها المجمع الثقافي في أبو ظبي وعدد من الجامعات العربية. لكن اهتمام الأجانب لا يزال متفوقاً، ويدعو إلى شيء من الخجل، أن تكون لغيرنا حميّة تفوق حميّتنا لهذا التراث العظيم.
أبو حيّان التوحيدي
يعتذر ويفسِّر
عندما أحرق أبو حيّان التوحيدي كتبه في أواخر عمره لقلة جدواها حسبما كان يرى، وضناً بها على من لا يعرف قيمتها بعد موته، كتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يوبخه على ما فعل. فكتب إليه أبو حيان رسالة اعتذار وتفسير لأسباب فعلته، رسالة طويلة نقتطف منها الأسطر التالية:
أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله في ثنيه لي: إن العلم -حفظك الله- يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم عاد كَلَّاً على العالِم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علاً، وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار، ثم اعلم -علَّمك الله لخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته. فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً (…).
…ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حبيباً (…) فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها (…) إن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟…
غيض من فيض
من الكتب المفقودة التي لم تصلنا أية نسخة عنها، غير أننا نعرف أنها كانت موجودة ذات يوم بدليل ورود ذكرها في مؤلفات أخرى كمصادر ومراجع لها، نذكر على سبيل المثال طبعاً:
1 – تاريخ الفرغاني.
2 – تاريخ ثابت بن سنان.
3 –
ديوان العرب وجوهرة الأدب وإيضاح النسب لمحمد ابن حمد بن عبدالله الأسدي.
4 – الجوهر المكنون لمحمد بن أسعد الجواني.
5 –
نسب بني العباس لأبي موسى هارون بن محمد بن إسحاق العباسي.
6 –
المنصف النفيس في نسب بني إدريس لمحمد بن أسعد الجواني.
7 – تاريخ السليل بن أحمد بن عيسى.
8 – تاريخ جمعة أبو إسحاق بن حبيب السقطي.
9 – تاريخ يحيى بن علي بن عبداللطيف بن زريق.
10 – أخبار البرامكة لأبي جعفر عمر بن الأزرق الكرماني.
11 – أزهار الأنهار لأسامة بن منقذ.
12 –
سير الثغور لأبي عمر عثمان بن عبدالله بن إبراهيم الطرسوسي.
13 – القسم الثاني من جمهرة أنساب العرب.
14 – الكتاب المجدي في أنساب الطالبيين لابن الصوفي.
وغير ذلك الكثير مما لا يمكن عدّه.