ملف العدد

الملاكم

  • Picture-16
  • Poster
  • Poster001
  • reqheavy1
  • Rocky_II_d8992a59
  • RTR1NC0E
  • RTRZ1NZ
  • RTXBK6J
  • sharkeys
  • simonandgarfunkeltheconzw1
  • simon-garfunkel-image
  • WL010545
  • NYC35472
  • Picture-5
  • Picture-6
  • Picture-7
  • Picture-8
  • Picture-9
  • Picture-10
  • Picture-11
  • Picture-13
  • Picture-14
  • Picture-15

ظاهرياً، تبدو الملاكمة رياضة قاسية تحاكي الغرائز أولاً. ولكن ما من رياضة في التاريخ خاطبت الأدباء والفنانين كما خاطبتهم الملاكمة، فكتبوا حولها الكثير، وبعض عمالقتهم مارسها كهواية لبعض الوقت.
إنها أطول أنواع الرياضات عمراً في تاريخ الإنسانية. ظهرت أولاً في وادي الرافدين ووادي النيل. ومنذ ذلك الزمن، لم تغب الملاكمة عن معظم الحضارات.
تطورت قوانينها ببطء شديد، وتبدلت قليلاً فقط بين عصر وآخر وزمن وآخر. ولكنها بقيت في الأساس، صورة مصغَّرة عن مفهوم عملاق: الصراع بين طرفين، والاصطفاف الاجتماعي والنفسي خلف كل من هذين الطرفين.
فريق القافلة يجول بنا على أشهر حلبات التاريخ، وما أحاط بها من قراءات تتجاوز الرياضة لتغوص ثقافياً في أعماق الأحوال الاجتماعية والمقاييس الأخلاقية.

عُثر في أوراق فريدرش نيتشه الفيلسوف الألماني، بعد وفاته سنة 1900م، على نص عنوانه: «اختبار هوميروس»، يعود به نيتشه إلى أفكار شغلت باله طويلاً، وعالجها في كتابه الأول: «مولد التراجيديا من روح الموسيقى» (1872م). في هذا النص يقول الفيلسوف الألماني: «ليس طبيعياً ألاَّ يقاتل المرء حتى الموت، ليتيح للكراهية أن تفيض كاملة من نفسه». وإن «الثقافة النبيلة» هي تلك التي اعتنقت عناصر الثقافة الإغريقية، وهي مستمدة من «تعويض النفس من غريزة القتل».

من هذا القول إلى القول بتمجيد العنف، أو تسويغه، خطوة لا تبدو كبيرة. لكن هذه الفكرة قد تفسِّر شيئاً ربما من انتشار حب الملاكمة، لما فيها من روح النزال والتحدي والقتال الفردي الشخصي، بين بطلين.

أما الأديب الفرنسي ألبر كامو، الذي كان ملاكماً هاوياً فقال إن طقوس الملاكمة «تبسِّط كل شيء. الخير والشر، الرابح والخاسر».

إن مقارنة الملاكمة بأنواع الرياضة الأخرى تؤيد هذا التفسير لمحبة الناس الملاكمة في حالات، وتخالفه في حالات أخرى. غير أن علم التحليل النفسي الذي ازدهر في القرن العشرين، لم يخالف كثيراً قول نيتشه بذلك النزوع الغريزي لدى البشر، فيما يمكن وصفه بأنه العنف للعنف. وقد تكون رياضة الملاكمة نموذجاً ممتازاً لذلك النمط من السلوك البشري، الذي يعوِّض غريزة مكروهة (العنف) برياضة محبوبة (الملاكمة)، على نحو يجعل للتعلق بالملاكمة أسباباً أعمق مما قد يبدو لأول وهلة.

تاريخ الملاكمة
أقدم ما عند البشرية من آثار تؤرخ للملاكمة، نقوش من وادي الرافدين ومن وادي النيل، يزيد عمرها على خمسة آلاف سنة. لكننا لا نملك الكثير عن ملاكمة تلك العصور. ومنذئذ لم يخلُ عصر ولا حضارة من مشاهد منقوشة أو مرسومة، يرفع فيها مقاتلون، وأحياناً مقاتلات، القبضات بقفاز أو من دون قفاز، أحدهم في وجه الآخر، في منازلة بعضها كان للرياضة، وبعضها الآخر قتالاً حتى الموت.

وفي أواسط الألف الثاني قبل الميلاد (1600 – 1200 ق م) انتشرت الرياضة في شرق المتوسط كله، إذ وُجدت رسوم في قبرص على آنية فخار، ورسوم شديدة الدقة والتفصيل، في أكروتيري من الحقبة نفسها، تصور صبيين يتلاكمان. وقد وصفت الإلياذة والأوديسة، وهما ملحمتا هوميروس اللتان كُتبتا في القرن الثامن قبل الميلاد، ألعاباً رياضية عاصرت حروب طروادة، كان منها الملاكمة.

وورثت روما عن الإغريق حضارتهم ورياضتهم. وقد وصف فيرجيل، أديب الرومان الكبير، ألعاب الملاكمة في كتابته، وكان المتلاكمان يضعان في أيديهما قفازات جلد، تحمي يدي الملاكم، ولا تخفف عن وجه الخصم أو رأسه. وفي بعض الحالات كان المتلاكمان يضعان قفازات فيها بعض المعدن، القادر على قتل الخصم، حتى وصف فيرجيل في إحدى قصائده هذه القفازات بأنها: «قفازات الموت». كانت حتى مشاهدة الألعاب الرياضية محظورة على النساء، وكذلك خوضها بالطبع. وكانت مهمة الأدب والشعر في هذه المباريات، هي وصف جمال الملاكم المنتصر، وكلوم المنهزم.

القرون الوسطى
لكن في بداية عصر النهضة، ثمة نصوص من القرنين الثالث عشر والرابع عشر في أوروبا تثبت أن بريطانيا في تلك الحقبة، كانت تشهد مباريات مصارعة وملاكمة. وأول ملاكمة ذكرتها صحيفة «ميركوري» شاهدها دوق ألبمارل سنة 1681م. كان الملاكمون في ذلك العصر جزَّارين وحدَّادين وسقَّائين. وفي سنة 1719م، أنشأ جيمس فيج أول صالة مقفلة للملاكمة، في لندن. وبدا أن هذه الرياضة أخذت تزدهر في البلاد. ففي سنة 1723م، أمر الملك جورج الأول بإنشاء حلبة ملاكمة في هايد بارك. وأخذ النبلاء يدعمون بعض أفراد رعيتهم للنزال، وانتشرت المراهنة على اللعبة. وقد وضع جون بروتون، وهو سقّاء ملاكم، قوانين للعبة، نحو سنة 1743م. ثم أنشأ أكاديمية ملاكمة سنة 1747م. وقيل إن الملاكمة الحديثة تدين له بأكثر مما دانت أية لعبة لأي مؤسس من بعده. فقد نظَّم بداية المباراة ونهايتها، ودور الحكام فيها، وأسلوب تقاسم المال، وما إلى ذلك.

وسمي القرنان الثامن عشر والتاسع عشر: العصر الذهبي في الملاكمة البريطانية. وصارت اللعبة موضع فخر قومي. ففي أغنية بريطانية من تلك الحقبة، نقرأ:
الإيطاليون يطعنون الصديق في الظهر
في أحلك ساعات الليل المظلم
لكن البريطانيين أشداء ولطفاء
يلاكمون الصديق في وضح النهار
أبناء فرنسا يستخدمون المسدس
بوب بوب وتنتهي الحكاية
أما البريطانيون فيلكمون بقبضاتهم
ويهزأون من الهارب
لما كانت الملاكمة لعبة الرجال
وتسلية الترفيه عند البريطاني
فبها سنذيع شهرتنا في الكون
فوق شهرة كل الأمم الأخرى

الصعود الأمريكي
لكن العالَم الأمريكي الجديد كان في أواخر القرن التاسع عشر على وشك أن يرث اللعبة ويحتل الصدارة في تطويرها، مثلما ورث الإمبراطورية البريطانية ونفوذها في العالم فيما بعد. وكانت المباريات بين البريطاني توم كريب، والأمريكي توم مولينو سنتي 1810 و1811م، رمزاً لبزوغ الطموح الأمريكي هذا، وعزز المعاني الرمزية فيها أن مولينو كان عبداً من فرجينيا، وأن حرباً كانت تدور بين لندن وواشنطن، بسبب محاولة الإنجليز منع الأمريكيين من الاتجار مع فرنسا نابليون بونابرت آنذاك.

كان كريب بطل بريطانيا، أي بطل العالم. وسافر مولينو إلى لندن لينازله. وكان النزال في 18 ديسمبر 1810م. وقد تضافر انحياز الحكام وتدخل الجمهور ليكسب كريب، في الجولة التاسعة والثلاثين، على الرغم من تفوق مولينو المستمر في المباراة، مع ان بعض المتفرجين من الجمهور كانوا صعدوا إلى الحلبة وكسروا له إحدى أصابعه.

وبعد خمسين سنة، تحدى أمريكي من أصل أيرلندي، هو جون هينان، بطل العالم البريطاني توم سايرز. كانت بريطانيا واللعبة أيضاً، قد بدأتا تتراجعان أمام الصعود الأمريكي. ولم يكن أصل هينان الإيرلندي خالياً من الرمز، في نزاله مع البطل البريطاني، حتى أن الخوف من الهزيمة دفع صحيفة «مانشستر جارديان» إلى انتقاد المباراة وطالبت بمنعها. لكن المباراة أقيمت في 17 أبريل 1860م، واستمرت ساعتين وعشرين دقيقة. وفي الجولة الثانية والأربعين، اقتحم الجمهور الحلبة وأوقف اللعب.

لم يكن تداول مرتبة الطليعة في الملاكمة بين الإنجليز والأمريكيين مستغرباً، إذ قال الكاتب فرانك نوريس سنة 1903م: «لدينا جميعاً ما يكفي من صفات الأنجلو سكسون، لنستمتع بالقتال».

منع اللعبة وإجازتها
لا شك في أن العبودية في أمريكا، ثم الحرب الأهلية التي ألغتها، كانت حافزاً قوياً على الترويج للملاكمة في الولايات المتحدة. ولم تكن شدة الإقبال على المباريات بين أسود وأبيض، أو بين إيرلندي وبريطاني أصلاً، سوى الدليل القاطع على الكوامن النفسية والسياسية التي كانت تحرِّك المشاعر في الملاكمين والجمهور على السواء. لكن بعض الولايات (ماساشوستس 1849م، ونيويورك 1859م) سنَّت قوانين، منعت بها المراهنة في الملاكمة. غير أن اللعبة ظلت شعبية جداً، حتى أن تيودور روزفلت الذي صار رئيساً في أوائل القرن العشرين، عدها رياضة الأمم القوية التي لا تليق بالأمم الضعيفة.

تأرجح مصير اللعبة في أمريكا، بين 1880 و1920م، لا سيما بسبب قوانين الحظر، التي لم تحل دون إدمان المتفرجين وإقبالهم الشديد على حلبات انتشرت رغم المنع. ويحفل تاريخ اللعبة في هذه الحقبة بكثير من الأسماء اللامعة والقصص الشهيرة.

غير أن كُمون هذه النزعة الأمريكية بدا أشبه بالتحفز، انتظاراً للحظة تشريع الاحتراف والمراهنة في الملاكمة في عشرينيات القرن الماضي، ليحدث ما يشبه الانفجار، فتتحوّل الملاكمة إلى رياضة الأمريكيين الأولى بلا منازع تقريباً، بل انها لم تعد رياضة غيرهم! فالملاكمة أمريكية أولاً وأخيراً.

وبدأت منذئذ تتوالى الأسماء الأسطورية: جاك دمبسي، جو لويس، روكي مارشيانو، شوغر راي روبنسون، جيك لاموتا، فلويد باترسون، سوني لستون، محمد علي (كاسيوس كلاي)، جورج فورمان، مايك تايسون.

المسألة العنصرية.. منبت الأبطال السمر
إن معظم أبطال اللعبة التاريخيين كانوا من ذوي الأصول الإفريقية (أفرو أميركان)، يليهم الإيطاليون والإسبان. فما علاقة لون البشرة بهذا التفوق؟

مما لا شك فيه، يقول المؤرخون، إن الضغوط الاجتماعية التي واجهها السود في أمريكا بسبب سياسة التمييز العنصري ولَّدت لديهم طموحاً نفسياً إلى التفوق. وكذلك، فإن الفقر الذي عاناه هؤلاء إضافة إلى المهاجرين الإيطاليين والإسبان، أضاف إلى هذا الطموح محركاً شديد القوة، ظلَّ فاعلاً بوضوح في القرن العشرين.

وبلغ استخدام القبضتين في مواجهة المسألة العنصرية الذروة، مع كاسيوس كلاي، الذي اعتنق الإسلام وتسمّى: محمد علي. لم يكتفِ محمد علي بالملاكمة، بل أشهر إسلامه ورفض الخدمة العسكرية في فيتنام، ومُنع من الملاكمة وجُرِّد من لقبه، وتحوّل إلى رمز للتمرد على المؤسسة الحاكمة في عهدي لندون جونسون وريتشارد نكسون.

صحيح أنه أخذ يحوّل نفوذه وسمعته لخدمة واشنطن، بعدما دعاه الرئيس جيرالد فورد إلى البيت الأبيض، وقبِل تكليف الرئيس جيمي كارتر ليجول في إفريقيا داعياً إلى مقاطعة ألعاب موسكو الأولمبية، ثم أيد رونالد ريجان للرئاسة، وسافر إلى العراق ليتوسط من أجل الإفراج عن أمريكيين احتُجزوا هناك في عهد صدام حسين، إلا أن حقوق السود ظلت قضيته في أي حال.

فقد كان صاحب الهتاف: «قلها بصوت عالٍ، أنا أسود وفخور بذلك». وحين عُرض عليه أن يلعب دور الملاكم الأسود جاك جونسون في فلم: «الأمل الأبيض الكبير» (The Great White Hope)، الذي أخرجه مارتن ريت، سنة 1976م، رفض الدور، مع قوله إنه يحب الملاكم جونسون. كان يمكن أن يلعب دور الأسود الذي يكرهه البيض، لكنه كان يأنف دور الأسود الذي يجري وراء امرأة بيضاء. وقال جيمس إيرل جونز الذي أخذ الدور، إن تمثيله استند إلى مراقبته محمد علي الطويلة.

الملاكمة في صميم الأدب
في العام 1964م، قال محمد علي إن «جميع الشعراء الكبار كان يجدر أن يكونوا ملاكمين. خذوا مثلاً كيتس أو شيلي، كانا شاعرين جيدين، لكنهما ماتا شابين. لماذا؟ أتعرفون لماذا؟ لأنهما لم يتمرنا».

ولكن، حتى ولو تركنا جانباً مناقشة صحة هذا القول ودقته، لا يمكننا إغفال عدد الأدباء الذين تورطوا في رياضة الملاكمة ممارسة ودراسة، قبل أن يقدِّم محمد علي نصيحته هذه.

فإضافة إلى الأديب الفرنسي ألبير كامو الذي أشرنا سابقاً إلى عشقه لهذه الرياضة وممارسته لها لبعض الوقت، كان الشاعر الإنجليزي الشهير اللورد بايرون ملاكماً في شبابه خلال مطلع القرن التاسع عشر. ويُروى أن علاقته العاطفية التي هزَّت المجتمع البريطاني آنذاك، مع اللايدي كارولاين لامب، بدأت بإعجاب هذه السيدة بالملاكم بايرون قبل إعجابها بشِعره.

ويُعد الأديب الأمريكي الشهير إرنست همنجواي أكثر الأدباء انغماساً في عالم الملاكمة. فقد كتب أول رسالة أدبية حول الملاكمة وهو لا يزال على مقاعد الدراسة الثانوية في التاسعة عشرة من عمره. ومارس هذه الهواية بعض الوقت، وارتاد حلبات الملاكمة في باريس خلال وجوده فيها. وكثيراً ما كان همنجواي يربط بين الأدب والملاكمة. فمن أقواله المعروفة مثلاً قوله إن الكتَّاب مثل الملاكمين، يغادر الجيل منهم مخلياً الساحة لجيل جديد. وكان يهوى مقارنة نفسه بالكتَّاب السابقين مثل تورجنيف وموباسان وتولستوي، لأنه كان يرى أن «الأمر يشبه منازلة معهم، مثل المنازلة بين الملاكمين». وثمة رسائل تبادلها مع زملائه، يشبِّه فيها المقارعة بين الكتَّاب على أنها نوع من الملاكمة.

والواقع أن الأدب المعاصر في أمريكا أنتج عدداً لا يُحصى من الروايات والأعمال الأدبية التي تتناول الملاكمة من أوجه مختلفة. وكان للمسألة العرقية حصة الأسد منها.

وبسبب شعبية هذه الرياضة، واستيحاء معظم هذه الروايات من صميم الحياة اليومية، والطابع التصويري فيها، كان معظمها ينتقل فوراً إلى شاشة السينما، التي حملته إلى العالم بأسره.

الملاكمة في السينما الأمريكية
تتشابه شروط نجاح أفلام الملاكمة كثيراً مع شروط مباريات الملاكمة التي تنظم حقيقة بين الملاكمين. وهذا أمر قلما ينطبق على كثير من أنماط الأفلام الأخرى. ففي الأفلام الأخرى هوة قد تتسع أو تضيق بين الحقيقة والخيال السينمائي.

ففي مباريات الملاكمة يؤكد تاريخ القرن العشرين، أن أنجح المباريات وأشدها جذباً للمتفرجين والإعلان والانتباه الإعلامي، هي تلك المباريات التي كان الخصمان فيها ملاكماً محبوباً وسيماً خلوقاً في جانب، يقابله في الجانب الآخر ملاكم شرس كريه، وإذا أمكن، سيئ السمعة.
وتلك تماماً هي شروط نجاح أي فِلم من أفلام الملاكمة، على مر السنين التي عالجت فيها هوليوود وغيرها هذا الموضوع في رواياتها. فالناس تحب الانحياز للخير والجمال والخلق الرفيع في صراعها مع الشراسة والقبح وسوء السلوك. وقد كانت أفلام الملاكمة صورة واضحة ومباشرة للصراع، ولذا استعارت السينما ميزان القيم من على الحلبة، لأن الصراع الرياضي ها هنا صراع واضح بين شخصين لا أكثر، لكنه يمثل صراعاً معنوياً أعمق، يتواجه فيه الخير والشر في نفوس الناس.

وقد لاحظ هذا الأمر بعمق، سوني لستون (1928 – 1970م)، بطل العالم السابق في الملاكمة للوزن الثقيل، حين قال: «مباراة الملاكمة مثل أفلام الكاوبوي، يجب أن يكون ثمة أخيار وأشرار، والناس تذهب لترى الأشرار يُهزَمون».

ولكن المسألة وإن بدت سهلة بسيطة، إلا أنها في الواقع لم تكن كذلك دوماً، لأن على منظم المباريات، ومخرج الفِلم أيضاً، أن يختار: من الخيِّر ومن الشرير. صحيح أن بعض الملاكمين الأبطال ارتكبوا جرائم أو جنايات كرّهت الجمهور بهم، فكان الانحياز ضدهم إذن سهلاً. وصحيح أن السياسة تدخلت أحياناً لتجعل هذا الملاكم خيّراً عند أنصاره، وذاك شريراً، لكن مثل هذه الحالات التي تسهّل الاختيار، لم تكن متوافرة دوماً في تاريخ الملاكمة في القرن العشرين. ولقد كان المنظمون يختارون فيقولون لهذا: أنت الشرير، ولذاك: أنت البطل المحبوب، وكان عليهما أن يلعبا هذا الدور في المؤتمرات الصحافية التي كانت تسبق المباريات. حتى أن بعض التمثيليات المصطنعة هذه كادت تنقلب إلى قتال حقيقي في بعض الحالات.

ويدل هذا الأمر كم ان السيناريو بين الحقيقة والأفلام في موضوع الملاكمة، يكاد يتطابق تطابقاً تاماً. لكن في أفلام الملاكمة ناحية أخرى تخاطب نفسية مشاهد الفِلم، مثلما تخاطب نفسية مشاهد المباراة الحقيقية، وهي غريزة العنف والتوق إلى رؤية صراع، أي صراع، وربما رؤية الدم يسيل، من دون أيما علاقة بخير وشر. وفي هذا أيضاً يلتقي الفِلم مع الحقيقة، على نحو يجعل للسينما دوراً مؤثراً حقاً في حياة الناس، لا من الناحية الأخلاقية، أو الناحية الثقافية والفنية وحسب، بل من الناحية الحسيّة والنفسية أيضاً.

إن عمق هاتين الغريزتين: غريزة الخير والتوق إلى رؤية الشر ينهزم، وغريزة التنفيس عن احتقان العنف في داخلتنا، جعل نمط أفلام الملاكمة نمطاً لا تنقضي سنة من دون أن تكون له فيها حصة من الإنتاج الجديد. وقد بلغ عدد أفلام الملاكمة حتى سنة 2007م، في إحصاء عالمي، 936 فِلماً منها الأفلام السينمائية والتلفزيونية وأفلام التوثيق.

وكان أول الأفلام صامتاً بالطبع، وظهر سنة 1926م في هوليوود، وكان عنوانه: قل هذا لمشاة البحرية (Tell it to the Marines). وفي السنة نفسها ظهر فِلم: كبير الخدم المقاتل (The Battling Butler)، الذي أخرجه باستر كيتون. وفي هذا الفِلم، يتخذ المخرج مسلكاً لا علاقة له أبداً بلعبة الخير والشر، إذ ان القصة تدور حول شاب يدخن، فيدفعه والده إلى رياضة الملاكمة، ليقلع عن التدخين. ويقع الشاب في حب فتاة، ولما كان في الأصل لم يولد ملاكماً، وكان في الوقت نفسه يريد أن يثبت لفتاته قوته وجدارته، يقع في مواجهة ملاكمين ليس في قوتهم. وتختلط في مشاهد الملاكمة مشاعر الشفقة والرغبة في الضحك، في عمق مثير للإعجاب. ويحتوي الفِلم على مشاهد لحلبة الملاكمة بعد المباريات، توحي الوحشة والفراغ، بعد الاحتفال الصاخب الحاشد الذي تشهده المباريات في العموم.

ثم أخذت تتوالى أفلام أخرى، حتى ظهرت في 1931م، تحفة تشارلي تشابلن: أضواء المدينة، وهي فِلم يروي قصة متشرد صعلوك نحيل الجسم، قصير القامة (تشابلن)، يقع في حب بائعة زهور ضريرة، فيقرر إعانتها على عيشها، ويدخل عالم الملاكمة ليكسب المال من أجل هذا، ويواجه الملاكمين العمالقة في قصة تختلط فيها دموع الضحك بدموع التأثر، لزخم العاطفة التي يبديها العبقري البريطاني في فِلمه الخالد.

ومن السيل الذي يضم قرابة الألف فِلم نذكر:
– 
كيد جالاهاد (Kid Galahad)، سنة 1937م، من روائع أفلام الملاكمة، أخرجه مايكل كورتيز. وهو يُدخل المشاهد في الجو الموبوء الذي ارتهن في أذهان الناس باسم آل كابوني، زعيم عصابات المافيا الشهير. ففي تنظيم مباريات الملاكمة مصالح، تحوّل الرياضة إلى تجارة، يدخل في حسابها رشوة الملاكمين لافتعال نتائج تناسب مراهنات معينة. في هذا الفِلم يبدع المخرج في تصوير لعبة إخضاع القوي الساذج (الملاكم) لأوامر الفاسد (منظم المباريات). ولا بد بالطبع من قصة حب بين الملاكم وحبيبته (بيتي دافيس)، التي تترقب الوقت المناسب لإخراج حبيبها من هذا الجو سليماً في نفسه وفي جسده، قبل أن يقضي عليه فساد الجو.

– 
مدينة للغزو (City for Conquest)، سنة 1940م، إخراج أناتول ليتفاك. فِلم موسيقي، ضم عناصر قصة حب وقصة ملاكمة وروى في بعض مشاهده البذخ المفرط. وهو قصة داني كيني (جيمس كاغني)، الملاكم الذي يطمح إلى تسلق المجد من حي الفقراء في نيويورك، أما حبيبته فسلّمها إلى المجد هو الرقص، ويريد أخوه أن يكتب سمفونية عن الحياة في نيويورك، بجمالها وقبحها. وصار الفِلم نموذجاً اتبعته أفلام كثيرة بعدئذ.

– 
جسد وروح (Body and Soul)، سنة 1947م، إخراج روبرت روسن. فِلم آخر يروي ارتهان عالم الملاكمة بالغش والتجارة وتزوير النتائج سلفاً. يبرز فيه الممثل جون جارفيلد ببراعته في الملاكمة، وقوة ضرباته التي لا تصل إلى العنف الذي أبداه روبرت دي نيرو فيما بعد.

– 
البطل (Champion)، سنة 1949م، إخراج مارك روبسون. هي قصة شاب (كيرك دوجلاس) يقع في ورطة مالية، فيضطر إلى الملاكمة ليسدد الدين، ويتعثر في مبارياته الأولى، لكن موهبته سرعان ما تترسخ، ويبرز على الحلبة. روبسون أخرج فِلمين، هذا أحدهما، عن فساد مجتمع منظمي مباريات الملاكمة. ومع ان القصة عادية، إلا أن دوجلاس، الذي جعله الفِلم نجماً ساطعاً، أبدى شراسة ونهماً للشهرة، وطلباً للاحترام.

– 
الترتيب (The Set-Up)، سنة 1949م، إخراج روبرت وايز. فِلم آخر يروي جو الغش في دنيا تنظيم المباريات وترتيب النتائج فيها. وفيه مشاهد ملاكمة، ينقلب فيها التمثيل إلى صراع وقتال شبه حقيقي بين الملاكمين، لم يكن معهوداً في الأفلام. لكن المشاهدين في تلك السنة فضلوا عليه فِلم البطل.

– من هنا إلى الأبد (From Here to Eternity)، سنة 1953م. فاز بجائزة أوسكار. إخراج فريد زنمان لرواية جيمس جونز. حشد مجموعة نجوم على رأسهم مونتغمري كليفت وبرت لانكستر وفرانك سيناترا وديبورا كير. وهو يروي قصة جندي ملاكم خجول اسمه لي (كليفت)، في هاواي، قبيل هجوم بيرل هاربور. يحثه الضابط على الانضمام إلى نادي الملاكمة، لكنه يرفض بعناد. يكلف الضابط العريف ملتون (لانكستر) أن يحول حياة لي الجندي الملاكم جحيماً. ويرتبط لي بصداقة مع زميله الجندي أنجلو (سيناترا). وفي تتابع حوادث القصة يُضرب أنجلو حتى الموت، فينتفض لي في بقية القصة لينتقم لصديقه. الفِلم من تحف هوليوود الخالدة حتماً.

– 
كلما كان سقوطهم عظيماً (The Harder They Fall)، سنة 1965م، إخراج مارك روبسون. يشكو منظم المباريات من أن الشبان لم يعودوا يرغبون في الملاكمة، ويريدون الذهاب إلى الجامعة. يبحث عن مغمورين ليصنع منهم أبطالاً، فيعثر على مهاجر أرجنتيني، تورو مورينو، وهو عملاق لا يعرف من الملاكمة شيئاً. لكن ترتيب النتائج يجعل منه نجماً، فيكسب الجميع ثروات، إلا مورينو. هذا الفِلم يريدك أن تكره الملاكمة. لكن بعض النقاد يقول إنه يريد أن يفضح فساد التنظيم، من أجل تطهير السوق من الوحول التي علقت بها.
بعد سنوات كان سوني ليستون وجيك لاموتا، وغيرهما من الملاكمين، يشهدون في اللجان الرسمية القضائية، في شأن الرشاوى والفساد هذه. لكن سرعان ما كان ظهور الملاكم الشاب كاسيوس كلاي (الذي اعتمد اسم محمد علي)، يقلب المقاييس، ويعيد إلى الملاكمة نضارتها وثقة الجمهور.

– 
أحدهم فوق يحبني (Somebody Up There Likes Me)، سنة 1965م، إخراج روبرت وايز. بول نيومن يلعب دور بطل العالم الملاكم روكي غرازيانو، في فِلمه الثاني ببراعة مثيرة. والقصة تروي حياة بطل الملاكمة العاصفة. وقد درب غرازيانو نيومن على الملاكمة من أجل إتقان أسلوبه في الفِلم، الذي كان سبب شهرة نيومن الواسعة.

– 
الأمل الأبيض الكبير (The Great White Hope)، سنة 1970م، إخراج مارتن ريت. الفِلم مقتبس عن المسرحية التي كتبها هوارد ساكلر في العام 1967م، وتروي قصة حب بين ملاكم أسود وامرأة بيضاء. غير أن الفِلم لم يلقَ النجاح المنتظر لأن السود الأمريكيين رأوا فيه تعظيماً لقصة حب رجل أسود لامرأة بيضاء، في حين رأى فيه البيض مواعظ كثيرة ومساعي لتأنيب ضميرهم أكثر مما يتحملون.

– 
المدينة البدينة (Fat City)، سنة 1972م، تحفة المخرج جون هيوستون، لرواية ليونارد غاردنر. يكاد الفِلم ألا يكون فِلم ملاكمة، من عمق تحليل الشخصيات التي يتناولها. ولما كان هيوستون في شبابه ملاكماً هاوياً، فإن هذه الهواية ظهرت في معالجته اللعبة بمحبة واضحة.

– 
روكي (Rocky)، سنة 1976م، إخراج جون ج أفيلدسن. كتب القصة ولعب دور البطل سلفستر ستالوني، ويميل النقاد الجادون إلى رفض وضعه في المرتبة التي رفعها إليه المشاهد. إلا أن الفِلم محطة لا تُغفَل في تاريخ أفلام الملاكمة. ذلك أن هذا الجمهور الذي أحبه، إنما أحب فيه أشياء، منها لا شك، النكهة الأمريكية المحلية. وعلى الرغم من أن هذا الفِلم كان صادقاً ومقنعاً في تصوير قصة «البطل العائد»، إلا أن ترداد الفكرة ذاتها في أفلام ستالوني اللاحقة، أساءت إلى هذا الفِلم الأول في سلسلته.

– 
البطل (The Champ)، سنة 1979م، إخراج فرانكو زيفيريلي: قصة مؤثرة حول ملاكم متقاعد يتولى تربية ابنه الصغير بعدما طلَّق زوجته، ويسعى للعودة إلى الملاكمة ليؤمِّن حياة أفضل لابنه، فيدفع حياته ثمناً لذلك. وهو من بطولة جون فويت وفاي دوناواي والطفل ريكي شرويدر الذي حاز جائزة غولدن غلوب كأفضل ممثل جديد في السينما..

– 
الثور الهائج (Raging Bull)، سنة 1980م، إخراج مارتن سكورسيزي. حبكة متخيلة حول حياة الملاكم جيك لاموتا، الذي كان عليه في بداية سيرته أن يلعب للهزيمة، قبل أن يسمح له منظمو المباريات، بأن يسعى في الفوز. يصور الفِلم كل مكونات بيئة المهنة، من ترتيب النتائج إلى فكرة الصعود إلى المجد، إلى الفساد المستشري. ويبين الفِلم قصة هذا الملاكم، الذي تفوق على كل العوامل في إلحاق الأذى بنفسه. يتفوق الفِلم بالتقنية العالية، ويدهشك أن روبرت دونيرو زاد وزنه 25 كيلوغراماً، ليؤدي الدور.

– 
أنوف محطمة (Broken Noses)، سنة 1987م، إخراج بروس ويبر. فِلم توثيق، يعتنق فكرة المخرج القائلة: «أحب أن أرى ولداً طيباً يقاتل». وهو يتناول الملاكم الصغير أندي منسكر، والنادي الذي يديره للملاكمين الفتية. والفِلم توضيب ممتاز لمشاهد العضلات الفتية المفتولة والخصور المرنة والأرجل المتحركة. ويمتاز الفِلم بأنه خرج من جو الطمع والتجارة باللعبة، إلى جو محبتها.

– 
حين كنا ملوكاً (When We Were Kings)، سنة 1996م، إخراج ليون غاست. فِلم توثيق عن البطل محمد علي. الفِلم يصور عبقريته المقاتلة، وجاذبيته الطاغية، وسلطته في المجتمع الأمريكي الإفريقي، حيث كانت آراؤه الاجتماعية والسياسية محركاً للرجال والنساء في العالم. ويحتوي الفِلم على مشاهد من اللقاء التاريخي سنة 1974م بين محمد علي وجورج فورمان، الذي كان يُعتَقد أنه خطر ولا يُهزَم. وكانت المباراة في كنشاسا، أمام ناظري موبوتو سيسي سيكو، رئيس الكونجو آنذاك.
ويحب النقاد الفِلم لأنه يطغى بصورة الملاكمة النظيفة التي تحظى بالاحترام، على صورة الملاكمة القذرة التي دخلتها الصفقات والجريمة.

– 
طفلة المليون دولار (Million Dollar Baby): سنة 2004، إخراج كلينت إيستوود، كتابة بول هاجنز، وقد استوحى هذا الأخير الحبكة من مجموعة القصص القصيرة «روب برنز» (حروق الحبال) لدجيري بويد. يدور الفِلم حول امرأة ثلاثينية تهوى الملاكمة، وحول مدربٍ للملاكمة كان قد قرّر من زمن بعيد ألّا يعود للتدريب، فإذ به يجد نفسه وقد عاد عن قراره لأجلها. ماغي، وهو اسم البطلة، تشغف بالملاكمة حد الاحتراف والتألّق، إلّا أن شغفها إيّاه ينقلب عليها مأساةً تؤدّي إلى موتها. نال الفِلم أربعة أوسكارات، منها جائزة أفضل أداء نسائي في دور رئيس التي نالتها الممثلة هيلاري سوانك. الفِلم، فضلًا عن جودة إخراجه والعلاقة الأبوية التي ينسجها بين الملاكِمة ومدربها، ينفرد في كونه يضع المرأة وسط دائرة الضوء وعلى الحلبة في آن.

الملاكمة في الفن التشكيلي
بين التوثيق والخطاب الاجتماعي
تقدِّم الملاكمة مشهداً متكاملاً جذاباً للرسم، من دون حاجة الرسام إلى شغل نفسه في تعديل الوضعيات وإخراج المشهد. فطالما أن موضوعها المواجهة بين شخصين، يصبح تركيب اللوحة محدداً. البطلان في الوسط. وطالما أن الجمهور يحيط بالحلبة، تصبح خلفية اللوحة جاهزة أيضاً. وما على الفنان إلا أن يتفرغ إلى التحدي على صعيد دراسة الأجسام في حركاتها، ورسمها بأقصى حد من الأمانة لتكوينها ولحركتها.

وبشكل عام، يمكن القول إن اللوحات التي تمثِّل الملاكمين ومشاهد الملاكمة تنقسم إلى فئتين:
فئة توقفت أمام الشكل فسعت إلى تدوين جمالياته وتوثيقها. ومن أبرز الأساتذة الذين درسوا رسماً فن الملاكمة نذكر الانطباعي الفرنسي تيودور جيريكو، الذي أنجز رسوماً كثيرة وبعض الأعمال الليتوغرافية للملاكمين عام 1818م، تستمد قيمتها الفنية من الطابع الدراسي لجسم الإنسان أولاً، وتخلو إلى حد بعيد من أي خطاب نفسي أو اجتماعي.

وكثرت في القرن التاسع عشر الأعمال الغرافيكية التي تمثِّل مباريات حقيقية في الملاكمة لترافق أخبارها في الصحف والمجلات.

ومع أن التركيز على الشكل الجمالي لمشهد الملاكمة أو الحلبة ظَلَّ الدافع الأساس عند الفنانين الذين رسموه، فمنذ مطلع القرن العشرين، ونتيجة لتلاحم أحوال هذه الرياضة بالأحوال الاجتماعية والاصطفاف الذي تثيره، ظهرت في المدرسة الأمريكية بشكل خاص، فئة من لوحات الملاكمة التي لا تخلو من خطاب اجتماعي أو أخلاقي في غاية الوضوح. ومن أبرز الرسامين في هذا المجال نذكر جورج بيلوز.

في العام 1909م، رسم بيلوز لوحته الشهيرة «ستاغ آت شاركي»، وفيها نرى ملاكمين والحكم على حلبة تحيط بها من الأسفل وجوه الجمهور المشاهد.

فنياً، تجاوزت هذه اللوحة كل المدارس الرائجة آنذاك، بتقنيتها ونظرتها إلى ماهية الواقع. فالرسام على حد قوله بنفسه: «لم يرسم أجساماً، بل رسم الحركة». والحركة في هذه اللوحة عنيفة صاخبة بشكل يبعث على الصدمة. أما وجوه الجمهور فتختلف عن وجوه جماهير الملاكمة كما كانت تظهر في لوحات الفنانين الآخرين. إنهم هنا أشبه بمسوخ، وذوي تعابير على وجوههم غير قابلة للقراءة بوضوح.

وفي العام نفسه، رسم جورج بيلوز لوحة ثانية تمثِّل ملاكمين على الحلبة أحدهما أبيض والآخر أسود. ويكمن خطابها الصريح في اسمها: «كلاهما عضو في النادي». ففي إطار سعي الحكومة الأمريكية آنذاك إلى منع الملاكمة، وضعت شروطاً من ضمنها أن على الجمهور أن يكون عضواً في النادي الذي تقام فيه المباراة. ولكن كانت هناك قوانين تمنع الاختلاط العِرقي في الأندية، كان لابد من التحايل عليها لإبقاء الملاكمة ممكنة. واستمر بيلوز حتى العشرينيات أكثر الرسامين انغماساً في رسم الملاكمة على ضوء التحولات الاجتماعية، وصولاً إلى لوحته «الأمل الأبيض» التي تمثِّل ملاكماً أبيض طُرح أرضاً من قبل ملاكم أسود.

ومنذ ذلك العصر، ظل فن الرسم يرصد عالم الملاكمة بكل ما فيه، وصولاً إلى صورة محمد علي كما رسمه الفنان اندي ورهول عام 1977م، وفق مذهبه الفني الخاص برسم أبرز الشخصيات التي صاغت الثقافة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين.
كما وجد فنانون كثيرون قبل ورهول في عالم الملاكمة مادة دسمة لمواضيع مختلفة، نذكر منها على سبيل المثال «المتآمرون» التي رسمها ارشيبالد موتلي عام 1933م، لتعكس وجود شكوك حول طبخ نتائج بعض المباريات سلفاً. وفيها نرى أربعة رجال يحيطون بخامس جالس إلى الطاولة وأمامه ورقة لشرح الخطة. ولتوكيد نوعية المؤامرة، نجد على الحائط خلف الرجال لوحة زيتية تمثل مشهد ملاكمة.

وأخيراً، نشير إلى أن بعض الفنانين استخدم الملاكمة للتعبير عن وجهة نظره الشخصية في البطل والبطولة، كما هو الحال في لوحة بني أندروز «البطل» التي نرى فيها ملاكماً يجلس في ركن الحلبة وقد تورم وجهه حتى تشوهت ملامحه، وقد غطَّى رأسه (دليلاً على حساسيته) بمنشفة بيضاء ملطخة بالدماء.. بعبارة أخرى، البطل الذي ليس فيه ما يدعو إلى الإعجاب أو الانبهار.

قراءة في رمزية القبضة
قبل أن تكون رياضة، الملاكمة عراك جسدي، يعتمد كما هو معروف على اللكم بقبضة اليد المغلقة ككتلة متراصة.
إن قبضة اليد بشكلها هذا هي أول «شبه أداة» قتالية تخطر على بال الإنسان، يلجأ إليها قبل الاستعانة بأداة خارجية. وفي إغلاق قبضة اليد رمزية معينة، فأصابع اليد حين تتكتل وتتكاتف مع بعضها البعض تمثل رمز استنفار القوة الذاتية استعداداً للمواجهة.
ورفع اليد بالقبضة المغلقة من إشارات الإنذار والتهديد والتأهب للمواجهة. ويرفع القادة أمام مناصريهم القبضة تأكيداً على القوة في الاجتماع والاتحاد. وإغلاق قبضة اليد وأخذ وضعية الاستعداد للقتال يمثل في العادة الخطوة التي تلي تبادل التهديد الكلامي، والذي قد يكتفي برفع اليد أو اليد والسبابة متوعداً.
ومن المشاهد الرائجة شخص أخذ وضعية الوقوف الشبيهة بوقفة الملاكم وأغلق قبضته ورفعها أمام وجهه في موقف دفاعي بقدر ما هو هجومي، كي تكون قادرة على المناورة الحركية إذا جاز التعبير، استعداداً للمواجهة والبدء بتسديد اللكمات.
السؤال هو: ما الذي يجعل هذا الشكل من النزاع يتحول إلى رياضة ذات شعبية واسعة؟
ويتبعه سؤال آخر: لماذا من بين الرياضات جميعها حازت الملاكمة هذا القدر من الاهتمام الفني في الأدب والرسم اهتماماً يصل إلى ذروته في السينما؟ وإذا كانت القبضة المتأهبة هي نقطة الانطلاق، فماذا يجري بعد ذلك؟
لكل مصارع قبضة، بل قبضتين، يرفعهما نحو بعضهما البعض وقد تجاوزا التهديد والوعيد عن بعد. وربما كان أحدهما قد فكر بحزم قبضته متحدياً فقط قبل الآخر، فحذا هذا الآخر حذوه مستشعراً الخطر. ولحظة أن يوجه أحدهما اللكمة الأولى، تدخل المواجهة مرحلة الاستنفار الكامل، بما في ذلك اللجوء إلى الحيلة. فالقبضتان اللتان ترتفعان تهديداً بالانقضاض هما نفسيهما تقفان حارساً يقظاً يحول دون وصول اللكمة الموجهة من الخصم. وهكذا نرى أنفسنا فجأة وقد أصبح أمامنا مشهداً لمباراة على حلبة، بدل زقاق الحي أو ساحة المدرسة.
اللكمة القوية تشد الانتباه بقوة. إنها حركةٌ انفعاليةٌ فيها سرعة وانقضاض. وفي اللكمة المسددة بنجاح ما يشبه وثبة مفاجئة من نمر على فريسته: تأهب واستنفار وترقب ثم انقضاض سريع. واللكمة الناجحة تحتاج إلى السرعة لسببين: الأول هو عنصر المباغتة حيث تحول دون أن يقوم الخصم بعرقلة وصولها إلى هدفها وصدّها في منتصف الطريق، والثاني هو التأكد من قوة الارتطام، وتحقيق أكبر درجة إيلام ممكنة.
وتجمع حركة اللكمة ما بين القوة والرشاقة، وتحتاج إلى كفاءة عالية في المناورة الحركية. فالقوة المحضة لا تساوي شيئاً عند الملاكم، من دون الحركة السريعة والرشيقة، بل والحيلة التي يستفاد منها لتحقيق تسديدات «ذكية». وربما نستطيع أن نجد هنا شبهاً ما بين الملاكمة ولعبة كرة القدم، فالفريقان المتباريان يسددان ضربات لاحصر لها تجاه بعضهما البعض، لكن الضربات المؤثرة التي تصنع تحولاً في مجرى المباراة قليلة نسبياً. والضربة القوية التي ينجح أحد الملاكمين بتسديدها، والتي ينتج عنها أحياناً ما هو معروف بالضربة القاضية، تشبه إلى حد بعيد «الجول» أو الهدف في مرمى شباك الخصم.
وبقدر ما تمثل اللكمة المفردة القوية التي تنجح في تجاوز دفاعات الخصم نجاحاً يثير إعجاب المشاهدين وحماستهم، كذلك فإن اللكمات السريعة المتتالية تمثل أحد أشد عناصر التشويق والحماسة في متابعة الملاكمين على الحلبة، فهي توصل الخصم إلى حالة تهاوٍ بالتقسيط تحت وطأة تتابع اللكمات التي تنهال عليه كالسيل وتحوله إلى فريسة شبه عاجزة عن أخذ أية مبادرة دفاعية مقابلة.
اللكمة الموفقة جذَّابة، والملاكم الماهر جذَّاب. ومشاهدة ملاكمين يحاول كل منهما أن يستخدم ذروة المهارة مع ذروة القوة ضمن قصة، أيضاً جذَّابة. ولكن إن فسر هذا شعبية رياضة الملاكمة، فهو لا يفسِّر بمعزل عن عوامل أخرى كثيرة في الأدب والفن وخاصة السينما.
فإذا عدنا إلى حركة اللكمة نفسها وما تثيره من مشاعر، فلا شك في أن الانفعال أمام مشهد اللكمة يزيده كون اللكمة موجهة إلى الوجه والرأس كهدف رئيس. والمشاهد الذي يسقط ما يراه على نفسه نوعاً ما، تزيد هذه الناحية من انفعاله، خاصة وأن الضربات المتتالية التي تصيب الوجه والرأس سواء أكان في الملاكمة الحقيقية أم في الأفلام، تنتج عنها لائحة من التشوهات المؤذية والخطرة، تبدأ بجروح في الوجه وتنتهي بارتجاج المخ، مروراً بأذية العين أو كسر الأنف أو الفك. وحين يصاب الملاكم «البطل» بحدة تتحرك مشاعر المشاهدين تعاطفاً معه، تريده أن يتوقف، وتريده أن يستمر كي ينتقم لنفسه ويرد الأذية بالأذية.
وقد لعبت هذه الناحية الإنسانية دوراً محورياً في كثير من أفلام الملاكمة، وأصبحت أيضاً عنصراً من عناصر الرواية التراجيدية. إذ يقوم المقاولون الذين يديرون شؤون الملاكم التعاقدية والمالية بتشجيعه على خوض المباريات، متجاوزاً مخاوف إصابته بأضرار صحية لاشفاء منها، وتزداد عليه الضغوط حتى من أهله أو من ذاته لسد حاجات معيشية لديه أو لدى من يعيلهم.
وتتقاطع النواحي الإنسانية بالنواحي المالية بالنواحي الغريزية مثل حب الثأر والرغبة في الانتصار، لتجعل من الملاكم هذه الشخصية التراجيدية الثرية بالاحتمالات. وتعبير القبضة يعطي اليد خصوصية في جسم الإنسان، إذ يتبدل اسمها عند تبدل شكلها… ومهمتها.

الملاكمة السياسية
في ذكريات الرئيس كارتر
بعدما رفض الزعيم النازي أدولف هتلر في عام 1936م مصافحة العدَّاء الأمريكي الأسود جيسي أوينز، تناست أمريكا، ظاهرياً المسألة العنصرية لبعض الوقت، والتفَّت حول بطلها في الملاكمة جو لويس الملقب بـ «قاذفة القنابل السمراء»، استعداداً لمباراته مع الملاكم الألماني ماكس شميلنج في العام 1938م. ويروى أن الرئيس الأمريكي استقبل لويس، وتحسس عضلات ساعده قائلاً: «إن أمريكا تعتمد على هذه العضلات».
دفع الأمريكيون 100 دولار (ثروة بمقاييس ذلك الوقت)، لمقاعد لم يجلسوا عليها. فبعد 124 ثانية من بدء المباراة سقط الملاكم الألماني بالضربة القاضية.
اندفع نصف مليون شخص في شوارع هارلم بنيويورك يحيون بطلهم بعبارة «ليحيا لويس» بالألمانية (هايل لويس)، نكاية بالزعيم النازي.
ويروي الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في مذكراته، أن عائلته التي كانت مقيمة في جورجيا، استمعت إلى مجريات المباراة على الراديو، الذي وضعته على النافذة، ورفعت صوته كي لا يقتحم الجيران منزلهم. وعند انتهاء المباراة، لم يسمع الوالد الذي كان يرتقب صيحات الفرح سوى صوت آتٍ من الخارج يقول بأدب: «شكراً سيد إيرل». أما الاحتفال الصاخب فكان في بيت رجل أسود توجه إليه الجميع على بعد مئة ياردة.

المرأة على الحلبة؟

في العام 1889م، استغرب الناس مجرد قبول بطل الملاكمة جون سوليفان بإجراء مقابلة مع الصحافية نيلي بلاي العاملة في صحيفة «نيويورك وورلد». فحتى آنذاك كانت المرأة مستبعدة عن كل ما يمت إلى عالم الملاكمة بصلة. وعندما حضر عدد من النسوة مباراة بين نلسون وبريت عام 1905م، شكَّل الأمر خبراً في صحيفة «سان فرانسيسكو إجزامنر».
ومع العلم أن حضور النساء لمباريات الملاكمة بدأ يباح عام 1915م على نطاق ضيق في أمريكا، إلا أن مباريات النساء على حلبات خاصة بهن كانت قد بدأت تنظم منذ العام 1911م.
ولكن، حتى اليوم، لم تكتسب الملاكمة النسائية أية شعبية، لا بل لا تزال تبدو منفرة إلى الكثيرين. حتى وإن كان احتراف ابنة محمد علي لهذه الرياضة قد أكسبها بعض المساحة في الصحف.
من جهتها صوَّرت السينما أكثر من فِلم حول دور بعض النساء في التدريب وإدارة أعمال الملاكمين، كان آخرها «ضد الحب» الذي قامت ببطولته ميغ رايان. ولكن هذه الأدبيات المتخيلة، تبقى ضمن الجهود الإعلامية للحركات النسائية (وأمنياتها)، أكثر مما هي حقيقة تستحق التوقف أمامها في عالم الملاكمة.

الملاكمة
تاريخ ثقافي
كاسيا بودي

من نقوش القدامى في وادي الرافدين، إلى ملصقات الدعاية للمباريات على الطريقة الأمريكية، والصور الفوتوجرافية التي حفلت بها الجرائد في القرن العشرين، يروي الكتاب بالصورة والنص الجذابين، تاريخ هذه الرياضة النبيلة، وتاريخ الفنون التي احتفلت بها على مر العصور، رسماً وتصويراً وأفلاماً وحتى غناءً.
وضعت كاسيا بودي، في 478 صفحة ما قد يكون أهم المراجع عن الملاكمة باللغة الإنجليزية. فهي تشرح بتوسع في هذا الكتاب، قيمة الملاكمة في حياة البشر، في قضايا تراوح من الطبقية إلى العنف والتاريخ والاحتراف والترفيه والعقائد والسياسة والعنصرية والوطنية، وأمور أخرى على صلة وثيقة بهذه الرياضة الثرية بالمعاني.
Boxing – A Cultural History
By Kasia Boddy
Reaktion Books, London, 2008

بريطانيا تلاكم بقبضات
يمنية وجمايكية
تحاول بريطانيا جاهدة إيجاد مكان لها في عالم الملاكمة، يعيد إليها ما خسرته لصالح أمريكا منذ أكثر من قرن. ولم تجد لهذه الغاية غير استقطاب الملاكمين من جنسيات مختلفة ومنحهم جنسيتها.

نسيم حميد.. إسهام عربي وحيد
في 12 أكتوبر 1994م، كان العربي اليمني الإنجليزي الجنسية، نسيم حميد الملقب «البرنس نسيم» أو «ناز»، يسجل أول إسهام عربي على قمة الملاكمة العالمية، ففي ذلك اليوم، لعب نسيم في مواجهة فريدي كروز، للفوز بلقب بطل العالم الذي يمنحه اتحاد الملاكمة العالمي في وزن الديك. قبل المباراة سمّى كروز خصمه المنافس نسيم: الولد الصغير، وكانت تلك غلطة أشعلت غضب الملاكم العربي، الذي صب جام غضبه هذا على كروز، وهزمه بوقف المباراة لعدم التكافؤ في الجولة السادسة. وصار نسيم «البرنس»، بطلاً للعالم.
ولد نسيم في 12 فبراير 1974م، من أبوين يمنيين، في شفيلد، وحمل الجنسية البريطانية، وأرسله أبوه وهو في السابعة، إلى نادٍ للملاكمة، فتدرج في اللعبة، حتى بدأ الاحتراف في مباراة أمام الملاكم ريكي بيرد، في 14 أبريل 1992م، كسبها بالضربة القاضية في الجولة الثانية.

ومنذئذ أخذ يكسب المباريات واحدة بعد الأخرى، كانت أهمها فوزه ببطولة العالم، اللقب الذي احتفظ به سنوات سبع، حتى خسره بالنقاط لصالح ماركو باريرا، في لاس فيجاس، في 7 أبريل 2001م.
وظل نسيم وفياً لحقيقة هويته العربية، ففي 21 أبريل 2002م، أعلن أنه سيتولى رعاية 3 آلاف عائلة فلسطينية من مخيم جنين الذي اجتاحته الدبابات الإسرائيلية، وتبرع بشراء المواد الغذائية لهذه الأسر. ودعا نسيم إلى توفير اللبن والماء للأطفال الناجين من المذبحة.

والجمايكي لينوكس لويس
أما الملاكم الثاني الذي يسهم في صنع تاريخ إنجلترا في عالم لعبة الملاكمة فهو لينوكس لويس، بطل العالم في الوزن الثقيل، بعد الفوز على الأمريكي هولفيلد. فقد خطف الإنجليز هذا الملاكم الجمايكي الأصل، ومنحوه الجنسية من أجل اللعب لهم، ووافق الملاكم الذي لعب تحت الجنسية الكندية لفترة، ولكنهم لم يمنحوه الاهتمام الكافي.
وفاز لينوكس لويس بلقب بطل العالم بعد تفوقه الواضح والطاغي على منافسه هولفيلد في مباراتين، انتهت واحدة بالتعادل في عدد النقاط، والثانية بالفوز بالضربة القاضية.

مفردات من الحلبة
خرجت من حلبة الملاكمة مفردات ومصطلحات بدت صالحة للتعبير عن أمور بعيدة كل البعد عن هذه الرياضة. فشاع استعمالها في مجالات مختلفة. ومن هذه المصطلحات نذكر:


الضربة القاضية: للإشارة إلى حسم خلاف أو شجار أو حتى مجرد تضارب في وجهات النظر، عندما ينتصر أحد على آخر بشكل مفاجئ لا يترك للآخر مجالاً للاستمرار في ما هو عليه من موقف أو رأي، بعبارة أخرى عندما يقضي شخص على شخص آخر ويخرجه من المواجهة، سواء أكانت هذه المواجهة نقاشاً أم مسيرة مهنية..

القبضة الحديدية: للإشارة إلى إحكام السيطرة على أمر أو شيء معين. ويستخدم هذا التعبير بشكل خاص في عالم السياسة للإشارة إلى ضبط الأمور العامة بالقوة، كما يستخدم في الحديث عن المؤسسات وحتى على صعيد مجموعة صغيرة من الأفراد كالعائلة.

الضرب تحت الحزام: لأن الضرب تحت الحزام ممنوع في الملاكمة، راج هذا التعبير للإشارة إلى كل تجاوز للحدود المقبولة من قبل أي شخص في تعرضه كلامياً أو عملياً لشخص آخر.
أغنية للملاكم
يجعل الثنائي الأمريكي سايمون و غارفونكل من الملاكم رمزاً للإنسان في صراعه مع الحياة، وذلك في أغنية «الملاكم» التي صدرت لهما عام 1969م، والتي حققت نجاحاً لا بأس به في الولايات المتحدة آنذاك.
وتمزج الأغنية نمط الروك بنمط الغناء الشعبي الأمريكي، ويميّزها تحديداً كورسها الحزين المستعيض عن الكلمات بنغمة «لاي لا لاي» متكررة، تصحبها نقرات متقطعة على الطبل تذكِّر السَّامع بخبط قبضة الملاكم على كيس الرمل، أو حتى على وجه خصمه. هذا، ولكلمات الأغنية عمومية تجعل أياً كان قادراً على التواصل معها.
والأغنية هي حكاية فتىً يرويها بنفسه، قدم إلى نيويورك تاركاً أهله وبيته وراءه، وباحثاً عن رزقه وسط الأغراب، ليجد نفسه وقد داهمه العمر، وقد بسط ألبسته الشتوية أمامه، وكأنَّه يستعد لحزمها. المفارقة تأتي في المقطع الأخير من الأغنية، حيث يتحول السرد إلى ضمير الغائب، ليصف ملاكماً، ألا وهو الفتى آنف الذكر، قد أعيته الضربات وقرر مغادرة حلبة الملاكمة، دون أن يفعل ذلك فعلاً. اشتهر الثنائي بالغناء الإنساني، ولهما أغنية معروفة، في فِلم «الخرِّيج» (The Graduate)

كلمات أغنية الملاكم
سايمون وغارفونكل

أنا مجرد ولد فقير، ومع ذلك فإن قصتي غالباً ما تُروى..
بددت قواي من أجل حفنة من الترهات والوعود..
مجرد أكاذيب وسخريات، ويظل الإنسان يسمع ما يود سماعه
ويهمل الباقي

عندما تركت بيتي وأسرتي، كنت مجرد فتى برفقة غرباء..
في محطة القطار، كنت أركض خائفاً وأختبئ..
راجياً الوصول إلى مناطق أفقر، يقصدها البؤساء..
الباحثون عن أماكن يمكنهم أن يرتاحوا إليها.

طلبت بدل أتعاب عامل فقط، فقد جئت أبحث عن وظيفة،
ولكني لم ألقَ أي عرض،
مجرد «تعال» من ساقطات الجادة السابعة..
وأعلن أنه كانت هناك أوقات من الوحدة
وجدت فيها بعض الراحة هناك.

إن السنوات تمر بجواري الآن..
أصبحت أكبر سناً مما كنت في الماضي،
وأصغر سناً مما سأكونه، وليس في الأمر أية غرابة.
لا ليس غريباً بعد توالي التغيرات أن نكون، إلى حد ما، ما كنَّا عليه.
بعد كل التغيرات، نبقى، إلى حد ما، ما كنَّا عليه..

مايك تايسون.. المسألة الأخلاقية
لم يعد هناك من يجرؤ على الادعاء أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو واحد من العقود الذهبية (أو حتى الفضية في تاريخ الملاكمة). فالآمال التي انتعشت في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن العشرين، بظهور أبطال تاريخيين يرثون محمد علي ويحفظون لهذه الرياضة وهجها، تبددت وانتهت إلى خيبة. ولهذه الخيبة اسم واضح: مايك تايسون.
حقق تايسون في حياته كملاكم انتصارات باهرة، بدأت بفوزه عام 1982م، وهو في السادسة عشرة بالميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية للناشئين، ومرت بكونه أصغر رجل يفوز ببطولة العالم للوزن الثقيل عام 1986م، وكان عمره عشرين سنة وأربعة أشهر تحديداً، لتنتهي بعد سلسلة من الانتصارات بأكثر الأشكال إثارة للجدل على الصعيدين الرياضي والأخلاقي.
فعند بدايات انتقاله إلى الاحتراف، فاز تايسون بتسع عشرة مباراة متتالية بالضربة القاضية، (اثنتا عشرة مرة خلال الجولة الأولى)، الأمر الذي أثار وسائل الإعلام والجمهور من خلفها، فعلقت عليه الآمال الكبيرة ليكون وريث محمد علي كبطل تاريخي لا يُقهر.
وبالفعل، يعترف أبطال الملاكمة الذين نازلوه أنهم كانوا يخشون لكمه بسبب قوته الجسمانية التي يضيف إليها النقاد سرعة الخاطر واليد، الدقة، التنسيق، القوة، وحسن التوقيت.
في العام 1998م، صنَّفت مجلة «رينغ» المتخصصة مايك تايسون في المرتبة الرابعة عشرة بين «أعظم الملاكمين من الوزن الثقيل في التاريخ». وقبل ذلك بسنوات ثلاث، تم تصنيفه وفق برنامج كمبيوتر يأخذ بعين الاعتبار عوامل عديدة، على أنه الرابع بين أبطال آخر خمسين سنة، والسابع بين كل أبطال الملاكمة عبر تاريخها. ولكن هذا التقدير الرياضي الكبير، ظل من دون الهالة التي تحيط عادة بأبطال أقل شأناً من تايسون.
ففي العام 1992م، أدين تايسون بجريمة اعتداء جنسي، وسُجن لمدة سنوات ثلاث. وبعد خروجه من السجن، حاول استعادة مكانته الرياضية، فنجح بذلك جزئياً قبل أن يُهزم على يد إيفاندر هوليفلد عام 1996م. أما المباراة المعادة بين البطلين في العام التالي فقد انتهت بشكل صدم العالم بأسره، عندما أطلق تايسون غرائزه من عقالها وقضم قطعة من أذن خصمه، فصدر الحكم عليه بعدم الأهلية للفوز.
ولم تنجح مساعي تايسون في استرداد لقبه، فخسر أمام لينوكس لويس عام 2002م وأمام داني وليمس وكيفن ماكبرايد عام 2005م، تاريخ اعتزاله وهو في الحضيض.
في الحضيض.. لأن قسماً كبيراً من الجمهور انفضَّ من حوله. فبعدما كان يحظى الرجل بألقاب مثل: «فتى الديناميت»، أو «مايك الحديدي»، صار يلقَّب بـ «أسوأ رجل في العالم»..
وبموازاة إعلانه إفلاسه عام 2003م، على الرغم من أن مداخيله بلغت 300 مليون دولار خلال حياته المهنية، كانت وسائل الإعلام تنقب في طفولة الرجل، إمعاناً في تحطيم صورته، لتكشف أن هذا البطل اعتقل من قبل الشرطة 38 مرة قبل أن يبلغ الثالثة عشرة من عمره. وبعد أن تجاوز الأربعين من عمره، اعترف أمام المحكمة بأنه يتعاطى الممنوعات.. ناهيك عن سلسلة المشكلات والمشاكسات مع جهات عديدة. بحيث أن صورته أمام الجمهور في العالم بأسره باتت تقتصر في أحسن الأحوال على إثارة الشفقة عليه. والشفقة، على الرغم من طابعها الإنساني، هي نقيض الشعور الذي يفترض بصورة البطل أن تثيره في جمهوره.
إذ على الرغم من مخاطبتها للغرائز الكامنة في النفس البشرية، تبقى الملاكمة وبطولاتها وأبطالها مقيدين بشروط أخلاقية. وقد فشل مايك تايسون فشلاً ذريعاً في الارتقاء أخلاقياً إلى مكانة محمد علي، أما الذين انتصروا عليه بقوا أقل شأناً من أن ينسبوا إلى أنفسهم مهارات الأبطال التاريخيين.
وقد أسهم هذا السلوك المنفّر، مع مشكلات صحية تصيب دماغ الملاكم، إلى حد وفاة بعض الملاكمين، مع اشتداد النزوع إلى العنف غير الرياضي على الحلبة، في أفول الكثير من وهج نجم هذه الرياضة، التي ارتهن تاريخها بالنبل… فيما مضى.

أضف تعليق

التعليقات