أدب وفنون

مَازَجَ الثقافات وألهم الآداب والفنون

على سكة قطار الشرق السريع

Train-Bleu-brenetصلة وصل لا مثيل لها بين الغرب والشرق. بهذه الكلمات يمكن وصف ∩قطار الشرق السريع∪، الذي لعب دوراً تاريخياً تجاوز إلى حدٍّ بعيد نقل المسافرين والرحَّالة الذين كانوا غالباً من علية القوم، ليتحوَّل السفر على متنه إلى غاية وقيمة ثقافية بحد ذاتها. قيمة أعاد معهد العالم العربي في باريس تسليط الضوء عليها، من خلال المعرض الضخم الذي أقامه لهذا القطار المثقل بذكريات أدبية وثقافية صيغت على متنه أو بوحي منه لأكثر من قرن من الزمن.

يقول كلود مولار محافظ المعرض «إن هذا القطار أسطورة، وهو مشوِّق وفي الوقت نفسه معقَّد. فيكفي أن نثير موضوعاً ما يتعلَّق به، حتى نرى بريقاً في عيون من يتحدثون عنه.. يذكرونه من رواية قرأوها أو من فِلم شاهدوه مثل مسرحية لغراهام غرين، أو قصة بوليسية نسجتها أجاثا كريستي عام 1934م على شاكلة «جريمة في قطار الشرق السريع».

فقد عاش قطار الشرق السريع غداة انطلاقه عام 1883م، على إيقاع الجغرافيا خاصة الجغرافيا السياسية. فقد تزامن عصره الذهبي مع عصر تصادم الإمبراطوريات وتهاوي عديد منها وتغير حدود الدول بفعل حربين عالميتين. فحمل على متنه من جملة ما حمل العديد من الراغبين في المعرفة والاكتشاف.

MOE_boxويقول كريستوفر بورستال فيما كتبه بعنوان «غراهام غرين يستقل الأورينت إكسبرس» عام 1968م: «أهوى أن أرى الحدود تتلاشى، وأحب رؤية بلد يذوب في بلد آخر.. الأكيد أنه يمكن أن يحدث أي شيء في أي لحظة، لكن كنا نشعر بذلك الأمان في عرباته في كل وقت… والكل يبحث عن وريقات وعن مغامرات في قصاصات الموهوبين… لنكتب رواية أو قصة جديدة تمتد إلى العراق أو مصر أو لبنان». تقول الروائية الإنجليزية الشهيرة أجاثا كريستي التي أمضت شهر العسل على متن هذا القطار: «طوال حياتي كنت أتمنى أن يقلني هذا القطار المرموق. فعندما كنت أتجه إلى فرنسا، كنت أعجب جداً به.. وقد تحققت أمنيتي».

وتضيف: «…من حولنا أناس من كل الطبقات، ومن كل الجنسيات، ومن كل الأعمار، يتعايشون لمدة ثلاثة أيام هؤلاء الغرباء تحت سقف واحد، ينامون ويأكلون تحت نفس السقف.. وليس لهم أن يتفادوا بعضهم، وفي نهاية الأيام الثلاثة يفترق الجميع، ويسلك كل طريقه، ولن يلتقوا مرة أخرى دون شك…».

Restaurant_Anatolie_configuration_2.tifومثل أجاثا كريستي، مرَّ على هذه العربات بيار لوتي، جوزيف كيسال الذي صدر له عن دار غاليمار عام 1932م «عربات بأسرَّة»، وكتب بول مورو «مفتوح ليلاً» عن الدار نفسها في 1922م. بالإضافة إلى مستشرقين، حاولوا ولوج عالم المشرق من خلال الثقافة والعادات والتقاليد وأسماء أخرى مثل لون فليمينغ، جون دي كارز الذي كتب «كان يا ما كان قطار الشرق السريع»، بالإضافة إلى عدد من العمالقة من أمثال تولستوي وهمنغواي وشخصيات مشهورة مثل الممثلة مارلين ديتريخ، ولورانس العرب والجاسوسة ماتا هاري، المرأة التي كانت تتجسس لصالح مصالح مخابراتية غربية، وعلى مسامع أمثال هؤلاء غنَّت أسمهان قصائد وألحاناً عربية.

أدباء … في ذاكرتهم القطار الأسطورة
sark-ekspresفي عربات قطار الشرق السريع، كُتب فصل من فصول الأدب في العصر الحديث، هذا الأدب المسكون بحمى الإبداع والمرفق بقصص خيالية. لم تحبسها العربات الأربع الزرقاء والذهبية، فكانت مفتوحة على عالم الطبيعة الخلاب من جبال وصحارى إلى هضاب وسهوب.. يخترقها قطار جمع أدباء ومشاهير من كل الجنسيات محمومين بـ «جين» الاكتشاف المصحوب بحب التطلع وكتابة تاريخه داخل عربات مفتوحة على عالم الطبيعة… روائع أدبية حملها قطار الشرق السريع أو كان ملهمها، أو ملهم مبدعيها. واحد من هؤلاء هو أدمون فرانسوا فالونتان آبو، أحد الكتاب والأكاديميين الفرنسيين المرموقين، كان له شرف الانتماء إلى القلة المحظوظة التي شاركت في افتتاح أول خط للسكك الحديدية لقطار الشرق السريع. وعند عودته كتب آبو شهادته «لمتعة» امتدت من دو بونتواز بفرنسا إلى إسطنبول بتركيا وذلك عام 1884م. فكتب يقول:

«لقد شهدت عن حق أن عصرنا هو «الطفرة» في صنع المعجزات؛ لم أر أي إنجاز مذهل أكبر من هذه الملحمة». ولأن قطار الشرق جعله يكتشف الشرق ومصر على الخصوص، كتب كتابه «الفلاح» قصة الفلاح المصري الذي أصبح من أشهر الشخصيات وتزوج بفتاة إنجليزية من عائلة أرستقراطية.

article-1385655-0C00336F00000578-456_634x422ومثل أدمون آبو، «ترنح» أدباء آخرون على خط الأورينت إكسبريس، فاكتشفوا العالم العربي، واكتشفوا رونقاً آخر لأدب الشرق، فمدوا بينه وبينهم جسراً يسجّل عند مشارف كل بلد بداية تاريخية… فيتحول الأديب من السائح المغترب إلى المقيم والزائر الدائم، يحول الكلمة في غرف العربات إلى عناقيد ضياء، فتصف التل والنجم والبحر والصحراء، تصف نجمة تومض عند كل محطة، وتحلق في الظهيرة لتصل تحت ضوء القمر إلى أطراف قاهرة المعز.

هنا قطار الشرق السريع.. حلم ومصدر إلهام.. حلم كتب عنه كثيرون وشهدوا أنه خط أسطوري منح الأدب عمراً وعصراً ذهبياً… فاقتطع أمثال فاليري لاربو، تذكرة سفر على عرباته، ليقول: «آه يا أورينت إكسبريس… قاطراتك العالية والرقيقة تقرضني معجزة ضجيجك الصامت الممتد إلى الشرق.. وصدى صوتك النابض بالحياة، يقرضني جرعة خفيفة وسهلة للتنفس… (…)». (أشعار ثري مبتدئ، فاليري لاربو، 1908م).

simplon-orient-express-la-voie-internationale-la-plus-directe-et-la-plus-pittoresqueوبينما اقتطع فاليري لاربو تذكرة السفر على متن قطار الرفاهية، تمنى آخرون وهم في سن مبكرة اقتناء هذا الترف العابر للقارات وربما تحقق حلمهم في الكبر مثل جوزيف كاسل الذي «تمنى في طفولته الفقيرة أن يسافر على متن ذلك الترف الفاخر. وحلم في عديد من المرات أن يمتطي منصات محطة الأورينت إكسبريس التي تتكون فقط من عربات الأسِرة… والتي يقول إنها تتضمن جوهر وسحر رحلة أرضية… يكتشفها على مشارف إسطنبول وبغداد والقاهرة» (1932م). تقهقرت مكانة قطار الشرق السريع خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها. وجاء تطور وسائل السفر في ستينيات القرن العشرين، ليجهز على ما بقي من هذه المكانة، فتقطَّعت رحلاته، وقصرت سكته، إلى أن توقف نهائياً عام 2009م، تاركاً خلفه إرثاً من التبادل الثقافي والحضاري، عزَّ على وسيلة سفر أخرى أن تدَّعي مثيلاً له لنفسها.

جريمة على قطار الشرق السريع
murder_on_the_orient_express_xxlgإن كانت الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي بحق رائدة الأدب البوليسي في القرن العشرين، فما من شك أيضاً أن روايتها «جريمة على قطار الشرق السريع» التي نشرتها عام 1934م، هي أشهر أعمالها على الإطلاق. شهرة عززتها السينما من خلال الفِلم الشهير الذي حمل العنوان نفسه وأدهش العالم عام 1974م، إذ ضمَّ آنذاك من عمالقة التمثيل السينمائي ما لم يجتمع مثيل له من السابق: ألبيرت فيني، شين كونري، لورين باكال، أنتوني بيركنز، جون جيلغود، مايكل يورك، جاكلين بيسيه، فانيسا ريدغريف وأنغريد بيرغمان التي حازت جائزة الأوسكار لدورها في هذا الفِلم.

تدور أحداث هذه الرواية على متن القطار خلال رحلة العودة من إسطنبول إلى لندن، حين يضطر إلى التوقف لعدة أيام في مكان ما من البلقان، بسبب عاصفة ثلجية عطَّلت سكته. وفي الليل، يُقتل رجل طعناً بالسكاكين، لتبدأ سلسلة التحقيقات التي يُجريها بشكل غير رسمي المحقق هيركول بوارو.. ويتوصل المحقق إلى اكتشاف القاتل (والأصح أن نقول القتلة) قبيل معاودة القطار استئناف رحلته بعد بضعة أيام، من خلال حوار وتحقيق أجمع النقاد ولا يزالون يُجمعون، على أنه من أذكى ما ظهر في الأدب البوليسي.

استوحت كريستي حبكة روايتها ومناخها العام من جملة عناصر واقعية. فالقتيل على القطار هو قاتل سبق أن قتل طفلة في الثالثة من عمرها. وهذه النقطة مستوحاة من عملية خطف حقيقية تعرَّض لها ابن الطيار الأمريكي الشهير تشارلز ليندبرغ على يد خادمته عام 1932م.

وإلى ذلك، عاشت كريستي نفسها أجواء توقف القطار 24 ساعة عام 1931م، عندما كانت عائدة من زيارة إلى زوجها في نينوى بالعراق. كما سبق أن تناهى إلى سمعها عام 1929م، خبر توقف القطار لمدة ستة أيام بعيد مغادرته إسطنبول بسبب الضباب.

وبجمع المُعاش إلى المتخيَّل تمكنت من إنتاج تحفتها الخالدة هذه.

القطار بحد ذاته
orient-express,-steam-train,-stamp,-cartoon-160275انطلق «قطار الشرق السريع» في أولى رحلاته عام 1883م، وكانت آخر رحلاته عام 2009م. البداية كانت بطيئة والنهاية أيضاً، وما بينهما عصر ذهبي تركَّز بشكل خاص في النصف الأول من القرن العشرين. حين كانت صلة الوصل المنتظمة ما بين لندن في الغرب وإسطنبول في الشرق مروراً بباريس وستراسبورغ ولندن وفيينا وبودابست وبوخارست وغيرها. ومن إسطنبول إلى طرابلس في لبنان في رحلة كانت تدوم أربعة أيام ونصف، وإلى بغداد في مدة ثمانية أيام، وإلى القاهرة في سبعة أيام ومنها إلى الأقصر وأسوان.

وضم المعرض الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس خلال هذا الصيف قاطرة وأربع عربات أصلية عُرضت في باحة مفتوحة فوق سكة حديد. فكان الاطلاع عليها أشبه برحلة عبر الزمن. فكل أريكة أو آنية أو قطعة أثاث أو وريقة لأديب سافر على متنه يفوح منها عبق الترف الذي ميَّز ذلك العصر.

وكل ما في هذه العربات من أدوات خاصة ببعض الكتَّاب إلى ديكوره العام، مستقىً من ثقافات متعددة، وكأن الخيال فرض على مصممه رينيه بيرو أن يخلق تمازجاً بين غرب مسترسل في ثقافة الترف الممزوج بالحداثة والنهضة الصناعية، تدل عليها المفروشات الفرنسية والستائر المخملية المحاكة في جنوة الإيطالية والآنية البلورية التي صاغتها أنامل رنيه لاليك الشهير.. وبين شرق يستقي ثقافته من الأصالة والعمق الروحي، وينفتح في الوقت نفسه على ثقافات الآخرين، ويتمثل في أسقف العربات المغطاة بالجلود المزيَّنة بزخارف قرطبية، والآنية الفضية المستقدمة من فنون الصياغة العثمانية.

وإضافة إلى العربات والقاطرة، شغلت المعروضات الأخرى 800 متر مربع داخلي، توزعت على دورين، وتضمنت الكتب التي كتبت على متن هذا القطار أو حوله، وملصقات وصور وأدوات مختلفة، إضافة إلى شاشة عرض عملاقة تستعرض مقاطع من أفلام وأشرطة سينمائية تستحضر التراث الأسطوري والأدبي والسينمائي المستوحى من هذا القطار، مثل الفِلم الذي يحكي قصته وصُوِّر في لبنان في محطة رياق من قبل جيل غوتيه وإيريك دارمون.

أضف تعليق

التعليقات

رائد الفلوني

السلام عليكم
اشكركم على هذا الصرح الثقافي الذي يسعى إلى التعريف بالثقافات العالمية. أعجبتني المقالة للدكتورة أسماء الكواري وأود أن آسأل إذا المعرض مازال قائما . المقال بحد ذاته تحفة ثقافية شكرا لكم

سلمى الزيات

صباح الخير . أشكر فريق المجلة علي التنوع في المواضيع والإخراج . ولو سمحتم كيف يمكن الحصول على المجلة . مقال قطار الشرق السريع جميل جدا وأود آن أحييكم على هكذا مواضيع وهكذا أقلام. تحية لكم ولجهودكم.