كثيراً ما يلجأ البعض إلى شرح فكرته المعقَّدة من خلال تناول أول ورقة تقع عليها يده، ليخط رسماً مبسطاً، أو ليجري حساباً سريعاً، أو ليطرح تصوره لحل مسألة ما مهما كان نوعها. هذا الفعل البسيط أصبح مادة لدراسات علمية كثيرة، تناولت جدواه وأهميته، وتكاد تُجمع على أنه في حالات كثيرة يوضح ويؤكد بشكل أفضل بكثير من الدراسات والبيانات الدقيقة المعمقة والمفصَّلة.
فاطمة الجفري تعرض آخر ما توصلت إليه الدراسات في تقييمها للدور الذي يؤديه هذا النمط من عرض الأفكار وإجراء الحسابات واقتراح الحلول، بعدما حظي بأسماء عديدة منها: على ظهر المظروف، على ظهر المنديل، على صفحات الكشكول، أو بكل بساطة “على ظهر أية ورقة”..
كان العمل جارياً على قدمٍ وساق في عام 1873م على إنشاء جسر إيدس الفولاذي، الذي يقطع نهر المسيسبي ليربط بين ولايتي ميسوري وإلينوي في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان حر أغسطس القائظ يكتم أنفاس العاملين، بينما المهندس الشاب ثيودور كوبر يقوم بجولة على ما تم إنشاؤه حتى ذلك الوقت من الجسر. يده الممسكة بقلم الرصاص تشير إلى أحد البنَّاءين ليقترب ويرى خللاً بسيطاً يود المهندس الإشراف على تقويمه، إلا أن قدمه زُلت بحماسِهْ، فاختل توازنه، وسقط من أعلى الجسر على ارتفاع تسعين قدم، متجهاً إلى النهر. خلال سقوطه الذي استغرق لحظات معدودة، قام كوبر بسرعة بتقدير سرعة سقوطه التي ربما بلغت خمسين ميلاً في الساعة، وبناءً عليها حسب مقدار القوة التي سيرتطم بها جسمه بالماء، ثم صمم الشكل الذي سيخفف من هذا الارتطام، والذي يجب على جسده اتخاذه إن أراد النجاة، وبالفعل، اتخذ شكل الكرة، وارتطم بالماء من دون أن يصاب بأذى بفضل حساباته. وعندما انتشله قارب الإنقاذ، وجد طاقم القارب يده لا تزال متشبثة بقوة بقلم الرصاص الذي كان يشير به إلى العامل قبل سقوطه!
حسابات صغيرة لمسائل كبرى
ما قام به كوبر هو مثال لما يقوم به المهندسون دائماً أثناء ممارستهم لمهنتهم. وكما في حالة الطوارئ التي وجد فيها كوبر نفسه عند سقوطه، تتجسد مثل هذه الحسابات والتصاميم الناتجة عنها في ذهن المهندس خلال لحظة. ولكنها عادةً ما تكون نتيجة لتفكير مسبق ومدروس قد يكون ركَّز على تحليل المهمة أمامه لأيام أو لسنوات. وفي كل الحالات، فإن اختيار العمليات الصحيحة والرؤية الناتجة عنها لا تتأتى إلا بعد الخبرة، وممارسة مثل هذه العمليات الحسابية لآلاف المرات قبل هذه المرة التي قد يكون فيها الفرق بين العملية الحسابية الصحيحة والأخرى الخطأ، فرقاً بين الحياة والموت. قام كوبر بإجراء حساباته السريعة من دون الحاجة إلى برنامج كمبيوتر أو آلة حاسبة، وهذه الحسابات يستطيع أن يقوم بها أي مهندس ممارس على ورقة في كشكول خلال دقائق، أو حتى شفهياً، عندما يشرح لعميله رؤيته للبناء الذي سيقوم على الأرض الخلاء، ومن هنا أتى التعبير “على ظهر المظروف” أو “على ظهر المنديل”، ليعبر عن تلك العمليات الحسابية البسيطة-المعقدة التي يجريها علماء الفيزياء والرياضيات و المهندسون في دقائق ليشرحوا لأنفسهم أو لمن معهم الوجهة التي يرون عملهم متجهاً إليها على أقرب ورقة متوافرة لديهم، سواء أكانت هذه الورقة ظرفاً وجدوه في جيوبهم، أو منديلاً أخذوه من علبته. وهذه المدونات الصغيرة هي أكثر بكثير من أن تكون مجرد تخمين، إذ أنها تعتمد على وجهة نظر متينة، وأساس من الأرقام والحقائق، ولكنها في الوقت نفسه أبعد من أن تكون إثباتاً لا يقبل المناقشة. وهذا التعبير قد ينطبق على عمليات حسابية أو تصاميم أجريت بالفعل على ورقة ما، أو ظهر علبة منديل على طاولة النقاش، أو حتى تلك التي لم تكتب بالفعل بل ألقيت شفهياً، في مراحل مبكرة جداً من بداية العمل، أو حتى بداية التفكير في العمل.
أجرى المهندسون هذه العمليات الحسابية منذ القدم، إلا أن التعبير الأمريكي “على ظهر المظروف”، والذي يقابله التعبير البريطاني “على ظهر علبة السجائر”، ظهر مترافقاً مع عالم الذرة الإيطالي إنريكو فيرمي الذي كان يؤكد على أن المعادلات العلمية المعقدة يمكن حلها تقريبياً بمجموعة من الحسابات البسيطة، ولإثبات وجهة نظره طور سلسلة من أمثلة عن عمليات حسابية مبسطة سميت “أسئلة فيرمي” أو “حسابات ظهر المظروف” التي تقدم حلولاً لمجموعة معقدة من المسائل الفيزيائية التي صممها فيرمي خصيصاً لإثبات وجهة نظره. ومن الفيزيائيين الذين استهوتهم فكرة حسابات ظهر المظروف نذكر العالم الأمريكي الهنغاري الأصل فيكتور ويسكوبف، الذي قدَّم مطويةً بعنوان “الفيزياء الحديثة من وجهة نظر مبدئية”، وفي هذه المطوية يقوم ويسكوبف بحساب الحجم التقريبي لذرة هيدروجين ونجم وجبل.. وذلك باستخدام المبادئ الحسابية الفيزيائية البسيطة التي يجيدها طالب الفيزياء في سنته الجامعية الأولى.
أن ترى الكل
بالإضافة إلى ما تتميز به هذه العمليات من سهولة الفهم وتلخيص الفكرة وإثباتها، فعمليات ظهر المظروف، أو “عمليات الكشكول” إن جاز لنا تسميتها بهذا للقارئ العربي، تتميز أيضاً بأنها قادرة على التركيز منذ اللحظة الأولى على الفكرة المبتكرة أو المشكَّلة ضمن المشروع المقترح، وعدم الانشغال بغير الضروري من التفاصيل الأخرى التي يمكن أن تُقرر لاحقاً نتيجةً للتصميم أو الحل الذي يقترحه الكشكول. فعندما أتى أحد المعاونين ليخبر المهندس البريطاني جايمس ناسيمث أن القطعة التي يعمل عليها البناؤن أكبر من أن تنجز بواسطة المطارق المتوافرة في أواخر القرن التاسع عشر، فكر للحظات، ثم رسم على ورقة كانت أمامه تصميماً جديداً تماماً لمطرقة تعمل بقوة البخار. وإلى أن أصبحت المطرقة البخارية جاهزة للعمل، لم يخرج العاملون على تصميمها عن الرسم الأولي الذي رسمه ناسيمث، وهذا ليس غريباً، فعادةً ما تكون وجهة النظر الأولى التي قدمها المهندس على ظهر الورقة حلاً لمشكلة أو تطويراً لخطة هي الأساس الذي تبنى عليه حسابات أخرى لتكتمل تفاصيل العمل.
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان الفولاذ بدأ يظهر أخيراً كمادة للبناء في بريطانيا. وأرجع أحد المحررين في مجلة “الهندسة المدنية” اللندنية السبب إلى أن المهندسين بدأوا، أمام فتنة الفولاذ، في وضع تصاميم أولية تعتمد في جوهرها على الفولاذ كمادة للبناء، أما الأسمنت الذي لطالما سيطر على أدمغتهم فقد تراجع إلى الوراء قليلاً ليفسح المجال لغيره.
والدليل على أن نهضة الفولاذ تعود إلى استعانة المهندسين به كلما فكروا في تصميم أولي جديد، كما يقول المحرر، يجده القارئ في حديث صحافي لرئيس جمعية الفولاذ البريطانية نُشر في نهاية السبعينيات، توضيحاً يقول إن مشكلة الفولاذ تكمن في أن التصميم الأول الذي يشرحه المهندس للعميل على علبة السجائر هو تصميم إسمنتي. وإن كان التصميم المرسوم على علبة السجائر بالإسمنت، فثق، أن البناء سيكون بالإسمنت أيضاً. ما إن حل الفولاذ محل الاسمنت في تصميم علبة السجائر، حتى هُزم الإسمنت على الأرض، وصار الفولاذ هو المادة الأولى للبناء في ذلك العقد. وإن كنا لا نرى الساعات التي أنفقها المهندس أو العالم على الحل الذي خطه قلمه في لحظات أمامنا، وكأنما الحل كان نتيجة مباشرة لمحادثتنا معه، أو تفاعل لحظي لفكرة طارئة من حيث لا يدري ولا ندري، فهذا لا يعني أن ما نراه هو فعلاً ما حدث. وكما يقول الكاتب الأمريكي مالكولم جلادويل في كتابه “التفكير اللمَّاح في طرفة عين”، فإننا نغفل عادةً حقيقة بسيطة، وهي أن القرارات المتخذة بسرعة كبيرة قد لا تقل جودة عن تلك المتخذة بحذر شديد وبعد عدة مداولات.
هذه “القرارات” التي قد تبدو سريعة هي ذروة عمل لعقل متفوق شحذت مهاراته سنوات عديدة من الممارسة والالتفات إلى ممارسات الغير أيضاً للتعلم منها، سواءً أكان هذا التعلم واعياً أم لا.
إنها قناة من القنوات التي وُهبت للعقل البشري، بحيث يستطيع أن يستخلص خلاصة المعرفة بطريقة حدسية معتمداً على أكوام من الخبرات التي لا يمكن التنبؤ بأيها لعب دوراً حقيقياً في الوصول إلى هذه الخلاصة. وحينما يضع المهندس تصميمه الأولي في دقائق أمام الشخص الآخر، فإنه يختار بحكمة وإن كانت سريعة، من خيارات عديدة تظهر أمامه في لحظات، وعلى أساسها يمكن أن يتغير شكل التصميم كاملاً أو يتعرض للفشل. ولكن في أحيان أخرى، قد يظهر التصميم مكتملاً أمام مبتكره بشكلٍ خاطف، إلا أن التفكير فيه قد يستغرق سنوات وسنوات من البحث، ومحاولة الوصول إليه.
كان جون ستيفنز، المبتكر الأمريكي، مغرماً بفكرة تطوير القارب البخاري في القرن التاسع عشر، وأمضى سنوات يقلب في الاحتمالات، دون أن يصل إلى ابتكار حقيقي لمحرك متطور يرضي شغفه. وفجأة، استيقظ في صباح مبكر على فكرة مبتكرة تعتمد على وصل مجموعة من أجزاء المحرك بطريقة مختلفة، ولأنه لم يجد ورقة أو قلم رصاص قريباً منه وخشي أن تفلت الفكرة، قام برسم التصميم بإصبعه على ظهر زوجته المستلقية على السرير بجانبه، ثم سألها عندما استيقظت متذمرة: “هل حزرت ما أرسم؟!” فأجابت سريعاً: “نعم يا سيد ستيفنز، كنت ترسم أحمقاً!”.
ظهر الورقة في مواجهة الكمبيوتر
وبينما يتشبث البعض برسوماتهم الأولى عاطفياً، إلا أن المهندس الحذر يرفق تصوره بحسابات أولية تثبت إمكانية تحول التصميم لحقيقة، أو توضح خللاً ما يظهر عقمها. ورغم التطور الذي شهدته برامج الكمبيوتر التي تنتج تصاميم تحاكي ما يفكر به المصمم، إلا أن هذا لم يلغ أهمية هذه الحسابات الأولية التي يمكن أن تجرى بقلم الرصاص، والتي تقدم أرقاماً تقريبية يمكن للمهندس على أساسها تقدير مدى واقعية تصميمه.
يقول المهندس ماريو سالفادوري مدير إحدى الشركات الهندسية الاستشارية في موقعه على الإنترنت: “عندما يأتيني أحد المهندسين في شركتي بملايين الأرقام التي ولّدتها عمليات حسابية كمبيوترية، أبحث عن رقم واحد يخبرني إن كان هذا التصميم صالحاً للتطبيق أم لا، كالرقم الذي يذكر لي كم درجة يمكن لرأس البناء أن يميل مع الريح، فإن قال الكمبيوتر 7، والعملية الحسابية التي أجريتها على ظهر المظروف والتي لم تستغرق أكثر من 30 ثانية قالت 8 أو 6 درجات، فأقول: هيّا لننجز المشروع. أما إن قال الكمبيوتر 8 وقالت عمليتي الحسابية 2، أعرف وقتها أن حسابات الكمبيوتر خاطئة، وأطلب إعادة النظر في المشروع”.
ويخبرنا منظمو الألعاب الأولمبية في صيف 1984م لقصة أخرى، مفادها أن إحدى شركات الكمبيوتر قدَّمت برنامجاً للمنظمين لتولي عملية توزيع البريد. كان نجاح البرنامج يعتمد على قدرته على إرسال البريد بنفس السرعة التي يقوم فيها المسؤولون بإدراج المظاريف البريدية فيه. ووفقاً لما يقوله جون بنتلي من شركة الكمبيوتر المسؤولة، فإن البرمجيين قدموا عرضهم لإدارة الشركة، فقام أحد المديرين بالتأكد من صحة البرنامج بنفسه، فأظهرت حساباته الأولية أن البرنامج ناجح بشكله الحالي فقط إن كانت الدقيقة الواحدة مكونة من 120 ثانية! إذ أنه يأخذ ضعف الوقت الذي يأخذه المسؤولون لإدراج المظاريف البريدية. وبعملية حسابية بسيطة ظهر الخلل، فقام المصممون بتعديل البرنامج، وقبله منظمو الحدث وحقق نجاحاً ملحوظاً في ذلك الوقت.
ومع كل الحديث عن أهمية ما يُكتب على ظهر المظروف أو في الكشكول، فإن الأمر في مجمله يعتمد أيضاً على جيش صغير من المحللين الذين يحسبون واقعية التصميم الأولي، ويتحققون من تفاصيل التفاصيل التي لم يشغل المصمم الأول رأسه بها، ويطرحون الأسئلة الصحيحة في الوقت الصحيح ليتأكدوا من أن الإجابات مضمونة أو متوقعة على الأقل. فمشروع مثل مولد جديد للطاقة النووية قد يأخذ سنوات وسنوات من النقاش والجدل، حتى وإن بدت تصاميمه الأولية مذهلة في بساطتها وواقعيتها وإقناعها لمن يسمع ويرى ويتخيل. وهذا الجيش من المحللين، ينضم إلى جيوش أخرى من مقاولين وعمال بناء ومهندسي صيانة وسلامة، وغيرهم، ليقوم البنَّاء بما أريد له في النهاية على أسس سليمة.
المثلث يكفي ويزيد
كان هيرب كيلر محامياً في نيوجرسي عندما قرر أن مسقط رأس زوجته في ولاية تكساس، يشهد نمواً في الأعمال يسمح له بالحصول على فرص عمل ملائمة، فحزم حقائبه وانتقل مع عائلته إلى سان أنطونيو. وفي ظهر أحد أيام العام 1967م كان يجلس مع رولين كينج، رجل الأعمال الذي كان على شفير الافلاس لفشل خطوط الطيران الإقليمية التي استثمر فيها مدخراته.
كان الاجتماع يهدف إلى الانتهاء من المعاملات الرسمية لإغلاق خطوط الطيران، وعلى طاولة النقاش في مقهى “أنتوني” الفاخر، كان واضحاً أن الأوراق والاستمارات لم تكن محط تركيز كينج، فالمغامر لم يكن متقبلاً بعد لفكرة أن تغادر طائراته الجو، وأسرَّ بهذا لكيلر الذي كان مهتماً بمعرفة الأسباب الرئيسة التي أودت بمشروع طموح كهذا للفشل.
شرح كينج الأسباب، ثم أمسك بمنديل ورقي من مجموعة المناديل التي وضعها النادل على الطاولة، ورسم مثلثاً سمى كل رأس من رؤوس زواياه بمدينة رئيسة من مدن تكساس: سان أنطونيو/ دالاس/ هيوستن. بدلاً من أن يدير خطوط طيران صغيرة تركِّز على السوق الراكدة للمدن الصغيرة في المدينة، كان على كينج كما كان يشرح لكيلر على ظهر المنديل، أن يخدم تنقلات رجال الأعمال والأهالي بين المدن الكبرى الثلاث دون أن يحاول الوفاء بمتطلبات ضئيلة في أرباحها ثقيلة في واجباتها لكل المدن الصغيرة التي تتضمنها الولاية.
فالخطوط المباشرة بين المدن الثلاث تسمح للمسافرين بإيجاد رحلات ســـــهــلة ومـــيسَّــــــرة دون أن تتشتت موارد شركة الطيران المحدودة بين خطوط طيران معقدة ومتشابكة. ولأن المساحة التي تعمل فيها هذه الشركة الافتراضية صغيرة، فهي لن تخضع لتنظيمات مجلس تكساس للطيران الذي يفرض قيوداً مالية تضيِّق الخناق على شركات الطيران.
يقول الراوي إن حماس كينج كان يتصاعد كلما شرح فكرته على المثلث البسيط الذي يصل بين المدن الثلاث، وقاده حديثه مع كيلر إلى إعلانه رغبته في خوض المغامرة مرة أخرى، بل سمى فكرته التي أثبتت فعاليتها أمامه على ظهر المنديل خطوط “ساوث ويست للطيران”. استمع كيلر بصمت متيقظ إلى إعلان كينج، وفي النهاية وافقه على أمرين: الفكرة مجنونة، ولكنها في نفس الوقت، لامعة. وبعد أكثر من ثلاثين سنة، لا تزال شركة “ساوث ويست” التي قامت على الشراكة بين كينج وكيلر تجني أرباح المثلث بتتابع قلَّ نظيره في عالم شركات الطيران.
التفكير البصري
دان روم، مؤلف كتاب “على ظهر المنديل” الصادر مؤخراً عن دار نشر “بورتفوليو”، يعتمد على هذه القصة بشكل أساسي لشرح أهمية التفكير البصري كما يسميه، وهو التفكير الذي يعتمد على تمثيل العناصر الرئيسة لفكرة أو مشكلة ما بالرسوم التوضيحية المبسَّطة، بحيث تتجرد الفكرة من كل التفاصيل غير الضرورية ويفك تشابك عناصرها ليؤسس نتيجةً لذلك مخططاً يضع القاعدة التي ينطلق منها الحل أو الابتكار.
وكلما كانت المشكلة التي تواجهها صعبة وحلها غير مرئي، سواءً كانت نزاعات سياسية أو مسائل تجارية أو تعقيدات تقنية أو حتى تحديات شخصية، صلحت أكثر للعمل عليها بواسطة الرسم، حيث إن الصور التوضيحية (أشكال هندسية كالدائرة والمربع، خطوط وأسهم، أناس وأدوات، وماشابه ذلك) تمثل مجموعة من المعلومات والمفاهيم المعقَّدة بحيث تجعلها سهلة للفهم والمتابعة من قبل الآخرين. وأول ما يركِّز عليه روم في كتابه هو أن حل المشكلات بالصور ليس حكراً على أولئك الذين يجيدون الرسم، فإن كنت تجيد الإمساك بالقلم ورسم الأشكال البسيطة من مربع ووجوه دائرية وغيرها، فأنت مؤهل لأن تنضم إلى فريق المفكرين البصريين.
بين الفأرة واليد: الخيار سهل
ولكن ما الفرق بين المفكر البصري، الذي يلتقط أقرب ورقة إليه ويرسم عليها توضيحاً للمشكلة، وبين الشخص الذي يستعين بالرسوم الجرافيكية على الكمبيوتر مثلاً ليدرجها ضمن عرض الـ “باور بوينت” أو الـ “كي نوت” وغيرهما من البرامج الشبيهة؟
الفرق هو في أن التفكير البصري الفعال لا يتوجه بشكل أولي إلى الجمهور كي يقنعه بفكرة ما. فالغرض الأولي من التفكير البصري هو تجسيد فكرة ما أمام صاحبها، وربما إعادة تنظيمها أو ابتكارها في أحيان أخرى. إن أكمل الرسم التلقائي مهمته في هذا الإطار، انتقل إلى المهمة الأخرى وهي التوجه إلى الجمهور. وهنا، فإن استخدام المنديل والقلم، أو الورقة وقلم الرصاص، أو حتى السبورة البيضاء وأقلامها، يعطي كل من يرى ويسمع العرض احساساً بفورية الفكرة ومباشرتها من دون أن تفسد جدتها الاستعانة بأطراف دخيلة كبرامج الكمبيوتر، وتسمح للجمهور سواء أكان على طاولة مطعم في دعوة عشاء غير رسمية، أو حضور في قاعة كبرى، بالمشاركة الفعالة العفوية ودون حسابات.
إن الخطوط المائلة التي تنضح بإنسانية كاتبها تفسح المجال للمناقشة والتعليق، وفيها لمحة من طرافة تدفعنا إلى الاهتمام بها، تختفي تماماً بمجرد ظهور أشكال الكمبيوتر المحترفة. كما أن تلقائية يد الرسام وعفويتها بالإضافة إلى خشونتها وعدم ترتيبها في حد ذاتها عبارة عن دعوة مفتوحة للإضافة والحذف وتحسين الفكرة وتطويرها. كما أنه ليس هناك أسرع من “السكتش” للإبداع والتغيير، والخطأ مسموح طوال الوقت، وحله بسيط، إذ يقتصر على خطوط متشابكة أخرى لحذفه من الصورة وطغيان مسحة ثانية من الحرية على ورقة النقاش. بالإضافة إلى أن العنصر الآخر الذي تسمح به الرسوم التلقائية على ظهر المنديل أو ما تتجه ناحيتها هو دوران الحديث المباشر دون الاستناد، أو الاختباء ربما، خلف النقاط المدونة بعناية، أو بطاقات الفهرسة التي تضفي على المحادثة جواً روتينياً مملاً.
إن أهم ما يمكننا أن نتذكره في مثل هذه النقاشات هو أن ترتيب العرض وجماله ودقته هو آخر ما يمكن أن نهتم به. فالمهم هو في قدرتنا على التفكير البصري براحة وثقة، وإشراك الآخرين فيه.
على هامش الصفحة
تصاميم وحسابات ظهر المظروف/ المنديل/ علبة السجائر/ الكشكول لديها ما يقابلها من التعابير والمفردات في عدد من المهن الأخرى، لوصف تلك المهارة والقدرة على قراءة أدق الأجزاء بعمق، ومن ثم الوصول إلى خلاصة عامة تربط الأجزاء وتقدِّم حلولاً مبتكرة لم تخطر بالبال قبلاً.
في الجيش مثلاً، يقال للجنرالات الذين يقدمون على اتخاذ قرارات فورية صحيحة بناءً على قراءتهم العاجلة لميدان القتال أن لديهم “النظرة الخاطفة”، بينما يسمى لاعب كرة السلة الذي يدرك كل ما يدور حوله ويقوم بالحركة الصحيحة من مكانه بينما يوجه الآخرين لما ينبغي عليهم أن يفعلوه “عقل الملعب”، وفي علم دراسة الطيور، يقال إن من يستطيع أن يتبين جنس الطائر مهما كان نادراً من نظرة واحدة بينما هو طائر في السماء، أنه يستطيع أن يلتقط “جوهر” الطائر. وقد نستطيع القول إن كل أصحاب المهن، على اختلاف طرقهم، قد اتفقوا على قبول قدرة المتمرس منهم على إصدار أحكام صائبة أو حلول مبتكرة في وقت قصير، وإن كانت الهندسة والرياضيات والفيزياء وما شابهها من علوم قد اعتمدت على حسابات ظهر المظروف، بينما فضل أصحاب المال والأعمال الحلول التي تنتجها رسوم ظهر المنديل، فإن الأمر في بدايته ومنتهاه يعتمد أولاً على الإيمان بأن عفوية الفكرة ليست سبباً للشك في صحتها.