حياتنا اليوم

في طلب الهدوء

بعد أن انحسر ضجيج البورصة، هل تنحسر بورصة الضجيج؟ وهل بدأ الناس بعد عقود من العيش في كنف الضوضاء في كل مكان، ينزعون إلى الهدوء والسكينة؟ وهل فعلاً نستطيع أن نتلمس بوادر ميل للابتعاد عن مصادر الصخب والأصوات العالية والتوجه أكثر وأكثر إلى المقهى الهادئ بل حتى المكتبة التي هجرت، وإلى شاطئ البحر وزوايا الجبال البعيدة، بل وإلى سيدة الصمت الخالد الصحراء؟

لقد طغى على الحياة المعاصرة خلال العقود الماضية الميل إلى اعتبار الصخب والأصوات العالية رديفاً لمتعة السمع وتمضية الأوقات السعيدة. في المطاعم والنوادي والمقاهي بل في كل مكان تجد الموسيقى فرصة لتُسمع، تجد الصوت عالياً والوقع عنيفاً صاخباً أحياناً بلا هدف واضح أو مبرر مفهوم. وقد عمَّت هذه السياسة وأصبحت معتمدة في كل مكان بما في ذلك الفضائيات التلفزيونية، وما أكثرها. فإذا أخذت تُقلِّب فيها بحثاً عن برنامج يعجبك، تواجهك هذه الظاهرة دون استثناء يذكر. خاصة عند الإعلان عن برنامج مقبل أو بداية نشرة الأخبار أو غيرها: بداية موسيقية مندفعة إلى أعلى بتردد سريع وإيقاع صاخب وكأنه لا يمكن أن يجذب المستمع أو المشاهد غير ضربات الطبول المتلاحقة! ويبدو أنه قد سادت القناعة بأن هذا الإيقاع هو سمة من سمات الحيوية والشبابية بل والحياة المعاصرة برمتها.

ربما هناك بالفعل توأمة ما. فالغريب في الأمر أن الناس بشكل عام قبلت بهذا بل ورحَّبت به. وإذا بالإنسان يجد نفسه خارجاً من ضوضاء الحياة اليومية وضجيجها، بمحركاتها ورنين هواتفها وصخب شوارعها ومطاراتها ليدخل إلى قاعات يملؤها ضجيج من نوع آخر، مُلحَّن ومعزوف! وكان أحياناً من الصعب تفسير هذا القبول من قبل الناس إلا بنوع من الاستسلام أو الرضوخ عن طيب خاطر لخصائص «الحياة المعاصرة». وكان أي احتجاج على رفع درجة الصوت يواجَه باستغراب واستهجان.. ولا يجد -بطبيعة الحال- أذناً مصغية!

منذ سنوات بدأت تظهر على الجيل الشاب بعض الميل إلى الهدوء. حيث تجد الشاب يتوجه إلى مقهى الإنترنت وحيداً ويحتل زاوية بعيدة مختلياً بجهازه لينكب على العمل بهدوء. والمتأمل كان لابد أن يلاحظ أن في هذا التصرف نزوعاً جديداً يجمع بين رغبة في الاستغناء عما هو سائد ورائج، ونزعة حقيقية تجمع ما بين القناعة الذهنية والتفضيل المزاجي الحقيقي. ويبدو اليوم أن هذا البحث عن الأركان الهادئة بدأ يزداد وينتشر. فبدأنا نسمع عن عودة ما إلى التردد على المكتبات، وأكثر من ذلك عن ظاهرة «المقهى-المكتبة» الذي يتوجه إليه الزبائن للاختلاء بكتاب! وياللعجب.

بطبيعة الحال، ليس الميل إلى الركن الهادئ أو الاختلاء بكتاب جديد على الحياة الإنسانية بتاتاً، فكثيرون وكثيرون كانوا يفعلون هذا في جميع مراحل التاريخ القديم والحديث بلا انقطاع، شيوخاً وشباباً وحتى الأطفال. فمشهدُ مَنْ يترك مجلس خلاَّنه واجتماعهم، ويتجه إلى ركن هادئ يفكِّر ويتأمل، هو مشهدٌ معروف. والمعترف به أصلاً أن للصخب ساعاته وكذلك الهدوء. إلا أن الحياة المعاصرة أدخلت المجتمع المدني في معادلة أخرى، ليس فيها للمزاج الفردي الاعتبار الذي تدعيه.

واليوم لابد لهذا البحث عن الهدوء أن يتنامى وينتشر، ليس فقط هروباً من «ضجيج» الحياة اليومية الملحن منه وغير الملحن، بل لأن هناك لائحة طويلة تراكمت فيها أمام الإنسان المعاصر أسئلة يشعر معها بأنه يتوق إلى زاوية تأمل وتفكير وصفاء. ويعزز هذا الميل أن الناس ربطت بين الإيقاع الصاخب ونمط الحياة الذي يمثلها، وبين أزمات أخذت تهدِّد حياتها، وقد اهتزت الثقة بالقيم التي رافقت هذا النمط من الحياة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.. ليس أقلها ما تشهده أسواق المال هذه الأيام.

إن الناس تريد مسافة بينها وبين هذا الصخب الذي طغى على حياتها لعقود عديدة.. تفوز من خلالها بشيء من الهدوء من جهة، وبفرصة للتفكير والنظر من جديد إلى المسلَّمات التي كانت من شيم العصر.

ششششششششششش!

أضف تعليق

التعليقات