الثقافة والأدب

عودة الغائب
الرواية الثانية لمنذر القباني

قبل عامين، عرضت القافلة لرواية «حكومة الظل»، باكورة أعمال الروائي والطبيب السعودي الدكتور منذر القباني، الذي يعود ويطل علينا اليوم في روايته الثانية «عودة الغائب».
عبود عطية الذي عرض لنا سابقاً قراءته للرواية الأولى، يعود بدوره هنا ليقرأ الرواية الثانية، متناولاً أوجه الشبه والاختلاف ما بين الروايتين اللتين مهما قيل فيهما فستبقيان فريدتين في لونهما على الساحة الأدبية العربية، هذا اللون الذي حظي بمكانة عالمية على يد الروائي الأمريكي دان براون، والقائم على جمع بعض المعطيات والحقائق التاريخية إلى الخيال فيما صار يعرف باسم الرواية «البوليسية-التاريخية.

ما أن يطالع القارئ الفصل الأول من رواية «عودة الغائب» وهو بعنوان «عام 1909» حتى يكتشف وجه الشبه الأول والأساسي مابين هذه الرواية وسابقتها للمؤلف نفسه الدكتور منذر القباني «حكومة الظل» التي يدور نصف أحداثها عام 1908م ونصفها الآخر في عصرنا الحالي.

وخلال صفحات قليلة يكتشف القارئ مزيداً من أوجه الشبه ما بين الروايتين. فكلتاهما تدوران حول الصراع ما بين منظمتين سريتين: «العروة الوثقى» المستمرة حتى يومنا هذا في الدفاع عن مصالح بلاد العرب والمسلمين، ضد «حكومة الظل» المؤلفة من الجمعيات السرية العالمية أو من بعض محافلها أو من تقاطع بعض هذه المحافل. وأكثر من ذلك فإن بطل الروايتين هو نفسه: رجل الأعمال السعودي الناجح والشاب نعيم الوزان.. كما أن أسماء كثيرة وردت في الرواية الأولى تعود إلى الظهور في الرواية الثانية.

إنه العالم نفسه. وهذا ما يشير إلى أننا لم نكن في «حكومة الظل» أمام ومضة استثنائية، بل أمام ثمرة مزاج أدبي راسخ عند الكاتب، ويتحتم علينا التعامل معه على هذا الأساس، الأمر الذي يجعل الحديث عن هذه الرواية أسير المقارنة بالرواية السابقة.

أحداث الرواية
تدور أحداث هذه الرواية التي صدرت في طبعتين عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، قبل أشهر، حول مؤامرة تعدها «حكومة الظل» لجر جيوش العالم الغربي إلى احتلال البلاد العربية مجدداً. ويتنبه قادة «العروة الوثقى» إلى الأمر من خلال رسالة غامضة وجهها قبل مئة سنة شخص يُدعى نجم الدين غول قبيل مقتله على أيدي المتآمرين إلى المدعو خليل الوزان. فتستنجد «العروة الوثقى» من مقرها في أحد بساتين قباء بالمدينة المنورة، بنعيم الوزان (حفيد خليل)، الذي سبق أن جردته من عضويته فيها قبل سنوات ثلاث، نظراً لمهارته في فك الرموز الغامضة.. فيغادر مقر إقامته في كوالا لامبور ليلبي النداء.. إنه الغائب الذي يعود في «عودة الغائب».

قد يكون من حق القارئ أن يشعر أمام حبكة كهذه أنه أمام خيال تجاوز حدود المعقول أو المقبول. ولكن الكاتب استطاع بمهارة أن يلقّم ذهن القارئ فصول هذه الحبكة الضخمة تدريجياً، من خلال مجموعة أحداث صغيرة واقعية الشكل مثل جريمة قتل هنا، أو اختفاء امرأة هناك.. ونجح في ترجيح كفة «الواقعية» على كفة الخيال الجامح، من خلال ما يعرف بـ «اللون المحلي»، أي الوصف الدقيق للمكان الحقيقي والواقعي الذي يدور فيه كل فصل من فصول الرواية.

المسرح الواقعي
تتوزع فصول الرواية على مسرح يمتد من كوالالامبور في ماليزيا إلى مدينة بوسطن في أمريكا، مروراً بمغارة جعيتا وفندق الفينيسيا وشارع الحمراء في لبنان، ودبي والشارقة، وجدة ولندن قبل استراحة المحارب نعيم الوزان في الفصل الأخير في المدينة المنورة حيث يسترد عضويته في العروة الوثقى، اعترافاً بأمانته وبفضله.

وعلى امتداد هذه المساحة الواسعة جداً جغرافياً، هناك وصف دقيق للأماكن المعروفة. لا بل يمكن القول إن كل الأماكن معروفة وحقيقية. فلا مدن متخيلة (بما فيها مدينة حداد حيث ستنفذ المؤامرة)، ولا فنادق متخيلة، ولا شوارع متخيلة.. فكل من يعرف الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب يعرف أن المؤلف قد زارها، وكان أميناً في وصفها وحتى في سرد تاريخها إذا لزم الأمر. ويعزِّز الكاتب هذا الطابع «الواقعي» للأحداث، بجمعها إلى بعض الأحداث الحقيقية المعروفة، مثل تزامن وصول نعيم الوزان إلى دبي مع المهرجان التكريمي للإعلاميين الذي يقام سنوياً هناك، فيتقاطع جزء من مهمته الخيالية مع جزء من حدث حقيقي معروف عند الجميع. وأكثر من ذلك، فإن الكاتب عندما يصف لنا فنانة عربية مشهورة يلتقيها نعيم في دبي، فإنه يذهب بخيالنا إلى بعض الفنانات الحقيقيات، ولكن عندما يطلق عليها اسم «سمر القلوب»، فكأنه يقول لنا من خلال هذا الاسم المستعار بشكل واضح، إن روايته تعرض من «الواقع» أقل مما يعرف من حقائق.. أليس فن الإقناع بصدقية المتخيل جزءاً أساسياً من فن الرواية؟

الحبكة في العمق
من ضمن القرَّاء الشغوفين بالرواية البوليسية-التاريخية، تتوجه «عودة الغائب» مثل «حكومة الظل» وأيضاً روايات الأمريكي دان براون، بشكل خاص إلى أولئك الباحثين عن خيوط المؤامرات الغامضة لتفسير أحداث كبرى يصعب تفسيرها. وهؤلاء ليسوا قليلي العدد، ويغذّون مذهبهم في تفسير الغامض من الأحداث من وجود منظمات عالمية لا نعرف إلا القليل عنها غير أسمائها مثل الماسونية والبولدربرغ والمتنورين وما شابه ذلك.

ولكن بخلاف روايات دان براون الذي كان دقيقاً في تناوله لهذه المنظمات حتى أقصى حد ممكن تسمح به الثقافة العامة لغير المنخرطين فيها، فثمة ضبابية في «عودة الغائب». حيث نرى أن المؤامرة هي من حياكة «حكومة الظل» التي يجب أن نجتهد لنفهم أنها ليست مؤلفة ببساطة من جمعية الماسونيين، بل من بعض الجمعيات السرية القديمة جداً التي انخرطت في جمعية الماسونيين لتحتمي بها.

والرواية في عمق حبكتها تقترب جداً من مزاج القارئ المؤمن بنظريات المؤامرة. ومن المرجح أن المؤلف نفسه هو من هؤلاء، تدل على ذلك الاستطرادات الكثيرة التي تستشهد بأمثلة تاريخية معروفة لدعم تفسير فرضية غير مثبتة بالبراهين. ففي حديثه عن تغلغل بعض المنظمات السرية في أخرى، يعود بنا من خلال استطراد طويل، يكاد السياق لا يحتمله، إلى «تغلغل طائفة الحشاشين في صفوف الطائفة الإسماعيلية» على سبيل المثال.

إذن، للمؤلف خطاب «أيديولوجي» إذا جاز التعبير. وهذا الخطاب مقروء بوضوح في هذه الرواية. فأحياناً، يلقيه على مسامعنا بشكل متقطع البطل نعيم الوزان، مثل قوله: «النظر إلى الماضي بعين مجردة يساعد كثيراً في فهم ما يجري حولنا، وفي التنبؤ بما قد يحدث غداً..»، أو مثل الرسالة الهاتفية التي يوزعها على كل معارفه في نهاية الرواية وتقول: «إن الأمة العظيمة لا تُهزم من الخارج قبل أن يقضي عليها أبناؤها من الداخل».

ومن دون اللجوء إلى نعيم، نجد الكاتب مدفوعاً إلى عرض عدد ملحوظ من وجهات نظره الثقافية وبعض القناعات الفكرية (ربما تكون قناعاته الشخصية)، وغالباً ما يتم ذلك إما على لسان بعض أبطال الرواية، أو في مطالع فصولها، مثل بعض أوجه الشبه المشتركة بين بعض الأديان، وتقييم دور الدولة الفاطمية وغير ذلك..

من المرجح أن عرض الحقائق التاريخية في «عودة الغائب»، رغم دقته في بعض الموضوعات مثل تاريخ مغارة جعيتا في لبنان، هو أقل دقة في الزخارف مما هو الحال عند الأمريكي دان براون، وربما أيضاً أقل مما هو عليه الحال في رواية القباني الأولى «حكومة الظل». ولكن، بما إننا أمام «رواية»، فيمكن لكاتبها أن يفلت من أية محاسبة، علماً بأن القارئ يجد نفسه في مواضع كثيرة مدفوعاً إلى محاسبة الكاتب حول واقعية فكرة معينة، ليس أقلها مشروع احتفال في مدينة بعلبك في الخامس والعشرين من ديسمبر 2009م، يحضره عدد كبير من رؤساء دول العالم بمن فيهم الرئيس الأمريكي.. ومن يعرف حال بعلبك اليوم يعرف أن الحبكة تتجاوز الخيالي، لتصبح «سوريالية».

أصعب ما في الحبكة
ولكن أهم ما في رواية «عودة الغائب» على صعيد حبكتها، هو تقاطعها مع أحداث الرواية الأولى «حكومة الظل». فهي ليست تتمة للرواية الأولى، وإن كنا نجد فيها تفسيراً لبعض أحداث الرواية الأولى مثل مقتل الأستاذ المغربي الدكتور عبدالقادر بنوزّاني أو مقتل الصحافي اليهودي موشيه غولد. أو ظهور نعيم الوزان أولاً في كوالالامبور التي قرر الانتقال إليها في الرواية الأولى، وسعيه في هذه الرواية إلى الانتقام من رجل الأعمال المصري فؤاد شوكت الذي تسبب له في الرواية الأولى بخسارة مالية فادحة لمعاقبته على تطفله على شؤون حكومة الظل.

إن نسج العلاقات ما بين أبطال رواية متكاملة بناءً على رواية سابقة لا تشكل تمهيداً ضرورياً لها، هو من أصعب صيغ الحبكات الروائية. وفي هذا المجال، يمكننا القول إن القباني نجح بالفعل في مواجهة التحدي. وتميز فعلاً عن «عرَّابه» الأدبي دان براون، الذي لا نرى غير البطل يتنقل ما بين أكثر من رواية.

مما لا شك فيه أن القباني لم يفرغ من كتابة «حكومة الظل» حتى بعد نشرها. فقد ظلت حبكتها وعالمها في ذهنه. ومن المحتمل أن بعض خيوط هذه الرواية قد ظهر أولاً خلال العمل على «حكومة الظل»، فاحتفظ الكاتب بها جانباً لتوليفها في حبكة ثانية لرواية ثانية. لا يمكننا الجزم بشيء في هذا المجال. ولكن إن كانت كل تفاصيل «عودة الغائب» تعود إلى ما بعد صدور «حكومة الظل»، فهذا يعني أن هاجس حبكة الرواية الأولى لم يغادر يوماً ذهن الكاتب. ولذا لم يستطع الإفلات من ربط الأماكن التي زارها لسبب ما، أو عرفها في وقت ما، بمناخ الأحداث المتخيلة للرواية الأولى. فجاءت روايته الثانية ذات صلة قربى قوية جداً بروايته الأولى، ولكن تبدل الحبكة والمسرح والأحداث جعل منها رواية مستقلة تماماً.

ملاحظات أدبية أقل
ولو تابعنا مقارنة روايتي القباني ببعضهما، لقلنا إن روايته الثانية التي نحن بصددها خلت من بعض المنغصات التي كادت أن تفسد مزاج قارئ الرواية الأولى. فالحِكم والأقوال المأثورة و«المواعظ» رغم أنها تقفز قفزاً أمام القارئ، تبدو هنا مندمجة شكلاً في النص، بعكس ما كان عليه الحال في الرواية الأولى، حيث ظهرت هذه الحِكم وخلاصات الأفكار بالخط الأسود العريض وكأنها لب الموضوع الذي لا بد أن يستوقف القارئ ليفكِّر فيه ويتأمل عمقه.

وفي حين أن «عودة الغائب» جاءت لغوياً وإملائياً «أنظف» بكثير من الأولى، فثمة ملاحظة لا يمكن إغفالها تتعلق بالحوارات الواردة فيها. فتارة ومن دون سبب معين يبدو الحوار أقرب إلى العامية مثل قول إحدى البطلات: «لا تكن بايخاً.. لماذا لا تريد مصاحبتي..». واعتماد العامية أو ما يشبهها في الحوارات الروائية هو أمر مقبول عند الكثيرين لأنه يقرِّب المسافة ما بين الحدث ونفس القارئ المعتاد على بساطة هذه اللغة. ولكن، فجأة، وفي بعض الأماكن يصبح الحوار مجرد كليشيه لغوي مستوحى مما هو مشترك بين آلاف الروايات والحكايات، مثل قول إحداهن: «يا لك من شقي»، أو قول آخر: «طب مساءً تيري، لقد أبليت بلاءً حسناً»، أو قول آخر: «لا تحسبن أني لم أكن على دراية..». فمثل هذه الكليشيهات تتعارض مع بساطة اللغة المعتمدة في الحوار. لا بل، مع بساطة اللغة المعتمدة في الرواية عموماً، والبعيدة كل البعد عن الحواشي والتعقيد، حتى يمكن القول إنها عامية مقبولة إلى فصحى.. فلماذا هذه الازدواجية؟

هنا، يمكننا أن نستطرد لنشير إلى الحلقة المفقودة في عالم النشر الأدبي عربياً: المحرر المساعد للأديب الموجود في كل دور النشر الكبرى في الغرب، والذي يرافق الأديب خلال مراحل عمله، ويناقش معه تفاصيل كل جملة يرتأي أنها قابلة للنقاش، ومهمته الأساس لا تعني أبداً جر الأديب في اتجاه لا يريده، بل إزالة مثل هذه الشوائب والثغرات التي عادة يعجز الأديب عن رؤيتها بنفسه وتتطلب عيناً جديدة كي تصبح مرئية وتستدعي التعديل.

والواقع أن لائحة الملاحظات الصغيرة على رواية القباني يمكنها أن تطول، وبعضها شبيه بالملاحظات التي سبق أن أبديناها على روايته الأولى، مثل التعامل مع بعض المعلومات البسيطة على أنها من الاكتشافات المهمة التي تستوجب شرحاً مطولاً، وأيضاً قلة الوصف نسبياً، مثل وصف الأشخاص وأعمارهم وملابسهم والألوان والأضواء.. تعزيزاً لتلاحم خيال القارئ بمحتوى النص.

فبشكل عام، وعلى صعيد الأسلوب، يمكننا القول إن القباني كتب روايته هذه كمن يكتب سيناريو فلم سينمائي حسب تتابع الفصول والمشاهد، تاركاً وصف الأماكن في معظمه لمصمم الديكور، واختيار شكل الأبطال للمخرج أو المنتج.

ولكن مهما طالت لائحة الملاحظات، فمن الصعب على القارئ أن ينتبه إلى معظمها. إذ إنه ينجرف بحماسة القباني، الذي يبدو مستمتعاً بعمله الأدبي حتى حدود دفعته إلى ما يشبه التسرع. وهذا التسرع ينعكس (في جانبه الإيجابي) على القارئ، الذي يجد نفسه مشدوداً لمعرفة إلى أين ستؤدي هذه السرعة وما هو مبررها.. فيبقى ممسكاً بالكتاب حتى وصوله إلى النهاية. أليس هذا مقياس النجاح في الرواية البوليسية؟

عودة الغائب..
مقتطفات من الرواية
توقفت السيارة أمام منزل في حي هادئ تملؤه منازل أنيقة متراصفة، أغلب سكانها من الطبقة ما فوق المتوسطة. على عكس باقي المنازل كان المنزل الذي توقفت أمامه السيارة مُنارة أضواؤه الداخلية، مُنِمَّة بأن ساكنه كان
لا يزال مستيقظاً في ذلك الوقت من بعد منتصف الليل، وكأنه كان في انتظار مجيء ضيف ما.

– 
«تفضل أستاذ نعيم.. لقد وصلنا» قال السائق، بعدما ظل طوال الرحلة صامتاً لا ينبس بكلمة.
– 
«أتفضل إلى أين؟!… ما هذا الهراء؟ هل تعلم أن ما قمت به يعد اختطافاً؟!.. من أنت؟ وماذا تريد؟ ولصالح من تعمل؟».
– 
«أرجوك أستاذ نعيم، لا تضيِّع وقتك ووقتي، فأنا وظيفتي تنحصر في الإتيان بك إلى هنا. الإجابة عن جميع أسئلتك ستجدها في الداخل». قاطع السائق نعيم الذي كان في قمة انفعاله لما حدث..

ساد الصمت ثواني معدودة، ثم فتح نعيم باب السيارة، واتجه نحو الباب الخارجي للمنزل الذي كان يقف بجواره حارس قوي البنيان، لا يقل حجمه عن حجم سائق السيارة التي أتى بالضيف المنتظر الذي سرعان ما أشير له بالدخول، بعدما فتحت البوابة.

أخذ نعيم يخطو بحذر نحو الباب الداخلي للمنزل، وقد امتلأ عقله بمزيج غريب من القلق، والفضول في آنٍ واحد، وأدرك بأنه لو كانت هناك رغبة لإيذائه في آناء هذا الليل، لما كان بوسعه أن يفعل شيئاً الآن، خاصة بعدما أغلقت البوابة فور دخوله! استمر في خطواته حتى فُتح الباب، وخرج منه رجل في نهاية العقد الرابع من عمره، متوسط الحجم، يصعب ربط ملامحه ببلد، أو عرق محدد.

– 
«أهلاً وسهلاً أخ نعيم، شرفت منزلي المتواضع.. تفضل، تفضل». قال الرجل مرحِّباً، وقد بدا عليه السرور لقدوم الضيف المنتظر.
– 
«عفواً.. ولكن من أنت؟ ولِمَ أتيت بي بهذا الشكل؟ لقد فوَّت علي رحلتي!» قال نعيم رافضاً الدخول قبل تلقي بعض الإجابات عن تساؤلاته.
– 
«أخ نعيم، أنا لم أفوِّت عليك رحلتك، بل فقط قمت بتصحيح مسارها، فالوقت لم يحن بعد لكي تعود إلى ماليزيا.. مشوار بحثك لم ينته بعد!».
– «من أين تعرفني؟ وعن أي مشوار تتحدث؟!» سأل نعيم، وقد أخذ الفضول عنده يطغى على شعوره بالقلق.
– «مشوار الخطاب الذي عثر عليه رجب غول، والذي بحث أمره الدكتور عبدالقادر بنوزّانـــــــي، فهل لديـــــــك غيره؟».
ذهل نعيم لما سمعه من الرجل الذي كان يعلم أكثر مما توقع منه.
– «من أنت؟».
– 
«تفضل أولاً إلى الداخل، وسوف أجيبك على أغلب تساؤلاتك».

***

– 
«اسمي جعفر الأشعري؛ لا أعتقد أنك سمعت بي من قبل، ولكني سمعت عنك الكثير.» قال الرجل عند دخوله مع نعيم إلى صالة الضيوف.
– «وممن سمعت عني؟».
– 
«من عدة أشخاص، أحدهم الدكتور عبدالقادر بنوزّاني، رحمة الله عليه».
– 
«الدكتور عبدالقادر!» ردد نعيم وقد أدهشه سماع الاسم مرتين في أقل من خمس دقائق.
– 
«لا تتعجب.. لقد كانت تربطني علاقة قوية به استمرت، حتى بعدما تم فصلي من الجماعة».
– «الجماعة!!».
– 
«عفواً.. لقد نسيت إخبارك بأني كنت في يوم من الأيام عضواً في العروة الوثقى، وقد تم فصلي مثلك بسبب كثرة تساؤلاتي، وعدم انصياعي للأوامر على حد ما زعم بعضهم».

اندهش نعيم لما سمعه للتو، خاصة أنه كان يدرك أنه من النادر أن يتم فصل أحد أعضاء العروة الوثقى، كما تم معه. لوهلة أخذ يظن أنه قد تكون هذه مجرد مكيدة من جهة أمنية ما؛ لكي تحصل منه على ما يعلمه عن جماعة العروة الوثقى!
– 
«مهلاً، مهلاً.. عن ماذا تتحدث؟ أي عروة وثقى هذه التي…».
– 
«أخ نعيم، أنا لا أحاول خداعك أو الإحاطة بما تعرفه عن العروة الوثقى.» قال جعفر، مقاطعاً، وكأنه قرأ أفكار نعيم، وأدرك الذي كان يدور في خاطره، ثم استطرد… «صدِّقني السبب الذي جعلني آتي بك إليَّ بهذا الشكل هو رغبتي في مساعدتك، ومساعدة نفسي من أجل الوصول إلى الحقيقة.. حقيقة مقتل صديقي الدكتور عبدالقادر، والسر وراء الخطاب. على العموم، وفقط لكي أزيدك اطمئناناً، سأخبرك بأمر لا يمكن لأحد أن يعرفه ما لم يكن على صلة وثيقة بالعروة الوثقى.. لقد كنت أحد النقباء، وكان مُرشدي هو نفسه مرشدك جاسم الفراج، قبل فصلي منذ سنوات ثلاث».

اندهش نعيم مما سمعه من الرجل، فما قاله كان لا يعلمه إلا قلة قليلة من كبار أعضاء الجماعة. فالهيكلة التي اتخذتها العروة الوثقى كانت تعتمد على مجموعة من النقباء حول العالم، يكون كل منهم مسؤولاً عن مجموعة من المساعدين، تحت كل مساعد عدد من عمداء الأسر، والأسرة تتكون من أبسط أعضاء الجماعة. هذه الهيكلة هي التي مكنت العروة الوثقى من المحافظة على سريتها عبر السنين، فقد كانت كل أسرة مستقلة عن الأخرى، وكل مساعد لا يعرف إلا نقيبه، وعمداء الأسر الذين يديرهم، كذلك الأمر بالنسبة للنقيب، فصلته فقط بمساعديه وبالقائد الذي كان يرشده. بل إنه من النادر أن يعرف النقيب اسم أحد القادة غير الذي كان يرشده، وكان نعيم أحد هذه الحالات النادرة، بل وبدا له أن هذا الاستثناء النادر، قد ينطبق أيضاً على جعفر الأشعري!

– 
«أخ نعيم، دعني أعود بك قليلاً إلى الماضي؛ لكي أتمكن من إيضاح بعض الأمور لك. في عام ألف وتسع مئة وتسعة بعد سقوط السلطان عبدالحميد الثاني، وتمكن حركة الاتحاد والترقي من زمام الدولة العثمانية، شعرت العروة الوثقى بالخطر، خاصة بعدما تبين لها الصلة الوثيقة بين الاتحاد والترقي، وبين يهود الدونمة والسبأيين، أو حكومة الظل، كما هو الاعتقاد».
– «ماذا تقصد بكما هو الاعتقاد؟» قاطع نعيم مستفهماً.
– 
«هذه النقطة بالتحديد هي لب الموضوع، ولكن لا أريد الخوض في تفاصيلها بعد؛ دعني أكمل لك أولاً ما بدأته.. أين كنا؟.. نعم، بعدما تبينت صلة الاتحاد والترقي مع يهود الدونمة، شعرت الجماعة بالتهديد، فقررت الانتشار في الأرض على أن يلتقي القادة مرة، على الأقل، كل عام في المدينة المنورة؛ لكي يناقشوا أهم القضايا دون أن يشعر بهم أحد. هذا الجزء من التاريخ أنت تعرفه جيداً، ولكن ما لا تعرفه هو أنه في نفس تلك السنة اقترح جدك خليل الوزان أن تتكون جماعة مصغرة، فرقة لا يتعدى عدد أفرادها الخمسة أو الستة، يكون هدفها هو الوصول إلى حقيقة حكومة الظل بمعزل عن العروة الوثقى، وذلك لما كان يشوب الأمر من مخاطر قد تهدد بكشف أمر الجماعة الكبرى ما إذا تم إسقاط الجماعة المصغرة؛ ومن جهة أخرى، فعزل تلك الفرقة، أو الجماعة المصغرة عن العروة الوثقى يمكنها من الاستعانة بأي أحد، ولو كان من خارج العروة الوثقى.. مع الأسف تلك الفكرة لم ترق لعدد من القادة، ولكن الشيخ أبو بكر الحسيني، أمين عام قادة الجماعة في ذلك الوقت، استطاع بحنكته أن يقنع الأغلبية بجدوى تلك الخطوة، وتحمل هو مسؤوليتها. تكونت تلك الجماعة المصغرة، والتي عرفت فيما بعد باسم جماعة الحسيني، واستمر أمرها إلى أن حُلَّت قبل سنوات ثلاث عندما تم القضاء على غالبية أعضائها، بمن فيهم القائد المسؤول في ذلك الوقت، الدكتور عبدالقادر بنوزّاني».
– 
«نعم، لقد قرأت في مذكرات جدي ذكره لجماعة الحسيني دون الدخول في التفاصيل، ولكني لم أكن أعلم أن تلك الجماعة قد استمرت إلى قبل سنوات ثلاث..».

في تلك اللحظة طرأ على ذهن نعيم أمر جعله يستعيد أحداثاً جرت في المدة نفسها التي قال جعفر إن أغلب أعضاء جماعة الحسيني قد تمت تصفيتهم فيها.
– 
«هل لمقتل موشي جولد علاقة بجماعة الحسيني؟» لم ينتظر نعيم الإجابة، فقد بدأ يدرك الأمر بمفرده..
«يا إلهي!.. إذاً موشي جولد كان أحد الأعضاء هو و..».
– 
«الدكتور أحمد عبدالوارث، ورجب غول، وصفاء الدين إسماعيل». أكمل جعفر، وقد أدرك أن نعيم فطن للأمر.
– 
«ولكنك قلت بأن أغلبهم، وليس كلهم قد تمت تصفيتهم، معنى ذلك أنه ما زال أحد أفراد تلك الجماعة على قيد الحياة».
– 
«نعم، بقي شخص واحد على حد علمي، هو أنا». رد جعفر على استفسار نعيم الذي بدا مندهشاً مما كان يتجلى له في تلك الليلة!
– 
«بعدما تم فصلي من العروة الوثقى، تلقيت اتصالاً من الدكتور عبدالقادر، حيث لم يكن مقتنعاً بذلك القرار المتعنت الذي اتخذه أغلب القادة، بناءً على توصية من جاسم الفراج، وقد طلب مني أن أنضم معه إلى جماعة الحسيني التي كان يترأسها.. كان ذلك قبيل وفاته بأشهر قليلة، وقبل الاجتماع السنوي للقادة، حيث كان يعتزم إخبارهم بقرار انضمامي معه».

فجأة شعر نعيم بالرهبة، وقد بدأ يدرك بفطنته إلى أين كان يسير الحديث.
– 
«نعيم.. أريدك أن تفكر في الأمر الآتي: جميع أعضاء جماعة الحسيني تمت تصفيتهم ما عدا أنا.. وقادة العروة الوثقى كانوا على دراية بجميع أعضاء جماعة الحسيني ما عدا أنا؛ لأن الدكتور عبدالقادر توفي قبل الاجتماع، وبناءً عليه لم تتسنَّ له فرصة إخبارهم بشأني.. هذا يعني أمراً واحداً، وهو أن افتضاح أمر جماعة الحسيني تم من الداخل! أحد قادة العروة الوثقى خائن، وعلى اتصال بحكومة الظل!».
– 
«ما تقوله هذا هراء!.. لماذا لا تكون أنت الخائن الذي وشى بالدكتور عبدالقادر ورفقائه؟! لقد سمعت منك ما يكفي!».

قام نعيم من مجلسه، واتجه نحو باب القاعة، وقد عزم أمره على الخروج، حتى ولو اضطر أن يصارع كل من يحاول منعه!
– 
«لماذا الهروب؟! هل صدمتك الحقيقة؟! هل ستتجاهلها؛ لكي تريح رأسك كما يفعل أغلب الناس؟!» أخذ جعفر يصرخ نحو ضيفه الذي فتح الباب، وهمَّ بالخروج.. «هل سألت نفسك لماذا طُلب منك أن تتوقف عن بحثك؟! ما الذي يوجد في بوسطن، ولا يريدونك أن تكتشفه هناك؟!».

توقف نعيم فجأة عن سيره، وقد هاله ما سمع من صاحب المنزل الذي لم يكن فقط على دراية بأمر تعاونه السري مع العروة الوثقى، ولكنه أيضاً كان ملماً بتفاصيل ما قد جرى لاحقاً من نقض لذلك التعاون!
استدار نعيم في مكانه، ناظراً إلى جعفر، ثم سأل:
– «من أين أتيت بكل هذه المعلومات؟».
– 
«ما يهمك أن تعلمه الآن هو أنني في صفك، وأننا نبحث عن نفس الأمر.. عن الحقيقة التي لا يرغب البعض في أن نصل إليها!» قال جعفر، وهو يمرر لنعيم ورقة مطوية.
– «ما هذا؟».
– 
«هذا هو أول الطريق الصحيح.. النسخة الكاملة لخطاب نجم الدين غول!».
– 
«نجم الدين غول؟» تساءل نعيم بحيرة، حيث لم يسمع بذلك الاسم من قبل.. «تقصد رجب غول».
– 
«عفواً، نسيت أنك لم تُخْبَر بكامل القصة من أولها!» رد جعفر الأشعري، مبتسماً.

أضف تعليق

التعليقات