«اللغة العربية في خطر – الجميع شركاء في حمايتها»، كان هذا عنوان المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية، الذي نظمه أخيراً، المجلس الدولي للغة العربية في مدينة دبي، بالتعاون مع منظمة «يونسكو» و«اتحاد الجامعات العربية» و«مكتب التربية العربي لدول الخليج» وعدد من المنظمات والهيئات الرسمية والأهلية العربية والدولية. الكاتب جهاد هديب، جال في ردهات المؤتمر الذي قُدِّم فيه 372 بحثاً ودراسة، قدّمها وناقشها خلال ثلاثة أيام نحو ألف مشارك من 70 دولة عربية وأجنبية، وعاد بهذا التقرير:
قُدّم خلال مؤتمر «اللغة العربية في خطر – الجميع شركاء في حمايتها» 372 بحثاً ودراسة قدّمها وناقشها خلال 3 أيام نحو ألف مشارك من 70 دولة عربية وأجنبية من مختلف أنحاء الوطن العربي ومن بلدان أخرى تقع في نطاق القوس الحضاري والثقافي للحضارة العربية والاسلامية.
إلا أن هذا المؤتمر، غاب عنه الشباب العربي مثلما غابت عنه مبادراتهم «اللغوية» واجتهاداتهم وخبراتهم في التعامل مع وسائل وأدوات الاتصال الحديثة وما تفرّع ويتفرّع عنها، ليبدو المؤتمر مثل ذلك الذي يمشي إلى الأمام بخطى تقوده إلى الخلف.
بالتأكيد كانت هناك أبحاث جديرة حقاً بالاهتمام وتستوقف المرء مليّاً مثل مجموعة من الأبحاث التي قدّمها أكاديميون جزائريون عن خبراتهم في تعريب التعليم والإشكاليات التي واجهتهم أثناء عملية التدريس، وكذلك ملاحظاتهم حول القرار السياسي، ذي الطابع الأيديولوجي، الذي اتخذته السلطات الجزائرية لتعريب التعليم بُعيْد انتصار الثورة الجزائرية مطلع ستينيات القرن الماضي دون الأخذ في الاعتبار إمكانات القائمين على اللغة العربية آنذاك وقدراتهم على التعريب وما تحتاج إليه هذه العملية من استعدادات مسبقة ذاتية وموضوعية.
وهناك أيضاً أبحاث في حقل الترجمة حاول أصحابها أن يطرحوا خبراتهم في المجالات المختلفة، خصوصاً في تكنولوجيا المعلومات. غير أن طبيعة تنظيم المؤتمر والتداخل بين أبحاث من مختلف الاختصاصات والحقول في الجلسة الواحدة، وكذلك تزامن الجلسات التي كانت تُعقد في ست قاعات في الوقت نفسه، حالت دون استفادة أعمق من هذه الأبحاث ومن أطروحات أصحابها.
مستقبل غامض
هكذا أصبح المستقبل أكثر غموضاً وقائماً في المتخيَّل المحكوم لنزوع أيديولوجي بشيوع «لغة عربية» تعيش حاضرها الراهن وتتقدَّم نحو المستقبل مثلما هي موروثة في النصوص الإبداعية، نثراً وشعراً، ومثلما هي عليه في مصادرها ومرجعياتها التاريخية بعيداً عن اللغة اليومية التي يستخدمها الناس وفقاً لاحتياجات طارئة متحولة ومتبدلة غالباً ما لا تجد لها بدائل في العربية في سياق الاحتياج إلى لغة معبّرة عن احتياجات سريعة الزوال ومتكررة دائماً، كما هي الحال في وسائل الاتصال والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي التي أصبحت المجال الأكثر تعبيراً عن حيوية أي لغة في العالم وعلى مقدرتها على الوجود كلغة، تخصّ أمة عُرِفت كل منهما بالأخرى، في عالم متعدد الإيقاعات ويتطور تقنياً بتسارع مدوِّخ.
ربما حدث لأن المؤتمر، وبالتالي المجلس الدولي للغة العربية أي العقل الذي يقوده، بدا أكثر تعويلاً على قرار رسمي عربي يضع هذه اللغة في حصن حصين، وليس على الخبرات العملية والشابة، أو على الأقلّ الاستماع إلى وجهة نظرها في الواقع الراهن، إذ من المستبعد أن اللغة العربية تواجه خطراً يستدعي حمايتها، بل هي تحديات عصرية تضع أي لغة في العالم في سياق اختبار قدراتها على تكييف نفسها، نحوياً وتركيبياً، لتكون عوناً لأبنائها في تواصلهم بعضهم مع بعض، ومع العالم، وكذلك تواصلها مع نفسها من دون أن تخسر شيئاً من مرجعياتها التاريخية، إنما قد تضطر إلى أن تتخفف من بعض هذه المرجعيات التي لم تعد فاعلة في الحياة الراهنة للناس.
مجلدات المخاوف
في هذا الصدد تحديداً، فإن جملة المخاوف التي وُصفت عبر كثير من الأبحاث – وقد ضمّتْها 7 مجلدات جاءت في آلاف الصفحات بتكلفة لا تقل عن 300 دولار للنسخة الواحدة – على أنها أخطار محدقة بمستقبل اللغة العربية، تبدو مبالغاً فيها لجهة أن أي لغة، وليس العربية وحدها، لديها هذا الإرث كلّه من المكتوب والشفوي، كُتب وحُفظ بها عن ظهر قلب طيلة أكثر من 1500 سنة، من الصعب جداً أن تضمحل من اللسان وأن تصبح حبيسة رفوف ومخطوطات لا يفتحها أحد إلا من المختصين باللغات البائدة.
ففيما يتصل بالعربية، ولأسباب نعرفها جميعاً، فإن من سابع المستحيلات أن تكون مآلاتها هي تفسها مآلات اللغات الشفوية أو غير المكتوبة (Unwritten Language) كما هي حال لغات الهنود الحمر في الأمريكيتين، إذ عندما أبيد الهنود الحمر اختفت معهم مئات اللغات المحلية بما كانت تحتضنه في أرحامها من ثقافات.
بمعنى آخر فإن التحديات والصعوبات التي تواجه التطور التقني للغة العربية، لن ترقى إلى كونها مخاطر تهدِّد وجودها الذاتي والموضوعي، فهذه التحديات لم تنشأ فقط بسبب إحساس المجتمعات العربية بالقصور التقني الذي يجعلها تواكب العالم، والذي يتم تصنيعه في بلاد غير عربية وغير مسلمة، بل إن التحدي الأساسي والأكثر أهمية وحسماً بالنسبة إلى اللغة العربية ومستقبلها كامن في حاجة الناس في عيشهم ويومهم العادي، إلى لغة يتواصلون بها مع أنفسهم ومع العالم.
التجربة الماليزية
من بين الأبحاث التي قدِّمت في المؤتمر، بحث حمل العنوان الآتي: «موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك ودوره في تطوير تعليم وتعلّم اللغة العربية لغير الناطقين بها»، وقدَّمه خمسة باحثين من ماليزيا هم: وان روسلي بن، ووان أحمد، وإسماعيل حسانين، وفؤاد رواش، وفهام محمد غالب. وورد في الجزء السادس من مجلدات الأبحاث (ص 392 – ص 404).
ويركز البحث على واقع اللغة العربية بوصفها لغة ثانية لدى المتعلمين الماليزيين وسواهم من بعض البلدان الآسيوية الجنوبية، في الجامعة الإسلامية في ماليزيا. ويطرح الباحثون الخمسة إشكاليات تعلّم العربية خصوصاً المهارات الكتابية، كمرحلة سابقة على توظيفها في التواصل عبر الفيس بوك، مع زملائهم وأساتذتهم ومجموعات أخرى مهتمة بتعلُّم اللغة العربية وكذلك مع مرتادين عرب وغير عرب.
وأكدوا أن شبكة مواقع التواصل الاجتماعي، ساعدت الطلبة على الارتقاء بمهاراتهم الكتابية، وعلى التغلب على الخجل الذي يداهم المرء عندما يتواصل بلغة أجنبية لا يجد في بلاده سياقاً اجتماعياً لتطويرها، بمعنى أنه لا يتحدث بها إلا في قاعة الصف ومع أساتذتهم تحديداً.
وخلص الباحثون في ختام بحثهم، الذي اشتمل على جداول تُبرز الفروقات لدى الطلبة قبل استخدام الفيس بوك وبعده، إلى التوصية بأن يستفيد الطلبة من هذا الموقع، وأن يطوّر المعلمون المعنيون من أدواتهم في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وتوظيفها في العملية التعليمية.
العربية والتكنولوجيا
في المقابل، قدَّم الباحث الأردني الدكتور علاء الرواشدة بحثاً بعنوان: «العولمة التكنولوجية – الإنترنت وآثارها على ثقافة الشباب في الأردن»، ونشر في الجزء الأول من مجلدات الأبحاث (ص 438 – ص 459). وهو بحث لا يخلو من جهد واضح على الصعيد الإحصائي التطبيقي، ومناقشة جملة من الخلاصات التي تمخضت عنها هذه الجداول.
وشمل البحث سلسلة من التوصيات لإنشاء مؤسسات موازية لاستخدام الإنترنت بهدف المحافظة على الشباب وحمايتهم من الآثار الاجتماعية والنفسية والإباحية وسواها. وجاء في التوصية الأخيرة على النص الآتي: «للتخفيف من حدّة التأثيرات المتبادلة بين العولمة التكنولوجية – الإنترنت – والثقافة في وطننا العربي، يجب التركيز على دور مؤسسات التنشئة التقليدية في تشكيل ثقافة الشباب، وازدياد استخدام اللغة العربية الفصحى لصالح اللغة العامية».
حقيقة الأمر أن ما يرد هنا، لا يحتاج إلى تعليق، بل إلى تساؤل في سياق المقارنة بين هذا البحث والبحث الذي سبقه: تُرى ما الذي ستفعله مؤسسات التنشئة التقليدية – والمقصود هنا دينية الطابع – أكثر من النصح والإرشاد الفردي في مقابل هذا التدفق الهائل من الصور والنصوص التي لا يتوقف سيلها ليل نهار على أي متابع للإنترنت؟
وفي الوقت نفسه، لم يسمح الباحثون الماليزيون لأنفسهم بأن ينصبوا ذواتهم أوصياء على طلبة أدركوا أنهم أكثر تفاعلاً منهم مع تقنية الإنترنت، بل اكتفوا ببعض التوجيه في توظيف هذه التقنية للاستفادة منها علمياً. أليس هنالك فرق واضح بين «عقلين» وآليتي تفكير وسلوكين تربويين؟
تعايش اللغة واللهجات
ويشعر المرء أثناء مطالعته لكثير من هذه الأبحاث، أن الدافع الأساس وراء هذه الأطروحات هو الإحساس العميق بالعجز لدينا نحن، عرباً وعاربة، تجاه غياب أي تأثير في مآلات التطورات التقنية والحيلولة دون وصول تأثيراتها إلينا إلا «مفلترة» حسبما نريد نحن.
بل يبدو أن هذه التطورات التقنية، جارفة وقادرة على إعادة ترتيب عناصر فكرة المرء عن نفسه بوصفه فرداً وليس بوصفه جماعة. وهذا الإحساس بالعجز هو الذي يحرّك تلك الدوافع نحو التركيز على حضور اللغة العربية وفقاً لما هي عليه في مصادرها ومرجعياتها التاريخية بصرف النظر عن طبيعة العصر الذي نحيا فيه.
والمراد قوله هنا، إن اللغة العربية التي تنتصر لها أبحاث المؤتمر، ليست اللغة العربية القائمة في التداول اليومي بل في تلك المرجعيات، علماً بأن لغة هذه المرجعيات، التي هي اللغة الأم، وحتى في أرقى عصور ازدهارها كانت تتعايش، بالتأكيد، مع لهجات مختلفة، حينما كان تتسرب من هذه اللهجات إلى اللغة الأم، ألفاظ ومصطلحات تجعل منها دائماً لغة عصرية تواكب التطورات العلمية التي كانت تحدث ببطء آنذاك.
وهذا الأمر حدث أيضاً مع ما استدخله المترجمون العرب من اللغات الأخرى، عندما استخدموا ألفاظاً تشير إلى انزياحات غير معهودة في المعنى، فضلاً عن اشتقاقاتهم لمصطلحات علمية تخص أهل العلم ولا تنتمي إلى لغة التداول اليومي. وهذا أمر من البديهي أن يحدث في أي لغة حيّة يتواصل الناطقون بها مع العالم بكل ما يحدث فيه من إشكاليات.
الأخطاء الشائعة
لنتخيل مثلاً أن بحثاً قدمه 3 باحثين جامعيين، في المؤتمر عن الأخطاء الشائعة لدى الكتّاب والباحثين الأكاديميين، واستغرق أكثر من نصف ساعة علماً بأن الوقت المتاح لم يكن أكثر من 10 دقائق. ويهدف البحث إلى إعادة الكتّاب إلى جادّة الصواب من دون الإشارة إلى ما يمكن تقعيده من هذه الأخطاء الشائعة، غير الفاحشة التي باتت متداولة ولن تؤثر في تحوير المعنى ولا تخل جوهرياً في قواعد العربية، وكذلك بما يجعل اللغة أقرب إلى طبعهم وتطبعهم مثلما يحدث راهناً في اللغات الحيّة في العالم التي تواكب عصرها يومياً وتطرح معاجمها مفردات تستجد أيضاً في حقول متنوعة من المعرفة، حتى لو كان مصدرها هو الحديث اليومي المتداول بين الناس في الشارع.
وما غاب كذلك عن أبحاث المؤتمر، هو أن كثيراً من وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية يقوم الآن بتوسيع نطاق استخدام اللغة العربية، على الرغم من وجود أزمة المصطلح، بل إن كثيراً منها نجح في الوصول إلى معادلة، في حقل تكنولوجيا المعلومات، تسمح بتعريب ما يمكن تعريبه من هذه المصطلحات المركبة وإشاعتها بين قرائها بهدف الوصول إلى لغة جامعة.
صحيح أن هذه المساعي من الممكن أن تكون مجرد محاولات لكنها، على الأقل، تدلّ على رغبة صادقة لتجاوز المأزق الذي يشعرون بإشكالياته مع جمهور القرّاء أكثر من سواهم.
التحرير الإلكتروني
ولنلاحظ أنه في الوقت الذي تسعى فيه إدارات مواقع إلكترونية كثيرة، إلى تحسين سلوكها اللغوي، فتعتمد التحرير قبل النشر ومن بينها سلامة اللغة ومطابقتها لأصول قواعد اللغة، وتضع شروطاً معينة لاستقبال الموضوعات وتتقبل الاقتراحات والملاحظات ذات الصلة، فإن جميع العاملين في الحقل الإعلامي يدركون تماماً أنه ما من جهة إعلامية تصدر عنها مادة إعلامية مرئية أو مسموعة إلا وتنطوي على أخطاء، وذلك على الرغم من التقدّم التكنولوجي في برامج الطباعة والتصحيح والتدقيق. فهذا التقدم لم يستطع القضاء على أقسام ودوائر التصحيح ومتابعته من الصحف اليومية على سبيل المثال، إذ مع وجود المحرر والمحرر المسؤول عن هذا القطاع الأخباري أو ذاك ضمن تراتبية العمل، فإن الأخطاء تحدث. لكنها غالباً ليست بالأخطاء الكارثية التي تودي بصحيفة أو تتسبب في إغلاقها إلا ما ندر.
تحدث هذه الأخطاء، إن لم تكن مطبعية، مع أحرف الجر وأدوات الجزم وسوى ذلك مما قد يُزعج قارئاً حصيفاً، لكن من غير الممكن أن تحول دون فهمه لهذا الموضع أو ذاك الذي حدث فيه الخطأ من الخبر أو الموضوع، وهذا أمر طبيعي مئة بالمئة.
فروع تنافس أصولاً
ويقود هذا الأمر إلى الحديث عن صورة إيجابية أخرى، لعل الأوضاع السياسية التي تمرّ بها المنطقة العربية هي التي أوجدتها، أو حفّزت على وجودها بهذا القدر أو ذاك، وهي القنوات الفضائية الناطقة بالعربية، التي بينها قنوات هي فروع لأصول أجنبية، والأمثلة كثيرة عليها في هذا الفضاء الإعلامي العربي الواسع.
فما يلاحظه المرء، حتى لو كان متابعاً من درجة متدنية للقنوات العربية، أن القنوات – فروع الأجنبية، ولندع جانباً سياستها الإعلامية وما ترمي إليه من وجودها في الفضاء العربي – أكثر التزاماً من كثير من القنوات العربية الأصيلة إلى حدّ أنها تنافس في هذا الالتزام قنوات عربية أصيلة كانت حريصة على سلامة السلوك اللغوي لأفرادها منذ انطلاقتها قبل عشرة أعوام أو قبل ذلك بكثير.
تُرى لماذا غابت عن المؤتمر قراءة هذه التجارب؟ لماذا لم تدرس البنية التركيبية والنحوية لصياغاتها الخبرية وغير الخبرية الواضحة والقريبة من الناس فلا تحتاج إلى شرح أو سواه كي توصل رسالتها إلى جمهورها المستهدف؟
توجيه أنيق
يبدو أن وسائل الإعلام تدرك أكثر من سواها، أنها تمتلك المقدرة الأبرز على التأثير في مسارات الرأي العربي العام وإعادة صياغاته بهذا الاتجاه أو ذاك، بما يخدم هذه السياسة أو تلك، ليس عبر «اللعب» على المشاعر الجمعية شديدة التأثر بالخطاب الديني ذي المرجعيات التاريخية، إنما أيضاً عبر تلك اللغة المشتركة والمختصرة وبكل ترميزاتها واختصاراتها ومكنوناتها الإشارية التي تحرك الأفراد وتحدد توجهاتهم السياسية وغير السياسية بلغة أنيقة أيضاً لا تخلو من قَدْر من التعالي على الجمهور العام فتجعله يشعر، أو ينخدع، بأهمية المتحدث ومتابعة انفعالاته أثناء خطابه.
كما تسهم لغة الكاميرا أيضاً، بدور في هذا وذاك، فضلاً عن تأثير إعادة بث الصور ذات الصلة، الأمر الذي يجعل من صاحب الخطاب رجل علم ذا مكانة لدى رجل الشارع العادي.
هذا كله نجح فيه بعض الإعلام المرئي الذي يوفّر المعلومة والخطاب المرافق لها للمشاهد دون عناء الذهاب إلى حيث يوجد الداعية بأدواته التقليدية، وفي فضاء من التلقي سهل الشروط الذي يحتاج إلى متابعة العين أكثر من إعمال العقل.
لقد أنتجت وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة، بالمجمل، خطاباً عزّز من انتشار لغة عربية سليمة إلى حدّ بعيد في أغلب نشراته الإخبارية وبرامجه السياسية وغير السياسية ووفّر بتجربته هذه، «مادة لغوية خام» يمكن الاشتغال عليها على مستويات عدة، رسمية وغير رسمية، ليستفاد من هذ التجارب وعدم الاكتفاء بنقد سلبيات السلوك اللغوي في هذه المؤسسات.
غياب المكتوبة
وفي السياق نفسه، قد تبدو وسائل الإعلام المكتوبة والمترجمة كاملة أو شبه كاملة عن أصولها في اللغات الأجنبية، أقل حضوراً في المشهد كله، مثل «ناشيونال جيوغرافيك» وسواها مما يتصل بالاقتصاد والسياسة والبيئة التي تتم ترجمتها كلياً، والثقافة والآداب مثل الثقافة العالمية والآداب الأجنبية التي تترجم مقالات منتخبة في هذا الحقل بالذات.
وبوسع أي متابع، أن يلحظ الفوارق في هذه الدوريات على مستوى إتقان الترجمة، التي تتسم بالرفعة وشدة الاتقان في بعض المقالات لتكون على غير ما هي عليه في مقالات أخرى، وكذلك على مستوى السلوك اللغوي، إذ كأنما لا ضابط لغوياً يمسك بهذه الدورية من ألفها إلى يائها فيمنحها ذلك المزاج اللغوي الخاص بالتحرير الذي بتميزه يستطيع أن يوسع من عدد القرّاء. ضعف انتشار هذه الدوريات التي أسهمت في انتشار العربية بنسبة أقل من سواها، رغم حضور بعضها إلكترونياً، ربما يعود إلى ضعف الفعل القرائي عربياً الذي تصدر مؤشرات مرعبة عنه هنا أو هناك وعن هذه المؤسسة أو تلك.
مواقع التواصل
أما فيما يتصل بمواقع التواصل الاجتماعي، فيبدو أن الأمر أكثر تعقيداً وتركيباً، فالسلوك اللغوي هنا يمارسه فرد بمفرده تجاه فرد آخر بمفرده أيضاً في سياق تفاعلي يربط شخصين أو جماعة صغيرة بعضهم ببعض، إنما من الممكن لجمهور أوسع أن يطلّ عليه.
ويتميز الفيس بوك، مثلاً، في هذا الصدد بأنه مساحة حرّة مفتوحة من الممكن لأفراد من أمم مختلفة أن يجتمعوا فيه على فكرة بعينها، دون رقابة أو فرض وصاية سواء على ما يمكن أن نطلق عليه السلوك الأخلاقي وكذلك السلوك اللغوي.
بمعنى آخر يوفر الفيس بوك وأمثاله، مساحة شخصية واسعة لأفراد من العالم تشجع على التفاعل حول قضية ما ربما تكون مفيدة أو غير مفيدة من غير المتاح مراقبتها أو منعها أو كسر شروطها التواصلية الخاصة بها.
بهذا المعنى وفّر الفيس بوك بالنسبة للفئة العربية الأكثر استخداماً له، أي الشباب، مساحة لتفريغ الكبت بكل أنواعه وأصنافه إلى حدّ أن المرء يعجب بالفعل من أن ما يكشفه بعض الناس على الفيس بوك يسبق ما يبوح به لعائلته أو أصدقائه، بالتالي فالأمر لا يتوقف عند سلوك لغوي بات هجيناً ويستخدم لغة عربية بأحرف لاتينية أو سوى ذلك من أشكال التغريب الذي يجعل اللغة أقرب إلى الشيفرة، إنما يتجاوز ذلك إلى ضرورة إعادة بناء الشخصية والعقل العربيين بحيث يكونا أكثر انفتاحاً على الحريات الفردية وأكثر تقبلاً للنزوعات الشخصية سواء كنّا نرضى عنها أم لا وذلك في حدود ما هو مُتاح وممكن ويجعل الشبان أكثر انفتاحاً وإيجابية تجاه مجتمعاتهم وليس تجاه لغتهم فحسب بتعزيز الإحساس بالمسؤولية الفردية تجاه هذا المجتمع وقضاياه.
جملة هذه المسائل والإشكاليات والصعاب التي تشكل تحدياً حقيقياً أمام اللغة العربية هي ما ينبغي التصدي له بجرأة قلب وعقل معاً، إذ بات من غير الممكن معالجة السلوك اللغوي للشباب العربي على الفيس بوك في محيط غير إيجابي لجهة تعامله مع القضايا الأخرى، غير اللغوية، التي تمسّ وجودهم الفردي والجمعي، ولا يتسامح ما أمكن مع أفكارهم ولا يتقبلها مثلما لا يتقبل آراءهم التي تخصّ مستقبلهم وليس مستقبل اللغة العربية الفصحى وحدها.
..
و«الإعلام البديل» الغائب الأكبر
كان الغائب الأكبر عن مؤتمر اللغة العربية وأبحاثه، هو ما يُسمّى بـ «الإعلام البديل». فهذا الإعلام لم يعد على ما كان عليه قبل 17 ديسمبر 2010، عندما أضرم الشاب التونسي محمد البو عزيزي النار في نفسه، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية القائمة في بلاده فتندلع ثورة شعبية وتنتقل شرارتها إلى دول عربية أخرى.
لقد انشغلت أبحاث المؤتمر، بالسلوك اللغوي – إذا جاز التوصيف – لمستخدمي تقنيات الاتصال الحديثة وأمعنت في مديح اللغة العربية وتمجيدها، ولم تلتفت إلى ذلك الإعلام البديل المرئي والمسموع، الذي ما زال يخرج من بين أنقاض خراب خلّفتْه أنظمة عربية انتصرت فيها الثورات التي تطالب بالحرية والكرامة.
هذا الإعلام الذي غزا الفيس بوك واليوتيوب وقنوات التواصل الاجتماعي، حاملاً وجهات نظر مختلفة ومتنوعة حول مستقبل المنطقة العربية برمتها في ضوء ما يحدث في هذه البلدان، عبر لغة تمتاز ببساطتها وميلها إلى اللغة اليومية للناس والأكثر تعبيراً عن أوجاعهم وآلامهم اليومية والمباشرة وشقائهم الطويل.
إنه سلوك لغوي وناقل مؤثر في الجمهور لأسباب كثيرة منها تركيزه المباشر والدالّ على الرسالة ومضمونها والميل إلى الاختصار في الكلام بهدف نقل الصورة إلى خارج الحدود الجغرافية، وبالتالي فإن هذا السلوك اللغوي الذي لم يلتزم بعربية فصحى أو فصيحة، هو الذي فضح المجازر التي تُرتكب في حقّ الناس يومياً وكشف عن ممارسات غير أخلاقية لأنظمة مستبدة تمارس القتل بلا طرفة جفن، مثلما نقل في المقابل سلبيات تمارسها أطراف مناهضة محسوبة على هذا الاتجاه أو ذاك، سواء في حقّ الناس أو في حقّ مواثيق ومعاهدات دولية تمسّ على نحو صميمي حقوق الإنسان، وتحديداً المرأة.
وربما يبدو صحيحاً أن هذا «الفعل الإعلامي البديل»، هو فعل موقت ومن المستحيل أنْ تُكتب له الديمومة إلى الأبد، لكنه بالمقابل قدّم نموذجاً عن الحاجة إلى «لغة» إعلامية عربية ذات هموم وانشغالات عربية مباشرة كشفت عن أمر ذي أهمية قصوى لجهة البيان والتبيين والإفهام الذي أراد منه هذا السلوك اللغوي أن يكون ناقلاً دون فائض في اللغة، أي أن تكون أداة النقل هذه نفعية وعملية مثلما كشفت عن أن الفارق بين اللهجات العربية ليس أمراً مبالغاً فيه ويحول دون أن يفهم أهل المغرب ما يقوله أهل الشام.
لقد بدت المسافة بين اللهجتين أقصر مما كنّا جميعاً نتوقع. ويعني هذا كله بالمجمل، أن حاجة الناس إلى التواصل عبر لغة عملية تمتلك أدوات الاختصار في التعبير أهم بكثير من حاجتهم إلى الالتزام بالقواعد الأساسية للغة نفسها. وأغلب الظن أن هذا السلوك اللغوي لو درس بعمق، فإنه سيؤسس للغة يومية يفهمها العرب جميعاً أينما كانوا دون أن تفقد مرجعيتها الصرفية والنحوية الكلاسيكية إذا ما نُظر إليها من زاوية حاجة الناس إليها وليس من زاوية الدرس الأكاديمي الذي بات عديم المقدرة على التخيّل وقادته الصرامة إلى النأي عن كل ما يدور في المنطقة العربية وأبقى نفسه حبيساً في قاعات الدرس الجامعي.
بالمقابل، فإن الأبحاث التي تناولت السلوك اللغوي الإعلامي في المؤتمر لم تتطرق إلى حاجة الناس المُلحَّة إلى «لغة» تواصل فيما بينهم، واكتفت من الجانب الإعلامي بأن ربطت تقنيات الاتصال الحديثة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بالسلوك اللغوي الهزيل لدى مستخدميه من الشبان العرب الأمر الذي يتهدَّد الهوية العربية في الصميم، خصوصاً أن هذا الأمر يترافق مع ديناميكية عالية للغة الإنجليزية التي دخلت إلى لغة التخاطب اليومي عبر هذا النمط الحديث من الإعلام ومراكز تبادل المعلومات المتاحة بكل لغات العالم، حيث المحتوى العربي في الإنترنت هو من بين المحتويات الأخرى الأضعف حضوراً إن لم يكن الأضعف من بين هذه الأخيرة على الإطلاق.
..
وأبحاث «مختلطة» مع أزمات «متداخلة»
شهد مؤتمر اللغة العربية، خلطاً كبيراً في تقديم الأوراق. ففي الجلسة الواحدة، تجد أبحاثاً تتصل بالأدب وأخرى بالعولمة وثالثة بالصرف والنحو ورابعة في الترجمة.. وهكذا، دون أي نسق يحكمها، وكأن الهدف هو تقديمها فحسب.
لكن ذلك ليس بالأمر المهم، قياساً إلى بعض الأبحاث التي قُدِّمت في المؤتمر، وهي لا ترقى إلى أن تكون مجرد ملاحظات على بحث آخر ليس بالضرورة أن يكون رفيع المستوى بدوره.
وهذا النوع من الأبحاث مع الأسف كان كثيراً ودون منهجيات، بل إن بعضها لا يرقى إلى مستوى القراءة. وإذا توافرت هذه المنهجيات، فإن نسبة ليست بالهيّنة منها توقفت عند المدرسة الواقعية، كما كانت عليه في الستينيات من القرن الماضي. فأحد تلك الأبحاث يدرس(!) التأثير السلبي للشعر العربي الحديث على اللغة العربية وإسهامه في تخريبها، ودوره في هدم الذائقة الكلاسيكية العربية عن سبق إصرار وتقصّد غالباً، ودون سوء نية في بعض الأحيان.
وثمة بحث آخر ينطلق من وجهة النظر نفسها، لكنه هنا إذ يروم دراسة قصيدة النثر فإن الباحث يخلط تماماً بين الشعر الحر وقصيدة النثر، ما يعني أن هناك خللاً في المرجعيات التي اعتمد عليها الباحث في التوصل إلى ما أراد التوصل إليه.
وما يلفت الانتباه في هذه الأبحاث لجهة الدلالة على ضعف المنهج، هو المقولات الجاهزة التي تقوم على مواقف نقدية لم يعد لها حضور في الدرس النقدي حتى في الثقافات المحاذية للقوس الحضاري والثقافي للحضارة العربية والإسلامية، لئلا نقول الثقافة الغربية.
لقد التبس لدى الباحث أمر النقدي بالشخصي، فلم تعد هناك أية حدود فاصلة بينهما. والأدهى من ذلك أن بعض هؤلاء الباحثين يقوم بهذه الممارسة «النقدية» على اعتبار أن الأزمة تطال الشعر العربي الحديث فحسب، ولا تطال النقد والثقافة العربية برمتها، وأن الشعر هو الذي أحدث أزمة القراءة ونفّر القرّاء، والشاعر هو الذي ينبغي عليه أن يعود إلى بيت الطاعة فيكتب وفقاً لما يريد له الناقد أن يكتب حتى لكأننا نعيش الشعر وزمنه في قرن سابق على القرن الخامس الهجري، بل ويقوم بهذه الممارسة بوصفه ملهِماً للشاعر، فيتحدث عن الشعر من تلك المنطقة المعرفية التي هي أعلى بقليل من الشعر نفسه، وكأن النقد، على الأقل، ليس بـ «كلام على كلام»، على ما قالت العرب في الدرس النقدي الموروث في صدد تعريف النقد.
—————————————————
العربية والقرآن الكريم توأم لا ينفصل
قبل نزول القرآن الكريم كان العرب يتحدثون بلهجات متعددة وإن غلبت عليها لهجتا قريش وتميم. فلما أنزل الله القرآن الكريم باللغة العربية على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ببيانه الساحر وبلاغته العظيمة أعطی اللغة روحاً وعذوبة، ووحّد اللغة العربیة وحفظها من الاندثار، ومنذ ذلك اليوم والعلاقة بينهما لا تنفصم عراها، بل لقد أصبح القرآن الكريم روح اللغة التي كتب لها الخلود فهي باقية ما بقي مسلم يتحدث العربية على وجه الأرض، وبعهد الله على نفسه بحفظ كتابه: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{.
هذه العلاقة لا تقف عند هذا الحد، فقد كانت العناية بالقرآن الكريم عناية بالضرورة بلغته، حيث أقبل المسلمون عليه ودافعوا عنه، وعدّوا كل عدوان على القرآن الكريم عدواناً على اللغة العربية، وأن النيل من اللغة العربية نيل من القرآن الكريم. وقد انطلقت العناية بعلوم اللغة في الصدر الأول عناية بالقرآن ومحافظة عليه واتقاناً له قراءة وكتابة وفهماً، وحذراً عليه من التشوهات اللغوية الوافدة بدخول غير العرب في الدين الجديد حيث بدأت تفسد فطرة اللغة عند الجيل الجديد من العرب.
كما بدأت فكرة المعجم عند العرب بعد نزول القرآن الكريم، أيضاً، ومن نفس المنطلق، حيث استعصى فهم بعض مفردات القرآن على كثير ممن دخل الإسلام من غير العرب، فاستدعى ذلك شرح لغة العرب عموماً، لكن شرح غريب القرآن كان الأساس في ذلك الاهتمام، وكان أول مصنف في هذا المجال ينسب لابن عباس (ت 68هـ).
ولم تقف علوم اللغة وبحوثها ودراساتها المرتبطة بعلوم القرآن عند النحو والصرف والتفسير ومعاجم اللغة، بل تعدتها للبلاغة وعلومها، حتى أصبح القرآن مدار علوم اللغة تدور حوله وتستقي منه.
هكذا كانت عناية العرب والمسملين بلغة كتابهم المقدس، حيث تداخلت قدسية اللغة بقدسية القرآن والدين، وحيث اكتسبت الهوية قدسيتها ليس لكونها أساس الوجود وتميز الذات العربية فقط، بل لكونها امتزجت بالمقدس الديني والقرآني، ومن هنا جاء في قانون اللغة الوارد في مشاريع المجلس للدولي للغة العربية والمنشور في مخطط المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية: تتميز اللغة العربية عن أي لغة أخرى لأن الله اختارها من بين اللغات ليخاطب بها الكون وما به من كائنات فقال تعالى: }وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ{.
هذه العلاقة، عوداً على بدء، لا يمكن أن تنفصم عراها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن خطراً يحدق بها لخطرٌ يحدق بالأمة نفسها، ولا يمكنها إلا أن تدفعه بكل نفيس.