بيئة وعلوم

للاستخدام مرة واحدة
الأشياء التي تُرمى بين
المستشفى والبيت

  • Surgical_Mask

يومياً، تنضم بعض المنتجات الجديدة إلى قائمة الأشياء الصالحة للاستخدام مرة واحدة. ومن النادر أن يخلو بيت من بعض هذه المنتجات. الأمر الذي يؤدي إلى طرح جملة أسئلة حول جدواها الاقتصادية وآثارها البيئية.
سليمان يونس يرصد زحف الأشياء التي تستخدم مرة واحدة على بيوتنا، ويبحث عن نقطة انطلاقها تمهيداً لوضعها في ميزان الجدوى على أكثر من صعيد.

منذ نحو نصف قرن تسللت إلى بيوت الميسورين، أولاً، المناديل الورقية التي تستخدم لمرة واحدة، لتحل محل المناديل القماشية التي كانت جزءاً أساسياً من طقوس النظافة وحُسن الهندام حسب مقاييس ذلك الزمن.

وبمرور الوقت، راحت الأشياء غير الصالحة للاستخدام أكثر من مرة تتكاثر في بيوتنا حتى بات يستحيل تعدادها بدقة.. أكواب وأطباق من الكرتون أو البلاستيك، أغطية طاولات من الورق، «حفاظات» للأطفال، شفرات حلاقة، قفازات للعمل في المطبخ أو للتنظيف، أكياس، عبوات حافظة للطعام والمشروبات، عدسات لاصقة، آلات تصوير، …الخ.

لا شك في أن منظر سلة النفايات المنزلية يوخز الضمير، نظراً لحجم النفايات الصلبة الذي ما كان ليبلغ هذا المبلغ لولا تلك الأشياء التي استخدمناها مرة واحدة وانتهت وظيفتها. وقبل استخدام هذه الأشياء، لا بد أن تكون قد دفعتنا إلى التساؤل عند شرائها ما إذا كانت «تستأهل» ثمنها طالما أننا لن نستخدمها أكثر من مرة.. ومع ذلك، فإننا أقدمنا، وسنقدم مراراً وتكراراً على شرائها طالما أنها قهرت كل أشكال التردد وتجاوزت الأسئلة.

فمن أين ظهرعالم الأشياء الصالحة للاستخدام مرة واحدة؟ وكيف استطاع مفهومها تسجيل مثل هذا الانتصار؟

الحاضنة الأساس: الطب
منذ أن تم الاعتراف بطب الأمراض المعدية كاختصاص فرعي في دراسة الطب، حقق هذا الميدان إنجازات مهمة، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ نجح في القضاء إلى حد كبير على أمراض كانت سابقاً بالغة الخطورة مثل السل والملاريا والأنفلونزا.. ومن جملة ما أدت إليه هذه النجاحات والترويج الإعلامي لها، هو التحول الجذري في مفاهيم النظافة عند عامة الناس، وازدياد وعيها إلى خطورة العدوى الجرثومية، وبالتالي نفورها من استخدام أي شيء سبق استخدامه وقد يكون حاملاً لبعض الجراثيم.

ظلَّت المستشفيات بادئ ذي بدء بعيدة إلى حد ما عن اعتماد الأشياء الصالحة للاستخدام مرة واحدة، مكتفية بوضع نظام لتعقيم غرفها وما فيها من أدوات، وظل هذا النظام يتطور ببطء. حتى استقر على ما هو عليه لنحو ثلاثة عقود من الزمن.

كانت المستشفيات تصنِّف أدواتها المستخدمة في علاج المرضى على صعيد احتمالات نقل العدوى من مريض إلى آخر إلى ثلاث فئات:
• 
فائقة الخطورة: الأدوات المحتمل تلوثها والمستخدمة في التعامل مع الأوعية الدموية أياً كان موضعها.
• 
معتدلة الخطورة: الأدوات المستخدمة في التعامل مع الجلد المفتوح أو مواضع السوائل السطحية في جسم الإنسان مثل العين والأنف.
• 
قليلة الخطورة: الأدوات التي تنحصر ملامستها للجسم على البشرة الخارجية السليمة مثل أدوات قياس الضغط.

ولكن ظهور أمراض معدية جديدة مثل الإيدز والسارس وأنفلونزا الطيور، أطاح بهذا التنظيم، خاصة بسبب الهلع الذي أثارته هذه الأمراض في بدايات ظهورها. فارتمت المستشفيات في حضن الأدوات التي تستخدم لمرة واحدة. ورفعت مستوى خطورة الأدوات الطبية أياً كان نوع استخدامها، في علاج ذوي الأمراض المعدية. ولم يقتصر الأمر على الأكواب والأطباق والحقن، بل وصل إلى الأكياس الهوائية المستخدمة في آلات قياس الضغط، وأجهزة التنفس، وموازين الحرارة، وصولاً إلى «الريموت كونترول» المستخدم لتشغيل تلفزيون الغرفة، بعدما تبين أن الدهون المتراكمة عليه من الأصابع تشكِّل بيئة صالحة لمدة طويلة لتحيا فيها الجراثيم أنفية المنشأ أو المصدر.

وساعد تطور الصناعة في تلبية كل هذه الاحتياجات بسهولة، وطرح جزءٍ من منتجاتها في الأسواق للراغبين من عامة الناس.

وحول الجدوى الاقتصادية، تجيب المستشفيات بسرعة وثقة: إن تكلفة هذه الأشياء المستخدمة لمرة واحدة، لا ترفع كلفة استشفاء المريض أكثر من 0.1 إلى 0.5 بالمئة. كما أنها تبقى أقل كلفة من علاج العدوى.

من المستشفى إلى الحياة اليومية
هذا الهاجس الصحي هو الذي يقف في العمق خلف غالبية الأشياء غير الصالحة للاستخدام أكثر من مرة في حياتنا اليومية. بدليل أن القوانين في معظم بلدان العالم صارت تمنع الحلاقين من استخدام شفرات الحلاقة أكثر من مرة، حتى ولو كانت عملياً صالحة للاستخدام أكثر من مرة، كما هو حالها في البيوت.

المفهوم الصحي ذاته يقف وراء اختفاء مناديل القماش، التي صارت بعد الوعي الصحي، تشكِّل بعد استخدامها وإعادتها إلى الجيب صورة مقززة. ولكن لا بد من الاعتراف أن دوافع أخرى غير مرتبطة بالعامل الصحي تقف وراء اعتماد هذا الكم الكبير من الأشياء المستخدمة لمرة واحدة في حياتنا اليومية.

فلماذا أكواب الكرتون والستايروفوم والأطباق البلاستيكية، وأغطية الطاولات من النايلون، إذا كان أفراد العائلة بصحة جيدة؟ ألا يكفي الغسل بالماء والصابون؟

الجواب هو: بلى. ولكن لماذا نتكبد عناء غسيل كل هذه الأشياء، إذا كان باستطاعتنا تلافي كل ذلك مقابل دراهم قليلة؟

نعم، الدراهم قليلة، وهي تقل باستمرار. فقبل نحو نصف قرن كانت المناديل الورقية في بلدان عديدة من إنتاج ماركة واحدة، أعطت اسمها ليصبح اسم نوع السلعة في معظم بلدان العالم. وكانت هذه السلعة باهظة الثمن نسبياً. ولذا، كما قلنا كان استعمالها حكراً على الميسورين. أما اليوم، فيمكننا أن نجد عشرات الماركات من هذه المناديل في أي بلد، كما نجد عشرات الماركات من أية سلعة صالحة للاستخدام لمرة واحدة.

فارتفاع مستوى معيشة الفرد في العقود الخمسة الماضية، جعل حساباته تميل إلى ترجيح كفة الكلفة الإضافية المحدودة مقترنة بتوفير الوقت الثمين والراحة الجسدية، على كفة ادخار هذه المبالغ الزهيدة مقرونة بعمل إضافي يستهلك وقتاً يمكن الاستفادة منه في مجالات أخرى. إنه تغير جذري في نظرتنا إلى الحياة اليومية، وهذا التغير لا يزال يسير قدماً، ولا شيء يوحي اليوم أن عالم الأشياء المستخدمة مرة واحدة سيشهد أية انتكاسة خلال المستقبل المنظور، رغم الحيرة التي يتسبب بها على الصعيد البيئي.

بيئياً.. ماذا يقول التدقيق؟
مما لا شك فيه أن كل الأشياء المستخدمة لمرة واحدة تدخل فيما يُجمع عادة تحت اسم «النفايات الصلبة». ومجرد رؤية هذه الأشياء في مستوعب النفايات لا بد وأن تثير القلق. ولكن ماذا لو دققنا بهذه الأشياء المستخدمة لمرة واحدة بعدما انتهت في مستوعب النفايات.

هناك النفايات الطبية التي لم تعد تشكِّل تحدياً بيئياً، إلا حيثما يوجد استهتار في التعامل معها كما هو الحال في عدد محدود من البلدان النامية أو الفقيرة. ففي معظم دول العالم، صارت معالجة هذه النفايات صناعة منظمة ومنضبطة بقوانين صارمة. وأكثر البيئيين تشدداً صار يقر بجدوى استخدام الأشياء لمرة واحدة في المستشفيات، ولا يجرؤ على الاعتراض عليها.

أما خارج المستشفيات، في البيوت والأماكن العامة كالمطاعم والفنادق والمقاهي، فإن التدقيق في هذه الأشياء يقودنا إلى جملة ملاحظات لم تشكِّل حتى اليوم موضع دراسة دقيقة لدعم صحتها بالأرقام. ويمكننا أن نتوقف أمام أهمها:

1 – 
هناك نوعان من الأشياء المستخدمة لمرة واحدة: فبعضها صالح للتدوير وبعضها غير صالح. أي إن قياس فائدتها بضررها مرتبط أولاً بالتوعية للإقلال من استخدام ما هو غير صالح للتدوير حتى أقصى حد ممكن، وتوفير صناعة لإعادة تدوير ما هو صالح منها لذلك.

2 – 
إذا حذفنا من هذه الأشياء التي نحن بصددها ما هو صالح لإعادة التدوير، فإن الباقي يشكِّل ضمن النفايات الصلبة نسبة تقل كثيراً عن نسبة بعض الأشياء المستخدمة لمدة طويلة مثل الإلكترونيات أو إطارات السيارات.

3 – 
المطلوب من البيئيين ومن معارضيهم إجراء دراسات جدوى تقارن الضرر البيئي الناجم عن استخدام غطاء طاولة ورقي أو من النايلون مثلاً وإعادة تدويره وعدمها، بالكلفة البيئية لغسل غطاء طاولة من قماش وما يستهلكه ذلك من ماء وصابون.

إلى ما تقدَّم، نضيف أن بعض الأشياء المستخدمة لمرة واحدة، لا تدخل في قائمة النفايات الصلبة فعلاً، حتى ولو ألقيت في مكب النفايات. إذ لا تلبث أن تُلتقط منه لتشكِّل المادة الخام لصناعة أخرى، أي أنها أقرب أن تكون مادة أولية منها إلى النفايات.

فمن أوجه استخدام الأشياء لمرة واحدة التي استفادت من نقاط جاذبيته، نذكر زجاجات وعبوات المرطبات والمشروبات الغازية المستهلكة بأرقام فلكية في كل بلدان العالم. ففي الماضي، كان على المستهلك أن يدفع رهناً لثمن العبوة أو الزجاجة، يسترده بعد أن يعود ويحمل الزجاجة فارغة إلى المتجر. ولكن فجأة، عرضت علينا الشركات المصنِّعة لهذه المشروبات العبوات مجاناً، من دون أن ترفع سعر المنتج. فهل هذه العبوات والزجاجات تدخل فعلاً في إطار الأشياء المستخدمة لمرة واحدة؟ الجواب يأتينا من العمال والأولاد الذين نراهم يجمعون هذه الزجاجات وعبوات الألمنيوم من مكبات النفايات لإعادة بيعها إلى المصانع كمواد خام لا تتطلب أكثر من الصهر، وبأسعار تقارب أسعار الخضراوات الطازجة.

ولأن كل الأشياء المستخدمة لمرة واحدة تبدو كما أشرنا وليدة تحالف يضم العلم وتطور الصناعة والوعي الاجتماعي وتغير مقاييس قيمة الوقت، ناهيك عن مصالح الشركات، يبدو عالم هذه الأشياء مرشحاً للتوسع أكثر فأكثر، وإذا كان هناك من أثر سلبي على البيئة، فإن تطور الصناعة وخاصة في مجال الكيمياء سيسعى ولا بد إلى معالجته.

أضف تعليق

التعليقات