قضية العدد

تحولات الاقتصاد الجديد
من شراكة الرساميل إلى شراكة الأفكار

  • woz

بعدما كانت كلمةشراكة تعني في الاقتصاد التقليدي تجمع رساميل من مصادر عديدة لإقامة مشروع اقتصادي معيَّن، يبدو أن تحولاً جديداً قد طرأ على مفهوم هذه الكلمة بحيث صارت تتجاوز النطاق المالي لتشمل، وربما بالدرجة الأولى، تجمع الأفكار وتضافرها في سبيل إنشاء مشروع اقتصادي ناجح.
ليلى أمل تعرض لجوانب هذا التحول، وتؤكد أن الشراكات في الأفكار أصبحت ذات دور حاسم في نجاح المؤسسات الجديدة، حتى يمكن القول إنها باتت عموده الفقري، والسمة الأساس للمشاريع الكبرى في الاقتصاد الجديد.

في شهر سبتمبر الماضي، احتفلت «جوجل» بمرور عشرة أعوام على تأسيسها. وأثار الحدث اهتمام الإعلام فتناوله عدد كبير من الصحف والمجلات كل على طريقته الخاصة.

فقد توقَّفت مجلات الأعمال أمام الثقل الاقتصادي الذي استطاعت تلك الشركة أن تحوزه خلال سنوات عشر هي كل عمرها، وتحدثت عن أسلوبها الخاص في الإدارة الذي أدى اتباعه إلى كل هذا النجاح. وركَّزت مجلات التكنولوجيا في حديثها على النقلة الكبيرة التي أحدثتها الشركة في عالم محركات البحث، وكيف أثَّر ذلك على مسيرة شبكة الإنترنت، وما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل إذا توقعنا منها التطور في السنوات القادمة بنفس المعدل المذهل. وحتى المطبوعات التي لا يدخل الاقتصاد ولا التكنولوجيا في دائرة اختصاصها حكت لنا كيف أصبحت منتجات هذه الشركة رمزاً من رموز الثقافة العامة في العالم كله.

ورغم تعدد الزوايا التي تم من خلالها تناول الحدث، فإن العنصر المشترك الذي كان يظهر دائماً هو تلك الصورة التي تجمع بين مؤسسي جوجل الشهيرين سيرجي برين ولاري بيدج. والحقيقة أنها صورة تحمل أكثر بكثير مما تعرض. فهي توضِّح «بالدليل» النموذج الذي يرسمه الاقتصاد الجديد لنجومه. فهما شابان، من الطبقة الوسطى، ذكيان، ويمتلكان تلك العصا السحرية التي تدعى التكنولوجيا، و.. اثنان. فهذه الشراكة لم تكن صدفة أو حالة خاصة تمثلها جوجل وحدها، لكنها واحدة من العناصر الأولية التي بنت عليها نجاحها، وواحدة من أهم الخصائص التي يرتكز عليها الاقتصاد الجديد الذي يعيشه العالم الآن.

الشراكة كأحد ملامح الاقتصاد الجديد
«الاقتصاد الجديد» هو المصطلح الذي يشير إلى المرحلة التي تطوَّر إليها الاقتصاد الصناعي التقليدي. وترجع الملاحظات الأولى حول هذا التطور إلى العام 1969م، حين كتب بيتر دراكر، أبو الإدارة الحديثة، عن «عمالة المعرفة». وبسبب الدور الأساسي الذي تلعبه المعلومات في خلق الثروات وتحريكها في أنظمة هذا الاقتصاد الجديد، بدلاً من الموارد ورؤس الأموال المادية التي كانت المحرك الأساسي للاقتصاد في نمطه القديم، أصبح الاسم الرسمي الذي يعرف العالم به هذا الاقتصاد الجديد هو «اقتصاد المعلومات».

لكن كيفن كيلي الكاتب الأمريكي وأحد مؤسسي مجلة «وايرد» «Wired» المتخصصة في التكنولوجيا، يقول في كتابه «قواعد جديدة لاقتصاد جديد» إن مصطلح اقتصاد الشبكات هو الأدق لوصف الاقتصاد الحالي. إذ إن المعلومات وحدها ليست كافية لتفسير التغيرات التي حدثت في عالم الأعمال.

فخلال القرن العشرين، كانت سيول من المعلومات تتدفق على العالم وتغمره. وقد حققت مؤسسات كثيرة قدراً هائلاً من النجاح اعتماداً على رأس مال معلوماتي. إلا أن التغير الذي حدث في عالم الأعمال أتى كنتيجة لعملية إعادة تشكيل هذه المعلومات، وليس كنتيجة لوجودها فقط. فعصر الكمبيوتر قد «اكتمل» بمعنى ما. ومعظم التأثيرات التي من الممكن توقعها من الكمبيوتر كآلة قد حصلت بالفعل. ومن المؤكد أن الكمبيوتر قد أضاف الكثير من السرعة إلى حياتنا، وسهَّل كثيراً التعامل مع الكلمات والأرقام والصور.

وفي المقابل، فإن معظم التكنولوجيا الواعدة التي تمثِّل العمود الفقري لاقتصاد اليوم، هي حصيلة التواصل بين أجهزة الكمبيوتر. والعالم منخرط الآن بأكمله في خطة واسعة لتقوية العلاقات والروابط والتواصل بين كل البشر ومع كل شيء ثمة مجال لنسج صلة معه. هذا التأثير القوي هو ما يعطي اقتصاد الشبكات كل هذا الثقل والقدرة على تغيير ما نعرف من الحياة، وليس من عالم الأعمال فقط.

الاقتصاد الجديد هو اقتصاد يقوم في أساسه على التواصل. وقد أصبح العالم في إطاره شبكة هائلة واسعة النطاق يرتبط فيها البشر والمؤسسات والدول والشعوب، وتتأثر بالتطور الدائم في تكنولوجيا المعلومات.

ولأن التواصل قيمة وثقافة، أكثر مما هو عنصر مادي، فإن الأمر لم يؤثر فقط على المكونات المادية لعالم الأعمال، ولكنه حمل الكثير من التأثير إلى طبيعته والثقافة السائدة التي تحكمه. وكانت فكرة الشراكة في عالم الأعمال واحدة من المفاهيم، التي تجمعت هذه التأثيرات لتصب في صالحها وتعززها، فأصبحت من ناحية نتيجة طبيعية لها، ومن ناحية أخرى نقطة قوة في عالم المؤسسات والأعمال ككل.

فقد جعل الاقتصاد الجديد التواصل أسلوب حياة المؤسسة. سواء أكان تواصلاً خارجياً بين المؤسسة وعملائها ومورديها ومؤسسات أخرى «حليفة» لها، أو تواصلاً داخلياً بين إداراتها وفروعها. وهو في الحالتين ليس تواصلاً صورياً أو «ورقياً» فقط، لكنه تواصل بشري حقيقي، رسمي أحياناً وغير رسمي في أحيان أكثر، يسمح بتبادل الأفكار ووجهات النظر وتفاصيل العمل التي كانت تختفي عادة وسط التقارير وجداول الأعمال. ويشكِّل هذا التواصل في النهاية صورة للمؤسسة ككيان كبير تتفاعل فيه الكيانات الأصغر التي تكونه، فتتبادل الأخذ والعطاء في اتجاهات حرة ومتعددة. كما أن المؤسسات أصبحت رأسية أقل مما كانت عليه، وأكثر أفقية في تركيبها الداخلي. وأصبح فريق العمل مركز الثقل الذي تصب فيه مهارات كل أفراده وقدراتهم، وتتيح للمؤسسة رصيداً هائلاً من الأفكار الابتكارية وحلول المشكلات.

يقول الكاتب الأمريكي كيفن كيلي: «كل ما أعرفه عن خصائص المعلومات أقنعني أن المعرفة لا تنشأ بطريقة عفوية من البيانات، لكنها تحتاج إلى قدر هائل من الطاقة والذكاء الإنساني الموجَّه عمداً نحو تحويل هذه البيانات إلى معرفة». ويوضِّح هذا الكلام الأهمية الخاصة التي يملكها العنصر البشري في الاقتصاد الجديد باعتباره اقتصاداً قائماً على المعرفة، يعتمد فيه النجاح على دفع الذكاء والمعرفة الإنسانية إلى أبعد الحدود. فخبراء الإدارة يقولون إن «الحجم العقلي» للمؤسسة هو عامل مؤثر أكثر من الحجم المادي الذي تمثله الموارد ورؤوس الأموال المادية. ولو نظرنا إلى الشركات العالمية التي أصبحت الآن كيانات اقتصادية عملاقة، نجد أن بداياتها كانت من الناحية المادية متواضعة للغاية بمقاييس عالم الأعمال، وأنها نشأت كأعمال صغيرة أو متوسطة الحجم، لكن رأس مال عقلي ثري كان يقف خلفها.

في ظل ثقافة كهذه، تألقت فكرة الشراكة. فهي أرقى درجة في سلم التواصل يمكن أن ترتقي إليها مؤسسة ما. فالمؤسسة التي تقوم على الشراكة، هي مؤسسة تتبنى ثقافة التواصل منذ البداية، أي منذ اللحظة الأولى لتأسيسها. وهي مؤسسة تعتمد على فريق العمل ليس فقط ليتابع تنميتها، ولكن ليأتي بها إلى الحياة. وهي مؤسسة قررت منذ البداية أيضاً أن تضاعف رأس المال العقلي لها، باعتباره القوة المحركة الحقيقية، والمايسترو الذي يقود بحركة أصابعه مجموع الموارد المادية التي تملكها.

ما الذي تجلبه الشراكة للمؤسسة
في دراسة أجراها الباحثون في جامعة «ماركيت» الأمريكية، أثبتت النتائج الأثر الكبير للشراكة في نجاح المؤسسات. فقد شملت الدراسة أكثر من ألفي شركة، تم تقسيمها تبعاً لنجاحها في عالم الأعمال إلى قائمتين. الأولى هي الشركات عالية الأداء والثانية هي الشركات منخفضة الأداء. وقد وجد الباحثون أن الشركات التي قامت على كتف واحدة، شكلت نسبة %6 فقط من الشركات عالية الأداء، بينما شكلت الشراكات نسبة %94 من هذه القائمة. وفي المقابل، كان أكثر من نصف الشركات منخفضة الأداء، تلك التي أسسها فرد واحد. وفي القائمة السنوية للشركات المئة الأسرع نمواً والتي تصدرها مجلة «إنك» الأمريكية المختصة بالأعمال، تشكِّل الشراكات حوالي ثلثي القائمة، تتراوح فيها من شراكات ثنائية أو ثلاثية، إلى شراكات أكبر يدعمها فريق مؤسِس.

إذن ما الذي تقدِّمه الشراكة للمؤسسة؟ ولماذا تُعَدُّ عنصر قوة؟

تكمن قوة الشراكة في التكامل الذي تحدثه نتيجة لاتحاد تيارات مختلفة من الكفاءات والمهارات وطريقة التفكير، يضخها أفراد الفريق المؤسس إلى بنيتها الأساسية. وربما نفكر أن الشركاء الناجحين هم أكثرهم تماثلاً، لكن الواقع يؤكد أن المفتاح الحقيقي هو تكامل الشركاء وليس تماثلهم، حتى ولو افترضنا أن فكرة التماثل والتطابق التام بين شريكين فكرة يمكن تحقيقها عملياً. فهذا التماثل يعني التقدم خطوتين في الاتجاه نفسه، بينما تحتاج الشركات إلى خطوات منتظمة في اتجاهات متعددة كي تثبت أقدامها في عالم الأعمال. وهذا ما يقدِّمه التكامل حين يقوم على قاعدة مشتركة من التشابه والتوافق، ويمتد بعدها ليغطي طيفاً واسعاً من نقاط القوى التي يتفاوت الرصيد الشخصي منها عند أعضاء الفريق المؤسس.

بعض المهارات المطلوبة
«الفريق المؤسس هو تلك المجموعة من البشر، الذين إذا تم إلقاؤهم معاً على جزيرة مهجورة، يكونوا قادرين على صنع مدينة كاملة». هذه هي صورة الفريق المؤسس كما يرسمها سبروتو باجشي أحد مؤسسي «شجرة العقل» وهي شركة هندية ناجحة تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات. وفي كتابه عن المؤسسات عالية الأداء، يحكي باجشي عن قصة تأسيس شركته، التي قامت عن طريق تعاون مثمر بين عشرة من الشركاء شكلوا معاً فريقاً متكاملاً قاد الشركة في رحلة نجاح متميزة كان من ضمن محطاتها فوزها بجائزة التميز الوطني للعام 2008م.

يوضِّح باجشي أن أهم أسباب نجاح شركته هي الدرجة العالية من التكامل التي يملكها الفريق المؤسس. وبعيداً عن الأمور التقنية التي تخص تفاصيل العمل ومهامه المحددة، فإن كل واحد من المؤسسين العشرة له نطاقه الخاص من نقاط القوة الشخصية التي تميزه. وهو يقول في هذا الصدد: «نطاق قوتي الخاص هو التفكير بعيد المدى، أما نطاق كامران أوزير فهو فهم أدق تفاصيل التكنولوجيا وتعقيداتها. بارساثراسي لديه تلك القدرة الخاصة على إرضاء العملاء، ورافنان هو أفضل من يعقد الصفقات. سكوت متميز في التعامل مع الأمور المالية، أما لاهيري فيعرف جيداً كيف يختبر الخطط والاستراتيجيات ويحدد إن كانت ستنجح أم لا. كريشنا كومار لديه موهبة البيع، وجاناكيرامان لديه شغف بالبحوث والتطوير. بانرجي تميزه مهارات القيادة، أما سوتا فلديه القدرة على إلهام الآخرين وبث جو مشجع من الثقة والحماس».

في المراحل الأولى من حياة الشركة، تكون للشراكة أهمية خاصة. فهي تعني أن تدخل المؤسسة عالم الأعمال وهي مستعدة لما سيأتي بعد ذلك، بامتلاكها مجموعة المهارات الضرورية واللازمة لنجاحها منذ اليوم الأول. فمهما اختلفت طبيعة المؤسسات أو مجال عملها، فهناك مهارات معيَّنة يجب أن تكون حاضرة فيها منذ البداية، وأن تكون أصيلة فيها وليست «مجلوبة» من الخارج.

ويمكننا تلخيص هذه المهارات في أربعة مجالات أساسية هي: القدرة على بناء شركة أو مؤسسة وتركيب «طبقاتها» المختلفة فوق بعضها، والقدرة على رؤية الفرص المناسبة للعمل أو الاستثمار، والقدرة على «قراءة» الأرقام واستيعاب دلالتها، والقدرة على التفاوض والتوصل لاتفاقات ناجحة. واختلاف طبيعة هذه المهارات يجعلنا ندرك مدى الصعوبة في أن يكون فرد واحد متميزاً فيها جميعاً، بعكس إمكانية وجودها في فريق مؤسس تتوزع فيه نقاط قوة كل فرد من أفراده عليها. وبالرغم من أن أداء الوظائف التي تعتمد على هذه المهارات سيتم توزيعه على الموظفين والمديرين المتخصصين الذين سيلتحقون بالشركة بعد تأسيسها، إلا أن غيابها في لحظة تأسيس الشركة ينقص الكثير من أسهم نجاحها في عالم الأعمال.

ففي الأيام الأولى للشركة، ستكون مسؤولية هذا الفريق وحده، أن يجري عملية البيع الأولى، ويطلق المنتج الأول، ويتفاوض مع البنوك أو المستثمرين أو الموردين للمرة الأولى. ثم بعد فترة، حين تتوزع المهام على مديرين وموظفين يلتحقون بالشركة كجزء من عملية نموها، فإن الدراية بهذه المهارات والتمكن منها داخل الفريق المؤسس هو الذي يسمح للثقة بأن تسري في جو الشركة بين الفريق المؤسس من جهة، وبين بقية الموظفين من الجهة الأخرى. فيطمئن المؤسسون إلى قدرتهم على تقييم كفاءة الموظفين واختيارهم تبعاً لذلك، ثم إلى قدرتهم على متابعة أدائهم بعد انضمامهم للشركة. ويطمئن الموظفون إلى فهم المؤسسين لطبيعة العمل، وإلى واقعية النتائج المطلوب منهم تحقيقها. وسواء أكانت الشركة في بدايتها أو في مراحل متقدِّمة من عمرها، فإن وجود فريق مؤسس متمكن من هذه المهارات خلفها، شرط أساسي لاتخاذ قرارت صحيحة، مبنية على قراءة واعية لمجريات الأمور.

من ناحية أخرى، يقول عالم النفس الأمريكي دافيد جيدج إنه في الفترة الأولى من عمر الشركة، يكون للشراكة ميزة إضافية. فهي تعني وجود من يشارك الضغط النفسي المميز لهذه المرحلة، ويجعل هذا العبء أقل ثقلاً. وفي الوقت الذي تكون فيه أقدام الشركة غير مستقرة على الأرض بعد، تُشيع الشراكة جواً من الأمان والحماس للعمل، اعتماداً على فكرة «نحن في هذا معاً».

وقد أثارت فكرة الشراكة ودورها الكبير في عالم الأعمال اهتمام دافيد جيدج، فأسس شركة «بي إم سي» المتخصصة في استشارات ودعم الشراكات. ويوضِّح أنه وجد من خلال خبرته العملية التي امتدت في هذا المجال لأكثر من ثمانية عشر عاماً أن أكبر شكوى عند أصحاب الأعمال هي أنهم
لا يجدون حولهم من يفهم بالضبط مقدار العبء الهائل الذي يعنيه قيام أحدهم بتأسيس شركة ودفعها خلال مراحلها الأولى. وحتى الأزواج أو الزوجات الذين يحاولون أن يكونوا متفهمين ومتعاطفين لأقصى درجة، لا يستطيعون فهم التعقيدات التي يجد أحدهم نفسه غارقاً فيها. وفي هذه المرحلة يكون دعم الشركاء لبعضهم عنصراً أساسياً من عناصر نجاح الشركة. فبناء مؤسسة هو عمل شاق للغاية، ووجود الشركاء أحد الأشياء التي تجعل صعوباته محتملة.

ملامح الشراكات الناجحة
لا يمكن أن تقوم شراكة ناجحة من دون توافر عنصر الثقة ما بين أطرافها، وفي عالم الأعمال يكون لهذه الكلمة ثقلها الخاص. فالشريك هو شخص غيرك تعطيه مفاتيح مالك وحلمك واسمك وسمعتك. ولذلك، فإن الثقة بين الشركاء هي الأساس الذي يقوم عليه باقي البناء، الثقة في أن أحداً من الشركاء لن يخالف مبادئ الأمانة مع شركائه، ويتعمد الإضرار بالمصلحة العامة تحت أي ظرف ممكن ومهما كان الأمر. وكذلك الثقة في قيمه وسلوكياته وتصرفاته كإنسان خارج حدود العمل. ففي الشراكة لا يعود الحد الفاصل بين المهني والشخصي محدداً.

يقول سبروتو باجشي صاحب شركة «شجرة العقل»: «في مسألة الثقة هناك اختبار صغير ومؤكد، هو أن أسأل نفسي لو لم أكن هنا في الغد هل أستطيع أن أضع مسؤولية أبنائي في يد أحد من هؤلاء الرجال؟ وتكون الإجابة هي نعم قاطعة».

الشراكات الناجحة هي تلك التي يتحرك فيها الجميع في اتجاه الأهداف نفسها، والتي يكون لدى الجميع فيها الإجابة نفسها عن سؤال «لماذا نحن هنا، ولماذا نفعل ما نفعله الآن؟». ولكي يتحقق ذلك، يجب أن تبنى الشراكة منذ يومها الأول على رؤية مشتركة لحاضرها، وكذلك لمستقبلها. فيكون أمام الجميع صورة واضحة لما يمكن أن تكون عليه المؤسسة، وما يمكن أن يتم إنجازه في المستقبل، حين يكرس الفريق كل الطاقة والموارد المتاحة في أيدي أعضائه، ويجتهد لأقصى حد في توقع المؤثرات الخارجية التي قد تواجهه.

تصبح هذه الصورة هدفاً يقود موارد الشركة وطاقتها لتحقيقه، وتحفظ تماسك الفريق وتوحِّد جهوده، سواء أكان ذلك متعلقاً بأداء المهام اليومية العادية، أو باتخاذ القرارات الكبرى التي تشكِّل نقاط تحول في مسيرة العمل. كما تحدد طريقة الشركة في ترتيب الأولويات، وهي الدليل الذي يعود إليه الشركاء حين يكون عليهم اتخاذ قرار تتعارض فيه مصلحتان مرغوبتان لكن اجتماعهما معاً في هذا الوقت يكون مستحيلاً. كالاختيار بين تحقيق مكسب ما في اللحظة الحالية، أو انتظار فرصة مستقبلية تعد بمكسب أكبر. وهي التي تحدد موقفها من توجهات معيَّنة كاتباع أساليب إنتاج صديقة للبيئة أو الدخول في أسواق عالمية.

يجتهد مؤسسو الشركات في وضع الخطط المكتوبة، وفي صياغة أهدافها في بنود على الورق. ورغم أهمية ذلك، فإنه ليس كافياً. فالأهم من ذلك هي الصورة الذهنية التي يحفظونها في عقولهم. لا يكفي أن يتفق أفراد الفريق المؤسس على خطط ورقية ثنائية الأبعاد، لكن يجب أن يكونوا في داخلهم متفقين فعلاً على رؤية حية ثلاثية الأبعاد للمستقبل الذي يريدونه لعملهم والدور الذي تلعبه شركتهم في عالم الأعمال، وفي المجتمع بأكمله. كما يجب أن يكونوا مستعدين لتقديم ما يجب عليهم أن يقدموه مقابل تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة.

تُعد شركة «أبل» للكمبيوتر واحدة من أنجح الشراكات في عالمنا اليوم. وكان وراء هذا النجاح رؤية مشتركة ولدت في الثمانينيات في عقل مؤسسيها ستيف جوبز وستيف وزنياك حين اتفق الاثنان على حلم كبير هو إنتاج كمبيوتر شخصي بنظام يمكن أن يفهمه ويتعامل معه أي شخص من دون أن تكون لديه خبرة خاصة. وهو الأمر الذي كان خارج نطاق التصور في ذلك الوقت. ولأنها كانت رؤية راسخة في عقلي صاحبيها، فقد استطاعت أن تجذب إليها فريقاً من العاملين الذين استطاعوا أن يجعلوها حقيقة، فكرَّسوا لها كل وقتهم لمدة عامين كاملين وبرواتب أقل مما كان يحصل عليه نظراؤهم.

وحين توسعت الشركة وأصبحت اسماً ذا ثقل في عالم التكنولوجيا، حددت الرؤية الأولى اتجاهاتها. فقد قرر مؤسساها أن عليهم التفرغ للجانب الابتكاري من العمل، والاستعانة بمدير تنفيذي جديد للشركة ليتولى الجانب الإداري فيها. وهو ما فعله ستيف جوبز حين توجه إلى جون سكالي الذي كان مديراً لإحدى شركات المشروبات الغازية، وسأله: «هل تريد أن تستمر في بيع الماء المُحلى، أم تريد فرصة لتغير العالم؟».

وأخيراً، فإن القدرة على الاختلاف وإدارته، قد تكون أهم من القدرة على الاتفاق. فالتفكير المشترك لا يعني التفكير بالطريقة نفسها، والوصول إلى النتائج نفسها. وفي وجود أكثر من شخص، من الطبيعي أن نتوقع وجود أكثر من طريقة للنظر إلى الأمور. هذا التعدد في وجهات النظر يحمل ثراءً لعملية اتخاذ القرار في الشركة، إذ يوسع من مساحة البدائل المطروحة، ويبقى على الفريق المؤسس أن يجد الإطار الفعَّال الذي يمكن التعامل مع الاختلاف على أساسه، وتحويله إلى عملية منتجة. ولكي يتحقق ذلك، يجب أن يتبنى الفريق أسلوباً للنقاش يكون فيه رأي كل منهم محل تقدير واحترام. بحيث تنتهي المناقشة باعتماد الخيار الذي كان محل تأييد العدد الأكبر من أعضاء الفريق، وفي الوقت نفسه، يوافق الآخرون الذين لم يؤيدوه على دعمه. فهؤلاء الذين عارضوا القرار يعلمون أنه تم الإصغاء إلى رأيهم، وأتيحت لهم كامل الفرصة في التأثير على نتيجة النقاش. إذ إن الاختلاف داخل غرفة الاجتماعات يكون فعالاً فقط إذا خرج الشركاء من الغرفة حاملين خطة عمل واحدة.

«خلال ثلاثين عاماً من العمل معاً، لم ندخل أبداً في منازعة أو مشادة» هذا ما يحكيه تشارلز جيشك عن شراكته مع جون وارنوك التي قامت عليها «أدوبي» والتي تُعد واحدة من أنجح شركات البرمجيات وأشهرها في العالم. ويكمل جيشك حديثه قائلاً: «بالطبع كانت لنا آراء مختلفة حول بعض الأمور، لكننا لم نغادر الشركة غاضبين من بعضنا أبداً. كانت علاقتنا رائعة واستثنائية، وأعرف أنني محظوظ للغاية. لا يمكنني أن أتصور أنني كنت سأفعل كل ذلك وحدي».

حتى وإن كان يستطيع أن يفعلها وحده، أليست الأمور أفضل في وجود شركاء يجعلون المشكلات أخف وطأة، والانتصار أجمل؟

أضف تعليق

التعليقات