حياتنا اليوم

فسحة من الملل!!

علمنا العصر الحديث أن نستفيد من كل أوقات يومنا لغرض ما كالعمل، والطعام، والاستحمام، والقيلولة، والواجبات الاجتماعية، والشؤون الصحية الأخرى إلخ… وفي منطق هذا العصر أن هذا كله لا يأتي عرضاً، بل عن تخطيط. وتسبغ الصفة الإرادية على أمور تصل إلى حد القراءة ومشاهدة التلفزيون وسماع الأخبار وممارسة هواية من الهوايات، أو حتى المشي لمدة محددة لأهداف صحية معروفة. كلها تحدث بقرار واعٍ وبشكل يجعل يوم المرء مليئاً بالمهام من اللحظة التي يفتح فيها عينيه صباحاً وحتى استسلامه للنوم مساءً. ذلك أن الانتاجية هي من أساسيات شخصية العصر الحديث الفلسفية. وأصبح كل ما يقوم به الفرد يهدف ليس إلى ما هو بذاته، بل إلى زيادة إنتاجيته وجعله أفضل أداءً في العمل. فقد وضع عصرنا الحديث العمل المنتج في أعلى درجات الوجود الإنساني، وهذا طبعاً من ميزات العصر بلا نقاش، وإليه يعود فضل كل ما تحقَّق وتقَّدم وتطَّور في حياتنا اليوم.. إلا أن ذلك يكاد لا يسمح للإنسان بفسحة غير هادفة.

إن هذه التهيئة المباشرة أو غير المباشرة « للفرد المنتج» جعلت كل ما يقوم به مسخَّراً لهذا الهدف السامي. وبالتالي، أصبحت فعل إرادة لا قيمة لها عند ممارسها إلا في خدمة عملية « تهيئة الذات». وبهذا فقد كثير من الأمور التي يقوم بها هذا الفرد التوأم مع هذا المفهوم العصري، قيمته الخاصة بالنسبة إليه كإنسان. وحتى إذا قرأ كتاباً، ولو كان هذا الكتاب هو روايةً أو شعراً، إنما يفعل ذلك لا لمتعة ذاتية أو ثقافية خاصة، بل لأنها تندرج في برنامج «تهيئة الذات» وتطويرها بإستمرار من دون كلل أو تخاذل. وهذا ينطبع على كل شيء آخر مثل مشاهدة فيلم سينمائي أو النزهة أو حتى السياحة. حتى سماع النكت أصبح بغرض الضحك، فالضحك كما يؤكد الأطباء والعارفون مفيد للصحة النفسية، وشيء منه مطلوب لكي يكون أداء الإنسان أفضل. وكل إنسان انخرط في هذا النوع من التوجه، وهذا النمط العصري من التعاطي مع الحياة، يدرب نفسه على أن يكون لكل وقت من الأوقات شيء «مفيد» يقوم به ضمن ذلك البرنامج من النشاطات المقصودة ذات الفوائد الأكيدة في عملية تهيئة الذات لإنتاجية أفضل. ونراه يسجل لنفسه نقاطاً من سلوك كلما قام بمثل هذه النشاطات إلى جانب عمله الفعلي، ويكون بهذا على حق من دون ريب، إلا أنه وبدرجات متفاوتة يحولها إلى أدوات مسخرة لأدائه الإنتاجي فيفقد الاستمتاع بها لذاتها، وينتزع من نفسه حق أن يكون له فترات في يومه ليست مسخَّرة لهدف محدد. ويفقد أيضاً فرصة تركها تكّون مادة لإنسانيته الخاصة. مادة تزوَّده بالإجابات عن تساؤلاته الذاتية، ومادة تهدئ من قلقه في الوجود، بل ومادة تسلية ولهو واستمتاع غير هادف.

وبهذا.. تتوالى ساعات يوم الإنسان، وتتوالى أيام سنواته بلا فسحة. تلك الفسحة غير المرهونة لأي نشاط «مفيد»، الفسحة الصافية التي قد تصادف الإنسان أحياناً وليس في ذهنه أي شيء يفعله! فيجلس مستسلماً لفترة ملل فرضت عليه. إلا أن هذا الجلوس قد يتحول ومن دون إنذار أيضاً إلى فترة تأمل والتفات إلى الدنيا التي لم يكن يلتفت لها، واسترخاء يفتح نوافذ الأفكار والأحلام والآمال، وجلسة حميمة مع الذات غير المحكومة بالأهداف المعيشية، وربما لا شيء غير الفراغ الهادئ الذي يمد النفس بتوازن مطلوب وبراحة تشتاق إليها.

للنفس حق بفسحة من الملل.

أضف تعليق

التعليقات